يستقبل البريد الإلكتروني للدكتور ماهر القاضي، الأستاذ المساعد في قسم الكيمياء والكيمياء الحيوية بجامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس الأميركية، رسائل شبه يومية تدعوه للتسجيل في مؤتمرات بمجال التخصص، لكنه أصبح من الخبرة بحيث يستطيع تجنب الوهمي منها.
والمؤتمر الوهمي، والذي يحلو للبعض تسميته بـ”المؤتمر الاستغلالي”، لا تنظمه الجمعيات العلمية، بل تنظمه شركات مدرة للدخل، لذلك فإن غرضها استغلالي، وليس تعليميا، حيث تسعى للاستفادة ماليا من احتياجات الباحثين لتقديم عروض في المؤتمرات ونشر الأوراق البحثية.
ويقول القاضي للجزيرة نت: “تجنب مثل هذه المؤتمرات، إن لم يكن الباحث هو من يذهب إليها متعمدا، بحثا عن وسيلة سريعة للنشر البحثي، سهل للغاية، ويعتمد في البداية على التحقق من الجهة المنظمة للمؤتمر”.
ولا توجد أي شكوك حول مؤتمرات تنظمها جمعيات علمية رصينة مثل الجمعية الكيميائية الأميركية، لكن تلك التي يتم تنظيمها من خلال شركات مجهولة الهوية، يجب أن يتشكك الباحث في جديتها، لا سيما إذ كانت صياغة عنوان المؤتمر غير احترافية.
ويضيف القاضي في تصريحه: “باستثناء مؤتمر دولي عن البطاريات في أميركا، له تاريخ من الرصانة والنزاهة العلمية، فإن أي صياغة لعنوان مؤتمر تبدأ بـ”مؤتمر دولي عن..”، يثير لدي شكوك في جديته ونزاهته العلمية، ودائما ما تكون شكوكي في محلها”.
وبالنسبة لباحث يقيم في الولايات المتحدة الأميركية، فإن فرص الوقوع في فخ المؤتمرات الوهمية، صعبة للغاية، غير أنه ليس مستبعدا، لكن الأمر يبدو أكثر سهولة للشركات المنظمة لمثل هذه المؤتمرات الوهمية في استقطاب باحثين من أفريقيا وأميركا اللاتينية وبعض الدول الآسيوية، كما يذهب القاضي.
ويقول: “في الغرب وأميركا لن يتحمل الباحث تكلفة التسجيل في مؤتمر يدرك أن الأبحاث المنشورة به لن تدخل في التصنيفات العلمية المعتبرة مثل تصنيف “كلاريفت أنلاتكس”، لكن يمكن لباحث “غير مجتهد” من دول العالم الثالث، أن يقبل التسجيل في المؤتمر سعيا للحصول على نقطتين في التقييم الذي يتم إجراؤه من أجل الترقية العلمية”.
ومثل المجلات الوهمية التي تتيح للباحثين سهولة الوصول إلى النشر مقابل رسوم، مع تجاهل ضوابط مثل المراجعة الدقيقة من قبل الأقران أو التحقق من الانتحال، فإن المؤتمرات الوهمية تفعل نفس الشيء بالنسبة للأوراق البحثية التي يتم عرضها.
تجربة مريرة
وفي الآونة الأخيرة، كانت هناك زيادة في ظهور هذه المؤتمرات الوهمية، ولم يعد من الآمن بالنسبة للباحثين الجادين، افتراض أن المؤتمر حقيقي بدون إجراء بحث جيد في خلفية منظميه ورعاته.
وتحدثت بيا لورين، باحثة ما بعد الدكتوراه في البيولوجيا الجزيئية بجامعة الحدود في تشيلي، في تقرير نشره موقع “نيتشر”، عن وقوعها في فخ هذه المؤتمرات تحت ضغط اشتراطات الحصول على منحة علمية.
