مقدمة الترجمة
في هذه المادة المبسطة من موقع نيوساينتست، نسافر إلى سبعة ملامح مهمة في مجرة درب التبانة، والتي أدهشت العلماء على مدى عقود وفتحت الباب للمزيد من البحث العلمي للكشف عن الكثير من أسرار هذا الكون التي يبدو أنها لن تنضب أبدا.
نص الترجمة
على مدار العقد الماضي، واصلت المركبات الفضائية سعيها في إرسال تقارير كشفت عن بعض الوجهات المذهلة داخل نظامنا الشمسي، وكشفت عن قنوات نهرية شاسعة تشكَّلتْ بفعل الفيضانات القديمة على سطح المريخ. وخلال تلك الفترة، انطلقت المسابير الفضائية عبر الينابيع الساخنة المندلعة من قمر زحل الجليدي “إنسيلادوس”. حتى إننا تمكَنَّا من التحليق فوق جبال بلوتو المتجمدة. ولكن ماذا لو حاولنا توسيع آفاق اكتشافنا إلى أبعد من ذلك بكثير؟
دعونا نتخيل أننا نستطيع التجول عبر مجرة درب التبانة في رحلة فريدة ومميزة لا تشبه أي رحلة سياحية أخرى. ربما تتساءل الآن عن الوجهة التي سنأخذك إليها! حسنًا، ستبدأ رحلتنا بالثقوب السوداء العملاقة والنجوم النابضة الغريبة والعوالم التي تثير في نفوسنا الدهشة لشدة تشابهها مع الأرض، وفضلًا عن المشاهد البديعة التي سنراها، سنكتشف كيف يمكن لهذه الظواهر أن تقدِّم أدلة حول بعض أكبر الألغاز في الكون، بدءًا من كيفية تشكُّل النجوم الأولى، مرورًا بالسبب وراء وجود إشارات راديوية غريبة قادمة من الفضاء الخارجي، وصولًا إلى ما إذا كانت هناك حياة خارج الأرض. هذا التقرير سيكون دليلًا مخصصًّا للسائح الذي يرغب في التجول عبر مجرتنا درب التبانة.
تيار “س1”.. موكب عابر للنجوم المتخمة بالمادة المظلمة
لنبدأ رحلتنا الخيالية بالقفز إلى نهر من النجوم يمر من أمامنا مباشرة ويمتد عبر مجرة درب التبانة بأكملها، ويُطلَق عليه “تيار – س1” (S1). ولكي نفهم هذا التيار جيدًا علينا إعادة النظر في مفاهيمنا للمقاييس والأحجام أولا، لأن طوله وعرضه يُحسبان بآلاف السنين الضوئية. ولتقريب الصورة إلى ذهنك أكثر، يمكنك تخيل أن نظامنا الشمسي -الواقع في منتصف هذا النهر من النجوم- يشبه حبة رمل في نهر الأمازون. وللعثور على مصدر لتجمع هذه النجوم أو تيار س1، علينا أن نعود بالزمن إلى ما يقرب من 9 مليارات سنة، وهي فترة شباب مجرتنا. عندما نتأمل مجرة درب التبانة في ذلك الوقت، سنكتشف أنها كانت محاطة بسرب من “المجرات القزمة” التي تنحني وتدور في مدارات حولها. ولكن ما إن تقترب إحدى هذه المجرات القزمة وتدور في مدار قريب جدًّا من درب التبانة، حتى تقع ضحية لمجرتنا فتلتهمها (فيما يُعرَف بعملية اندماج المجرات*).
لكن على الرغم من سوء حظ هذه المجرة القزمة التي ابتلعتها مجرتنا، فإن نجومها الفردية استمرتْ في التحرك عبر الوسط البَيْنَجمي في مجرة درب التبانة، وهو في الأغلب مساحة فارغة بين النجوم. وحتى يومنا هذا لا يزال هذا التيار الممتد من النجوم باديًا بوضوح ومتميزًا. وفي عام 2017، رصد علماء الفلك باستخدام مركبة الفضاء جايا حوالي 94 نجمًا يتحرك عكس اتجاه حركة مجرة درب التبانة. وللتحقق من افتراضهم، قرروا قياس التركيب الكيميائي لهذه الأجسام الفلكية واكتشفوا أنها تحتوي على مستويات أقل من العناصر الثقيلة، مثل الحديد، مقارنة بنجوم درب التبانة الأصلية. كان الدليل إذن واضحًا ولا يمكن إنكاره: تيار س1 هو بقايا مجرة قزمة قديمة انفصلت عن مجرتها الأصلية.