وبحلول الوقت الذي وصلت فيه لورين إلى المملكة المتحدة قادمة من تشيلي في مارس/آذار 2024، كانت قد حضرت مؤتمرات في أميركا اللاتينية وأوروبا، وكان حضور مؤتمر دولي آخر شرطا للحصول على منحتها.
ولفت انتباه لورين مؤتمر يحمل عنوان “المؤتمر الدولي الـ25 لأمراض الكلى والمسالك البولية والفشل الكلوي”، وذلك لأن موقع المؤتمر على الإنترنت أدرج عدة “متحدثين مشهورين”.
وتقول: “لكن عند وصولي إلى مكان المؤتمر، وهو فندق من 4 نجوم بالقرب من مطار هيثرو في لندن، لم أجد أي لافتات للمؤتمر، وطرقت بابا يحمل لافتة تقول “اجتماع بولسوس”، وهو اسم لم تتعرف عليه لورين، ليخبرني شاب داخل الغرفة، كان يتحدث وهو مرتبك، أن مؤتمر أمراض الكلى يُعقد في القاعة بالتزامن مع أحداث طبية أخرى”.
وفي الداخل كانت هناك 3 صفوف من المكاتب، التي شغلها 21 شخصا على مدار اليوم، وكانت أول محاضرتين حضوريتين حول أمراض العيون، أما المحاضرات التالية فتناولت سمية الأدوية وطب الأسنان والمضادات الحيوية، ومع مرور اليوم، أصبحت لورين والحاضرون الآخرون في حيرة متزايدة، حيث جاء أحدهم من جامايكا لحضور مؤتمر حول التوليد، ولكن لم يتم تقديم أي محاضرة حول التوليد، وشارك آخرون من دول مثل أوكرانيا وإيران.
ورغم أن المؤتمر كان من المقرر أن يستمر حتى الساعة 5:30 مساء، إلا أنه انتهى فجأة في الساعة 12:30 ظهرا، وسط حالة من الارتباك العام، وغادر الأشخاص الذين كانوا من المفترض أن يقدموا عروضا ملصقية بدون أن يفتحوا ملصقاتهم، بما في ذلك باحثة كانت قد جلبت ملصقها في رحلتين جويتين.
وأدركت لورين، حينها أنها سافرت إلى لندن بدون سبب حقيقي، وقيل لها إن اليوم الثاني من المؤتمر سيُعقد عبر الإنترنت، وستلقي كلمتها (بالإضافة إلى المحاضرات الأخرى حول أمراض الكلى) افتراضيا، لذا، ألقت كلمتها أمام عدد قليل من الأشخاص عبر زوم من منزل صديقة لها خارج لندن، حيث كانت تقيم.
ومثل الحدث الحضوري، كان البرنامج الإلكتروني فوضويا، حيث اختفى مضيف الاجتماع لفترات، وباستثناء محاضرة لورين، لم تكن هناك أي محاضرة تتعلق بأمراض الكلى.
خطأ ساذج
والخطأ الساذج الذي وقعت فيه لورين، كما ترى الدكتور نجوى البدري، الرئيس المؤسس لبرنامج العلوم الطبية الحيوية في جامعة العلوم والتكنولوجيا بمدينة زويل بمصر، هو عدم التحقق في تاريخ الجهة المنظمة للمؤتمر، وإن كانت هناك دورات سابقة منه أو لا.
وتقول البدري للجزيرة نت: “يبدو أن الشركات التي تقوم بتنظيم المؤتمرات الوهمية، أصبحت تدرك أن عنوان “المؤتمر الدولي الأول في…”، غير جاذب ومثير للشك، فبدأت تحتال بالقول: “المؤتمر الدولي الـ25 في…”، وهنا يتعين على أي باحث جاد يبحث عن المشاركة في مؤتمر حقيقي، البحث عما حدث في الماضي، إن كانت هناك أصلا دورات سابقة، وأغلب الظن أنه لن يجد، إذا قام ببحث حقيقي، وإن وجد، فستكون هناك من المبررات الكافية ما تجعله يحجم عن المشاركة”.