والآن لننتقل إلى أحد أكبر ألغاز الفيزياء وهو المادة المظلمة. من المغري للباحثين التفكير في أن السفر عبر تيار س1 قد يمنحهم فرصة لحل هذا اللغز المحيّر. فمنذ عقود، افترض العلماء وجود المادة المظلمة اعتمادًا على ملاحظاتهم عن حركة المجرات التي كانت تتحرك بسرعة أكبر مما ينبغي، وهو ما دفعهم إلى استنتاج أن هذه المجرات تحوي بين طياتها مزيدا من المادة المظلمة، حتى وإن لم تتفاعل مع الضوء. ومع ذلك، تشير قياسات مماثلة لحركة النجوم إلى أن المجرات القزمة غنية بالمادة المظلمة على نحو استثنائي، وهو ما دفعهم إلى افتراض أن تيار س1 هو في الأساس نهر من المادة المظلمة التي تتصادم مباشرة مع نظامنا الشمسي. ولكن على الرغم من أن الدراسات تشير إلى أن استخدام أفضل أجهزتنا سيزيد من فرصتنا في تحديد المادة المظلمة إذا كانت على شكل جسيمات تُسمى “الأكسيونات” (وهي جسيمات افتراضية خفيفة الوزن ومرشحة بقوة لدى الفيزيائيين لتفسير المادة المظلمة*)، فالحقيقة أننا نستطيع فعل ذلك أيضًا من سطح الأرض.
بروكسيما سنتوري بي ..شبيه الأرض
اكتشف العلماء حتى الآن أكثر من 5000 كوكب خارج مجموعتنا الشمسية يدور حول نجوم أخرى في مجرتنا درب التبانة. ومع ذلك، لا تزال هناك مئات المليارات من العوالم الأخرى التي لم نسبر أغوارها بعد في مجرتنا. إذا سنحت لنا الفرصة وكنا قادرين على زيارة أي من الكواكب الخارجية، سنرغب بالتأكيد في اختيار كوكب يملك فرصة جيدة لإيواء حياة على سطحه، لأننا ببساطة لا نعلم ما إذا كانت الحياة يمكن أن تنشأ في ظروف تتجاوز تلك الموجودة على الأرض، ولا نعرف حتى ماهية البيئات التي يمكن أن تتشكل خلال هذه الأنظمة الكوكبية. لهذا سيكون خيارنا الأكثر أمانا هو كوكب يشبه إلى حد ما كوكبنا.
خلال العام الماضي، اكتشف تلسكوب جيمس ويب الفضائي (JWST) آثارا مثيرة للاهتمام لثاني أكسيد الكربون والميثان وبخار الماء في الغلاف الجوي لكواكب خارجية بعيدة. ومع ذلك، فالكوكب الذي سنختار الحديث عنه هو كوكب يشبه الأرض يعرف باسم “القنطور الأقرب ب”، ويدور حول أقرب نجم للشمس. صحيح أننا ما زلنا نجهل الظروف التي تسود سطح هذا العالم، لكننا على الأقل نعلم أن النجم الأم لهذا الكوكب هو قزم أحمر تبلغ كتلته ثُمن كتلة الشمس فقط، كما أنه ينتج كمية ضوء أقل من الشمس بنحو 1000 مرة؛ مما يجعله أقل سطوعًا. ويُعد الكوكب محظوظا جدًّا لأنه لو كان يدور حول نجم مشابه للشمس لاحترق تمامًا، غير أن الظروف المحيطة به ترشحه ليصبح كوكبا صالحًا لإيواء حياة على سطحه.
تقترب درجة حرارة التوازن الطبيعي لكوكب “القنطور الأقرب ب” من -39 درجة مئوية، وذلك بناءً على الطاقة التي يتلقاها الكوكب من النجم المحيط به (وهو قزم أحمر بارد نسبيا). ومع ذلك، إذا كان الكوكب يتمتع بغلاف جوي مناسب، فإن ظاهرة الاحتباس الحراري يمكن أن تجعل درجة حرارته ألطف وتزيد من الظروف المواتية للحياة. إذا تأملنا غلافه الجوي عن كثب واعتمدنا في افتراضنا على تركيبة الهواء التي يتمتع بها، فسيكون أمامنا في هذه الحالة عدة خيارات بدءًا من أن القنطور الأقرب ب قد يكون كوكبا محاطا بمحيط دافئ، وصولًا إلى احتمال كونه كرة مجمدة من الجليد.