ولا ينطبق هذا الكلام على الجمعيات العلمية المرموقة في مجال التخصص، والتي يكون لها مؤتمر دوري محدد سلفا ومعروف للباحثين في مجال التخصص، كما لا ينطبق أيضا على جهات محترمة تقدم دعوة للباحث، مع تحمل جزء كبير من تكلفة السفر والإقامة أو تحملها كاملة.
وتقول: “الشركات التي تنظم مؤتمرات وهمية، تسعى للربح، لذلك لن تقدم على تحمل تكاليف سفر الباحث، لذلك فإن تحمل تكاليف السفر هي أحد العناصر التي تثبت حسن نية الجهة الداعية عند قيام الباحث بالتحقق، لكن ذلك لا يعني تجاهل مراجعة تاريخ الجهة الداعية”.
الوقوع عن عمد
وإذا كانت لورين قد وقعت في خطأ الاستدراج للمؤتمر الوهمي عن غير قصد، فإن بعض الباحثين يذهب متعمدا لهذه المؤتمرات، كما تقول البدري.
وتجيد الشركات المنظمة للمؤتمرات الوهمية استخدام عناصر الجذب للباحثين، الذين قد يشعرون بالإطراء لدعوتهم أو يجذبهم موقع ساحر، حيث تقام المؤتمرات المشكوك فيها غالبا في أماكن سياحية أو قد يحضرون ببساطة لإضافة سطر إلى نشاطهم البحثي خلال العام من أجل الترقي العلمي.
وترى البدري أن السبب الأخير هو المشكلة الأكبر بالنسبة لبعض الباحثين، الذين لا تكون جودة عملهم بالقدر الكافي الذي يسمح بتقديمه في مؤتمرات شرعية، فيتوجه إلى المؤتمر المزيف.
وتعترف دراسة أجراها جيمس مكروستي، الباحث في إدارة الأعمال بجامعة دايتو بونكا في طوكيو باليابان، بوجود هذه الفئة من الباحثين الذين يشاركون عن قصد في مؤتمرات وهمية.
ويقول مكروستي في التقرير الذي نشرته “نيتشر”: “عندما بدأت أبحاثي في هذا الموضوع، افترضت أن معظم الأكاديميين يحضرون المؤتمرات الوهمية التي تنظمها الشركات بدون معرفة، لكن مع الأسف، بعد مواجهة الكثير من الأكاديميين الذين يدعمون هذه الشركات طواعية، يجب أن أستنتج أن معظمهم، ولكن بالتأكيد ليس جميعهم، إما يعرفون أن المؤتمر ليس له قيمة أو يريدون أن يتظاهروا لأنفسهم بأنهم لا يعرفون.
وفي استطلاع نُشر عام 2022، أجرته شبكة الشراكة بين الأكاديميات، التي تضم أكثر من 140 أكاديمية علمية، وشمل أكثر من 1800 باحث في 112 دولة، لم يكن 6% منهم يعرفون ما إذا كانوا قد شاركوا في مؤتمر وهمي، وأفاد 3% أنهم شاركوا في مؤتمر وهمي بدون قصد، و1% شاركوا رغم معرفتهم بأن المؤتمر كان وهميا.
لكن مكروستي يحذر من أن هذا ليس مجرد طريقة غير ضارة لملء السيرة الذاتية، فبشكل عام، يمكن أن تقلل المؤتمرات التي تفتقر إلى الرقابة على الجودة من مصداقية العلم المقدم والمنشور في تلك الفعاليات، وقد يكون لها أيضا تأثير سلبي طويل الأمد، لا سيما على الباحثين في المجال الطبي، حيث تعتبر مواكبة التطورات أمرا بالغ الأهمية لضمان علاج المرضى بشكل متسق.