أما إذا كنت تتساءل عن قوة الغلاف الجوي في تغيير ظروف الكواكب، فإن درجة حرارة توازن الأرض تبلغ حوالي -20 درجة مئوية ( أي -1 درجة فهرنهايت)، وهي درجة حرارة مثالية لاستمرار الحياة، وذلك بفضل الغازات التي تغطي الكوكب على الأقل في الوقت الحالي. فنظرة خاطفة على السحب أو المحيطات قد تشير إلى إمكانية وجود حياة تحت سطح هذا العالم الغريب. ولكن حتى لو كان الكوكب قاحلا ولا يحتضن أي حياة على سطحه، فيمكنني على الأقل أن أضمن لك رؤية أروع مشهد لغروب الشمس على الإطلاق في مجرة درب التبانة.
يدور كوكب بروكسيما سنتوري بي حول نجمه الأم كل 11 يومًا، ومن سماته أنه مُغلَق مداريًّا (والانغلاق المداري هو بقاء جرم سماوي مواجها لجسم آخر أثناء دورانه حوله*). وكما هو الحال مع القمر حين يواجه الأرض بوجه واحد طوال الوقت تقريبًا، فإن جزءًا من هذا الكوكب يواجه نجمه الأم دائمًا ولا يواجه الفضاء الخارجي، والعكس مع الجانب الآخر. لذا سنجد أن أحد جانبي الكوكب يعيش نهارًا دائمًا في حين يقبع الجانب الآخر في ليلٍ أبدي. وبين الجانبين يوجد شريط الشفق، وهو حد فاصل بين الوجه المضيء والوجه المظلم للكوكب ويعرف باسم “خط الغَلَس” (والغَلَس هو ظُلْمة آخر الليل إِذا اختلطت بضوء الصباح*). خلال هذا الحد الفاصل، تهُّب الرياح العاتية من المناطق الشديدة الحرارة إلى المناطق القارسة البرودة. وإذا كنا قادرين على تحمل هذه الظروف، فسيبدو أمامنا مشهد غاية في الغرابة قادر على أن يثير في نفوسنا الدهشة، إذ سنشهد غروب الشمس وهو مُعلَّق دائمًا في السماء.
منكب الجوزاء
أما وجهتنا التالية فستكون نحو نجم ضخم، يزداد انتفاخه بسبب تقدمه في العمر وتزيد درجة سطوعه على درجة سطوع شمسنا بنحو 100 ألف ضعف. ربما شاهد الكثير منا هذا النجم في وقت ما وهو متوهج باللون الأحمر الداكن في سماء الشتاء الباردة. يقع هذا النجم في إحدى نقاط تقاطع كوكبة الجبار (ألمع كوكبات سماء الليل*)، ويكون غير مستقر بتاتا لدرجة مثيرة للاهتمام، وهو ما يوحي بأنه سينفجر على هيئة مستعر أعظم في أي لحظة (والمستعر الأعظم هو حدث فلكي خلال المراحل التطورية الأخيرة لحياة نجم ضخم، إذ يختبر انفجارا هائلا يقذف فيه النجم بغلافه في الفضاء عند نهاية عمره*).
هذا النجم العملاق المعروف باسم منكب الجوزاء (Betelgeuse)، يُعتبر من أكبر النجوم في الكون، إذ تصل ضخامته إلى الحد الذي قد يتسع فيه لمئات الملايين من النجوم بحجم شمسنا. ولو كان هذا النجم في مركز نظامنا الشمسي لابتلع عطارد والزهرة والأرض والمريخ، واقترب من التهام المشتري أيضًا. يعود حجمه الهائل جزئيًّا إلى أنه وُلد بحجم كبير، لكن السبب الرئيسي هو أنه وصل إلى المراحل النهائية من حياته وتمدد ليصبح عملاقًا أحمر. وبعد نفاد الهيدروجين الموجود في منكب الجوزاء (الذي يعتبر وقودًا للتفاعلات النووية في شمسنا)، يبدأ كوكب الجوزاء في حرق الهيليوم، ويُحرر طاقة أكبر بكثير مما يحرره اندماج أنوية الهيدروجين؛ مما يسبب تمدد النجم وانتفاخه من الداخل.
على الجانب الآخر، نجد أن الوضع الحالي لمنكب الجوزاء يوحي بأن نهاية النجم قد اقتربت، إذ توجد في العادة كمية محدودة من الهيليوم لدعم النجم بضعة ملايين من السنين فقط. وما إن ينفد حتى يبدأ النجم في حرق العناصر الأثقل الباقية على نحو متسارع ومحموم من خلال أي عناصر أثقل، مثلما يفعل قبطان سفينة يائس وهو يخلع ألواح الأرضية لإشعال الفرن. وكذلك، يمكن للنجم أن يحرق الكربون مئات السنين، ثم الأكسجين ستة أشهر، وفي اليوم الأخير سيحرق السيليكون ليتحول إلى الحديد قبل أن يتوقف الاندماج النووي نهائيًّا.
عند تلك النقطة، ينهار وزن النجم إلى الداخل تحت تأثير الجاذبية. بمعنى أن قوة الجاذبية تبدأ سحب المادة الخارجية للنجم نحو مركزه، فيصبح هذا التراكم الضخم من المادة مَركزًا للجاذبية؛ مما يؤدي إلى انهيار النجم نحو داخله بسرعة هائلة تكاد تصل إلى سرعة الضوء. وعندما تصل المادة الخارجية إلى المركز، تصطدم بشدة بنواة النجم الكثيفة؛ مما يسبب ارتداد المادة مرة أخرى بوصفها موجة صدمية تفوق في سطوعها مليارات النجوم، وهو ما يُعرَف بظاهرة “المستعر الأعظم”.
لسنوات طويلة، ظل علماء الفلك يراقبون عن كثب منكب الجوزاء، على أمل معرفة مدى تقدمه في هذا المسار، وكم من الوقت سيستغرق حتى يصل إلى نهايته. وفي وقت سابق من هذا العام، استخدم علماء الفلك البرامج الحاسوبية والنماذج الرياضية لفهم كيفية تذبذب منكب الجوزاء بين سطوعه وخفوته على مر الزمن. ومن هذا المنطلق، استنتج العلماء أن النجم حاليا في مراحل متأخرة من احتراق الكربون، مما يعني أن الانفجار سيحدث خلال قرون، في حين يرى علماء فلك آخرون أن هذا الخفوت ناجم عن وجود سحب من المواد الغبارية التي يقذفها النجم المحتضر حوله فتحجب سطوعه. وفي هذه الحالة، قد يكون أمام منكب الجوزاء مئات الآلاف من السنين قبل أن ينفجر.
سيخبرنا التحليق بالقرب من هذا النجم عما سيحدث بالفعل. قد نحجز لأنفسنا مقعدًا في الصف الأمامي لأحد أروع عروض الألعاب النارية في الكون. ستبدو أمامنا دفقات من الألوان تتدحرج من طبقات النجم الخارجية تحضيرًا للعرض النهائي. ومع ذلك، لا بد من التأكد من تحديث تأمين سفرك، لأن انفجارات السوبرنوفا عنيفة للغاية. حتى وإن كنا نراقب النجم ونحن على الأرض، فسيخلِّف مشهد انفجاره سطوعا يعادل سطوع البدر في تمامه أسابيع متتالية.
إشارات كونية مجهولة من الفضاء السحيق
لطالما أثارت “النبضات الراديوية السريعة” (Fast Radio Bursts) دهشة علماء الفلك وجعلتهم في حيرة من أمرهم. ومن خلال بيانات أرشيفية من تلسكوب في أستراليا، اكتشف العلماء عام 2007 نبضة سريعة غير عادية من الأمواج الراديوية، أقصر بعشر مرات من صاعقة البرق. أظهرت الإشارة علامات عن رحلة طويلة أيضًا، وتشير الطريقة التي انتشرت بها ترددات الموجات الكهرومغناطيسية إلى أن هذه النبضات أو “التدفقات الراديوية السريعة” قد سافرت مسافة تزيد على 3 مليارات سنة ضوئية قبل أن تصل إلى الأرض.
نتيجة لذلك، سعى علماء الفلك مفتونين بهذه الأحداث الغامضة لاكتشاف المزيد. ومن خلال البحث في سجلات التلسكوبات الراديوية القديمة، وبالنظر إلى المكان المناسب في الوقت المناسب، اكتشفوا العشرات من الإشارات الجديدة. ومع ذلك، لم يتمكن أحد من فهم مصدرها أو سببها. وفي عام 2012، رصد العلماء نبضة واحدة تكررت 10 مرات في غضون شهرين قبل أن تدلف إلى الصمت. ثم في عام 2018، سجلوا 21 نبضة في ساعة واحدة. بيدَ أن بعض نبضات الراديو السريعة تظهر مرة واحدة ثم تختفي. وأغلب الظن أن جميع النبضات الراديوية السريعة تأتي من أعماق الفضاء السحيق، بعيدًا عن مجرتنا درب التبانة، وهو ما يجعل دراستها أمرًا بالغ الصعوبة. ومع ذلك، في عام 2020، اكتشف علماء الفلك لأول مرة نبضة راديو سريعة داخل مجرتنا، وما أثار الانتباه حقًّا هو المصدر الذي انبعثت منه، فقد كان مصدرها النجم المغناطيسي المعروف باسم “إس جي آر 1935+2154″، وهو المحطة التالية في جولتنا.