حلول تنظيمية
ومن واقع تشخيص المشكلة فنحن أمام اتجاهين، أحدهما يمثل الباحثين الذين يتم خداعهم ويقعون بدون قصد في فخ المؤتمرات الوهمية، والآخر يتعلق بمن يشاركون بها عن عمد.
وأي كانت الحال، فإنه يجب العمل على ملاحقة الشركات المنظمة لهذه المؤتمرات قضائيا، كما حدث في بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأميركية، لأنها تقوض مصداقية العلم، كما يطالب الدكتور أحمد عمر مصلح، مدرس الهندسة الميكانيكية بجامعة بنها، وعضو مجلس بحوث تكنولوجيا الصناعة بأكاديمية البحث العلمي المصرية.
ورفعت لجنة التجارة الفدرالية الأميركية في 2016 دعاوى قضائية ضد عدة شركات، مدعية أنها كذبت على الباحثين بشأن مؤتمراتها ومنشوراتها، وفي عام 2019، وجدت محكمة اتحادية أن ادعاءات الشركات بأن تقديمات الأبحاث خضعت لعملية مراجعة الأقران الصارمة ولجان تحرير تتألف من أكاديميين محترمين كانت كاذبة، وأمرت بدفع أكثر من 50 مليون دولار لتسوية الدعاوى.
ويقول مصلح للجزيرة نت: “الهدف من هذه الدعاوى في تقديري هو أن يعرف المجتمع الأكاديمي هذه الشركات حتى يتجنبها، لكن ذلك لن يقضي على المشكلة، لأنه ستظهر شركات أخرى لم تصل أوراقها للقضاء بعد، لذلك فإن الأسلوب المكمل للطريق القضائي، هو إجراءات يقوم بها الباحث، وقرارات تتخذها الجهات الأكاديمية”.
ويوضح مصلح أنه شخصيا لم يقع في الفخ، بسبب إجراءات يقوم بها تعلمها أثناء دراسته للدكتوراه في روسيا، حيث لم تكن الجامعة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا التي درس بها، وجامعة موسكو الحكومية التي عمل بها كباحث ما بعد الدكتوراه، تقبل مشاركة أي باحث في مؤتمر، إلا إذا كان لهذا المؤتمر موقع إلكتروني، ويتم مراجعة “النطاق” الخاص بالموقع للتأكد من أنه حقيقي، كما يجب أن يكون المؤتمر تابعا لجامعة أو جمعية علمية مرموقة أو دار نشر عالمية.
ولمن لا يملك الخبرة الكافية التي تساعده على اتخاذ قرار ينقذه من الفخ، ينصح مصلح بالتوجه إلى موقع “Think Check Attend “، الذي يهدف إلى مساعدة الباحثين في الحكم على شرعية المؤتمرات والمؤهلات الأكاديمية للمؤتمرات لتحديد ما إذا كانت شرعية وتستحق المتابعة أم أنها وهمية.
وفي حال كان الباحث هو من يسعى لهذه المؤتمرات لاستكمال شروط ترقية علمية، فإن الحل في رأي مصلح، هو تعديل في قواعد الترقيات من قبل الجهات الأكاديمية، بحيث تتضمن شروطا للمؤتمرات التي يمكن اعتمادها في ملف الترقيات.
ويرى مصلح أن التطبيق الصارم لهذه الحلول سواء من قبل الباحث أو المؤسسة، يمكن أن يساعد على تنقية المناخ الأكاديمي من المؤتمرات المزيفة، وإعادة الاعتبار للمؤتمرات الأكاديمية كطرق مهمة لاكتساب الخبرة، والتعرف على الأبحاث المتطورة، وعقد الصفقات البحثية مع الآخرين.
ويختم مصلح بالتأكيد على أنه “يجب ألا تثنينا المؤتمرات الوهمية عن المشاركة في المؤتمرات بشكل عام، ولكن من الضروري بشكل متزايد أن نجري بحثنا قبل إرسال رسوم التسجيل، حتى لا نكون مساهمين في تقويض ثقة الجمهور في العلم”.