لا يزال علماء الفلك يحاولون فهم الظواهر المعقدة والغامضة المتعلِّقة بالنجوم المغناطيسية. تبدأ هذه الأجسام الفلكية الغريبة والمتطرفة بوصفها بقايا لانفجارات النجوم العملاقة، فعندما ينهار نجم عملاق ويتحول إلى مستعر أعظم أو سوبرنوفا، يبدأ سحق الجزيئات معًا لتشكيل كرة شديدة الكثافة بقطر صغير يبلغ بضعة كيلومترات فقط، ويُسمى “النجم النيوتروني”. ومن المهم أن ندرك أن هذه الأجسام كثيفة للغاية لدرجة أن ملعقة صغيرة من مادة النجم النيوتروني تزن حوالي 10 ملايين طن.
تتحول النجوم النيوترونية إلى نجوم مغناطيسية عندما يتمكن باطنها بطريقة أو بأخرى من إثارة أقوى المجالات المغناطيسية في الكون، التي قد تتخطى قوتها المجال المغناطيسي للأرض بنحو مليون مليار ضعف (والمجال المغناطيسي هو المنطقة المحيطة بالكوكب التي قد تتمتع بشدة وشكل كافيين لإبعاد الجسيمات المشحونة السريعة عن المناطق الداخلية للكوكب*). لذا يجب على السائحين أن يتوخوا الحذر لأنهم حتى لو كانوا على بعد ألف كيلومتر من النجم المغناطيسي “إس جي آر 1935+2154″، فإن قوته المغناطيسية الهائلة ستسحق ذراتهم وتحوّلها إلى ضباب ناعم أو رذاذ خفيف. لكن إذا تسنّت لنا مراقبته من مسافة آمنة، فسنتمكن من مشاهدة أنماط غريبة وبراقة من الضوء تتلألأ عبر سطح النجم المغناطيسي.
يشوه النجم المغناطيسي الزمكان حوله (وهو دمج لمفهومي الزمان والمكان)* بحيث ينكسر الضوء الذي ينتقل بالقرب منه نتيجة لتأثير الجاذبية الشديدة للمجال المغناطيسي للنجم. يمكن لهذا التأثير أن يجعل الضوء ينحني ويتجمع في مسارات متعددة؛ مما يوجِد مشهدًا يشبه “قاعة كونية كبيرة من المرايا” ينعكس من خلالها الضوء انعكاسا متكررًا. قد تساعدنا نظرة أقرب على فهم كيف يمكن للنجوم المغناطيسية إنتاج نبضات راديوية سريعة. في يناير/كانون الثاني الماضي، اكتشف العلماء أن الدوران العنيف للنجم المغناطيسي “إس جي آر1935+2154” بدأ يهدأ فجأة فيما يُعرف بانقطاع الدوران، وذلك قبل أن يطلق ثلاث نبضات راديو جديدة. يشير أحد الافتراضات إلى أن رياح الجسيمات المشحونة تتدفق من القطبين الشمالي والجنوبي للنجم المغناطيسي، وتصطدم بالمجالات المغناطيسية وتطلق الانبعاثات الراديوية، لكن نظرية أخرى تفترض أن النبضات الراديوية السريعة تنشأ نتيجة لاهتزازات ضخمة في قشرة النجم المغناطيسي وتُسمى هذه الاهتزازات “بالزلازل النجمية”(Starquakes). فإذا كنا محظوظين جدًّا فيما يتعلق بالتوقيت فربما نتمكن من رؤية ذلك بأنفسنا.
التأمل في ثقب أسود وحشي
لن تكتمل أي جولة في المجرة دون زيارة الثقب الأسود العملاق في قلب مجرتنا درب التبانة، حيث نضمن لك عرضًا ضوئيًّا ساحرًا، وربما نتمكن حتى من رصد بعض المؤشرات الهامة والحاسمة حول الطبيعة الحقيقية للزمكان. منذ ما يقرب من قرن من الزمان، التقط الفيزيائي ومهندس الراديو الأميركي كارل جانسكي المؤشرات الأولى لثقب أسود يقع في مركز مجرتنا بمنطقة تُعرَف بـ”الرامي أ*” (*Sagittarius A)، وهي عبارة عن منطقة لامعة ومصدر راديوي قوي للغاية. اكتشف جانسكي أدلة على وجود هذا الثقب الأسود أثناء تحقيقه في التشويش الذي كان يؤثر في الاتصالات اللاسلكية في ذلك الحين.
وفي عام 1998، أكد علماء الفلك بما لا يدع مجالًا للشك أن مجرتنا تحوي في مركزها ثقبا أسود عملاقا. ومن خلال المراقبة الدقيقة لكيفية دوران النجوم حول مركز المجرة، أثبتوا وجود جسم تزيد كتلته على كتلة شمسنا بـ4 ملايين ضعف. أظهرت صور التلسكوب حينذاك نجومًا مُحاصَرة في مدار وتتحرك حول موضع يبدو في الواقع فارغًا تمامًّا. وفي العام الماضي، تمكَّن علماء الفلك من التقاط صورة لهذا الثقب الأسود من خلال مشروع تلسكوب أُفق الحدث “Event Horizon Telescope”، وهو مشروع تعاون دولي يهدف إلى إنشاء منظومة كبيرة من التلسكوبات وربطها معًا في مختلف أنحاء العالم لتعمل بوصفها أجزاء من تلسكوب واحد لتكوين صورة واحدة كبيرة؛ مما يعطي التلسكوب حجمًا يقارب حجم كوكب الأرض وهو ما يسمح له بالتقاط صور فائقة الدقة والوضوح للأجسام الفلكية مثل الثقوب السوداء.
تصدرت صورة الحلقة البرتقالية الغامضة، عناوين الأخبار في جميع أنحاء العالم، إذ كشفت عن القرص التراكمي أو ما يُعرف بالقرص المُزوِّد (Accretion disc)، وهو حلقة من الغاز والغبار الكوني تدور حول الثقب الأسود؛ ولهذا يُعتقد أنها محكوم عليها بالزوال أو الفناء، وتتمتع هذه الحلقة بقطر أصغر حتى من مدار كوكب عطارد (مما يظهر أن الحلقة تكونت على نحوٍ مُحكم وضيق حول الثقب الأسود). يتمتع التلسكوب الذي استُخدم لالتقاط صورة الثقب الأسود بأعلى دقة حققها علماء الفلك على الإطلاق، لدرجة أن مراقبة منطقة “الرامي أ*” التي تضم الثقب الأسود تشبه قراءة الحروف الموجودة على العملة المعدنية في نيويورك باستخدام أحد التلسكوبات في لندن. ومع ذلك، لا تزال هناك بعض الأسئلة التي لن يتمكن الفيزيائيون من الإجابة عنها إلا من خلال إلقاء نظرة فاحصة على الثقب الأسود.
لطالما كانت البيئات المتطرفة داخل الثقوب السوداء وحولها وسيلة مثالية للباحثين والعلماء النظريين لاختبار فهمنا للفيزياء الأساسية، فنحن حاليا نمتلك نظريتين متناقضتين تشرحان كيفية عمل الكون. النظرية الأولى هي النسبية العامة وتعمل على مقاييس كبيرة وكتل كبيرة وتصف تأثيرات الجاذبية في الكون، في حين تهتم النظرية الثانية -وهي ميكانيكا الكم- بالأشياء الصغيرة جدًّا. وعندما تحاول توحيد هاتين النظريتين، فأنت بحاجة إلى شيء ثقيل للغاية وصغير جدًّا في الوقت نفسه، ولن تجد أفضل من الثقب الأسود لمساعدتك على ذلك.
تُسمى حافة الثقب الأسود، التي لا يمكن للضوء أن يفلت منها بـ”أفق الحدث” (event horizon)، وتوفر التجارب الدقيقة التي تراقب كيفية تسارع المادة عند هذه الحافة الكونية أدلة على مختلف نظريات الجاذبية الكمومية، التي تشير كل منها إلى أن الزمكان يمكن تقسيمه إلى حزم كمية صغيرة بطرق مختلفة. إضافة إلى ذلك، يمكننا من خلال دراسة القرص التراكمي الذي يدور حول الثقب الأسود أن نتعلم الكثير عن سلوك هذا الأخير. فعندما يتدفق الغاز نحو الداخل، يمكن أن يثير نافورات من الإشعاع نحو الأعلى أو يلفظها باتجاه الخارج بسرعة تقارب سرعة الضوء. ولكن نظرًا إلى أن نوى الثقوب السوداء عادة ما تُغطى بالغبار، فحصيلتنا المعرفية عن كيفية حدوث ذلك تكاد تكون منعدمة.
وبغض النظر عما قد نتعلمه، فستظل لدينا فرصة مشاهدة عرض ضوئي ساحر. فأي شيء يعبر أفق الحدث يبتلعه الثقب الأسود على الفور، لكن خارج هذا المحيط مباشرةً، يتسبب الانحناء الشديد للزمكان في جذب الضوء إلى دوائر لا نهائية. بمعنى أن الضوء القادم من جميع النجوم في مجرة درب التبانة وخارجها يقع أسيرًا في قبضة منطقة تُسمى فلك الفوتونات أو الكُرة الفوتونية (Photon Sphere)، هذه فرصتنا إذن لرؤية فيلم كوني متواصل بلا نهاية حقًّا.
كوكب الماس
متى يكون الكوكب غير حقيقي؟ تكمن إجابة هذا اللغز على بعد حوالي 4000 سنة ضوئية من الأرض. في مركز أحد أغرب الأنظمة الشمسية التي نعرفها، يوجد نظام نجمي نيوتروني يدور بسرعة كبيرة ويعرف بالنجم النابض (والنجوم النابضة Pulsars عبارة عن أجسام بيضاوية مكتنزة يقدر حجمها بحجم مدينة كبيرة وتبدو نجوما ذات وميض متقطع، تومض ثم تنطفئ مرارا وتكرارا، وكأنها تغمز في إيقاع منتظم*)، وتنبعث منها أشعة قوية للغاية تشبه شعاع الضوء الذي ينبعث من منارة ويتحرك في اتجاه محدد. يدور حول هذا النجم كوكب غامض يعرف باسم “PSR J1719-1438 b”، كان في الأصل نجمًا.
في السياق ذاته، تمكن علماء الفلك من حساب كثافة هذا الكوكب من خلال مراقبة حركته الغريبة حول نجمه النابض، واكتشفوا أن هذا الكوكب لا بد أن يكون كوكبا موغلا في الكثافة إلى حدّ أن كثافته تزيد على كثافة كوكبنا بأربعة أضعاف، مع العلم بأن كوكبنا يُعتبر أشد كواكب نظامنا الشمسي كثافة. والطريقة الوحيدة لتفسير ذلك هي أن هذا الكوكب يتكون في الغالب من الكربون البلوري. بعبارة أخرى، ما لدينا هنا هو عالم ماسي عملاق. ويشتبه علماء الفلك في أن هذا الكوكب الغريب تكوَّن أصلًا عن طريق تجريد أحد النجوم، وعملية التجريد هذه تحدث حينما تنتهي حياة النجوم الصغيرة مثل الشمس على هيئة كرات مدمجة من الكربون والأكسجين تُسمى الأقزام البيضاء. في هذه الحالة يفترض العلماء أن أشعة النجم النابض قشرت الطبقات الخارجية لهذه البقايا النجمية، تاركة النواة البلورية تلمع في فراغ الفضاء.
والآن، قد يكون سطح هذا الكوكب الغريب مُغطى بالغبار الواقع بين النجوم ومتفحمًا بإشعاع النجم النابض؛ مما قد يجعل سطحه مظلمًا. والطريقة الوحيدة التي قد تساعدنا على التأكد من ذلك هي الذهاب إلى هناك. وقد نكتشف أيضًا أن كوكب ” بي إس آر جي 1719-1438 ب” ليس كوكبًا ماسيًّا على الإطلاق، بل كتلة من مادة الكوارك الغريبة (والكوارك هو جسيم أولي وأحد المكونين الأساسيين للمادة في نظرية النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات*). يمكن أن تحدث هذه المرحلة الغريبة من المادة عندما تُجبر الجسيمات على التقارب بدرجة أقرب حتى من الجسيمات الموجودة في النجم النيوتروني. ورغم ذلك، لا يزال الخليط الأساسي للكواركات الناتج عن هذه العملية نظرية افتراضية، غير أن بعض المنظرين في اعتقادهم أنه يتحرك كسائل بدون لزوجة.
المجرة القزمة..كبسولة زمنية من الماضي السحيق
تظهر مجرة “النحات القزمة” (Sculptor Dwarf Galaxy) على شكل غيمة رقيقة من الغبار الكوني على أطراف مجرة درب التبانة لتأخذنا إلى المحطة الأبعد والنهائية في جولتنا. وعلى الرغم من أن الرحلة ستستغرق نحو 300 ألف سنة ضوئية، فإنها تستحق العناء لأن جارتنا المجرية تُعتبر كبسولة زمنية من الماضي السحيق. كان الكون قبل 13.5 مليار سنة -أي بعد الانفجار العظيم- باهتًا، وخاليًا من الملامح، ولا يحمل أي مصدر للضوء. وتُعرف هذه الفترة بـ”العصور المظلمة” التي استمرت مئات الملايين من السنين إلى أن تشكلت النجوم الأولى من الغاز البدائي.
تختلف النجوم التي كانت موجودة في تلك الحقبة الزمنية والتي تُدعى جمهرة النجوم الثالثة (Population III stars) كثيرًا عن تلك الموجودة في مجرتنا اليوم (وجمهرة النجوم هو مصطلح يشير إلى مجموعة من النجوم داخل المجرة تتشابه في التوزيع المكاني، والتركيب الكيميائي، ولها نفس العمر، وتستخدم باعتبارها طريقة لكشف أحداث الماضي في مجرتنا*). منذ العصور المُظلمة، عاش ومات العديد من أجيال النجوم، وتشكَّلت العناصر الأثقل مثل الأكسجين والكربون والحديد في نوى النجوم الأكبر لتصبح جزءًا من الأجيال التالية، وهو ما أدى إلى تغيير كيميائها وخصائصها إلى الأبد. ومع ذلك، لم تنطوِ النجوم الأولى على أي من هذه الملوثات، بل كانت نقية ومصنوعة من العناصر التي ظهرت في اللحظات التي تلت الانفجار العظيم، على غرار الهيدروجين والهيليوم وقليل من الليثيوم، وهو ما جعلها أكبر من النجوم الموجودة في مجرتنا اليوم وأشد سخونة منها.
تؤدي جمهرة النجوم الثالثة دورًا حاسمًا في تطور الكون، ويمكن أن يكشف حجمها ووفرتها عن أدلة حول كيفية تشكل المجرات الأولى في الكون. لذلك يرغب علماء الفلك في العثور عليها، ولحسن الحظ تمكن تلسكوب جيمس ويب الفضائي من اكتشاف أدلة تشير إلى وجودها. لكن عملية البحث في ذلك الزمن البعيد من تاريخ الكون تتطلب النظر إلى مسافات بعيدة للغاية، وهو ما ستتمخض عنه صور منخفضة الدقة وربما لن يكون من السهل استخلاص المعلومات الدقيقة منها.
وهنا تبرز أهمية مجرة النحات القزمة في فهم النجوم الأولى في الكون، فمعظم نجومها التي تتميز باحتراقها البطيء تعود إلى فترات مبكرة للغاية وقد يصل عمرها إلى 12 مليار سنة، وهو عمر ليس بعيدًا عن عمر النجوم الأولى، وهو ما يزيد من احتمال كونها مبعوثة من الكون المبكر. وفي عام 2021، اكتشف علماء الفلك نجمًا معينًا، يُدعى “AS0039″، يفتقر بشدة إلى العناصر الثقيلة، بحيث يبدو أنه نجم ينحدر مباشر من مجموعة النجوم المبكرة في الكون التي تُدعى “جمهرة النجوم الثالثة. تشكل هذا النجم في الأغلب من مادة تشكلت من بقايا نجم مبكر بعد موته. لهذا لو قررنا الاستعانة بتلسكوب جيد ودراسة النجم “AS0039” عن كثب، فسيساعدنا ذلك على فهم هذه الأفران الكونية المبكرة. وفي نهاية المطاف، يمكن اعتبار مجرة النحات القزمة هي المكان المثالي لاختتام جولتنا. لأنه حتى بالعين المجردة، ستحظى بمشهد فريد للهيكل الحلزوني الكبير للمجرة وهي متناثرة في السماء. وفي حالة رغبنا في التقاط الصور أثناء الإجازة، فلن تجد مكانا أفضل من هذا للاستمتاع بالمشهد.
______________________
* إضافات من المترجم
هذه المادة مترجمة عن موقع نيوساينتست، ولا تعبر عن الجزيرة نت بالضرورة