بوصول قطار حياة شخص ما إلى محطة الصعود في وقت قصير، يكون الانطباع المبدئي أن الطريق كان ممهدا، وأن الرحلة كانت تسير وفق جدول زمني مرتب حتى يستطيع الشخص الوصول إلى مبتغاه.
توقعنا أن تكون رحلة العالم المصري الدكتور محمد ثروت حسن، صاحب ابتكار أسرع مجهر إلكتروني في العالم والذي أصبح حديث الأوساط العلمية خلال الفترة الماضية، بهذه الدرجة من السهولة واليسر، لكنها كما تبين احتوت الكثير من التحديات التي كان يظن وقتها أنها إخفاقات، بيد أنها كانت في الحقيقة إرادة الله التي ترسم له طريقا نحو العالمية، لم يكن ليقطعه إذا تحقق له ما يريد. إذ أراد أن يدخل كلية الهندسة لكنه لم يتمكن لأنه ينقصه نصف درجة في مرحلة الثانوية العامة، فدخل إلى كلية العلوم.
وفي مقابلة خاصة مع الجزيرة نت عبر تطبيق “زوم”، اختصر حسن تفاصيل رحلته بأنه كان “شغوفا بالعلوم والرياضيات في الثانوية العامة، وأصبح شغوفا أثناء دراسته في كلية العلوم بحركة الإلكترون حول النواة والجزيئات والذرة، وهو ما دفعه للتركيز في أثناء دراسة الماجستير والدكتوراه على هذا الموضوع المهم، وصولا لاختراعه الأخير لأسرع مجهر إلكتروني في العالم”.
تحديات وإخفاقات
وخلف هذه القفزات السريعة، التي تختصر الرحلة، الكثير من التحديات والإخفاقات، قد يبدو أن من بينها انتماءه لمحافظة من الأقاليم المصرية وهي محافظة الفيوم (إحدى محافظات شمال الصعيد)، مما فرض عليه وفق قواعد مكتب تنسيق الجامعات الالتحاق بجامعة ليست من بين الجامعات الكبرى في مصر، وهي “جامعة الفيوم”.
يقول بنبرة ملؤها التحدي “صحيح قد تكون الإمكانيات التعليمية في العاصمة أفضل، لكن شغف الطالب بالعلم وطموحه يقهران أي تحد”.
ولا ينكر حسن فضل أساتذته في مرحلة الثانوية العامة الذين لعبوا دورا في تشكيل هذا الشغف ووضع أساس بنائه العلمي، أما الطموح فهو استعداد شخصي جعله قادرا على تجاوز الكثير من الإخفاقات التي أدرك لاحقا أنه من رحمها ولدت قصة النجاح.
يتحدث حسن عن أول الإخفاقات وهي حصوله على مجموع لم يؤهله للالتحاق بإحدى كليات القمة، وهي كلية الهندسة. ويقول “ربما كانت نصف درجة منعتني من دخول كلية الهندسة هي إرادة الله التي وجهت طريقي نحو العالمية، والذي تكلل مؤخرا بابتكار أسرع ميكرسكوب إلكتروني في العالم”.
ويستعيد هذه الأيام ضاحكا “كانت أسرتي تتمنى مثل أي أسرة مصرية متأثرة بالثقافة المجتمعية أن التحق بكلية الهندسة، لكن فصلتني عن هذه الرغبة نصف درجة، فالتحقت برغبتي الثانية وهي كلية العلوم، لكني لم اعتبرها وقتها خطوة للوراء لحبي للعلوم والرياضيات، لذلك فإن نصيحتي للطلاب هي أنه إذا لم توفق بالالتحاق باختيارك الأول، فاجعل اختيارك الثاني قريبا أيضا من شغفك، وهذا ما فعلته”.
ويثني الدكتور حسن على استقبال والدته حينها -التي تولت مسؤولية رعاية الأسرة بعد وفاة الأب- نبأ ضياع حلم الهندسة، ويقول “كانت داعمة لمساري الآخر في كلية العلوم، واليوم تشعر بسعادة بالغة وهي تتابع ما وصلت إليه من نجاح، وأحرص على أن أشرح لها ولغيرها بشكل مبسط ما توصلت له في مجال تصوير حركة الإلكترون، لأني أعتبر النجاح في ذلك شهادة بأني أعي جيدا ما أقوم به”.
وكما كان التوصيف المجتمعي وقتها للتحول من كلية الهندسة إلى العلوم بأنه “إخفاق”، فإن حسن كان على موعد مع إخفاق آخر وهو التراجع في السباق نحو الحصول على المركز الأول في الكلية، ومن ثم التعيين في وظيفة معيد بالكلية.
ويقول ضاحكا “كنت دوما بين العشر الأوائل في سنوات الدراسة، ولم أكن الأول، لذلك لم يحالفني الحظ في التعين بوظيفة معيد، لكن فقداني لهذا الهدف حوّل مساري نحو البحث عن منحة للحصول على الماجستير في علوم الليزر بجامعة القاهرة، ومنها بدأت علاقتي بالليزر، التي تكللت مؤخرا بابتكار أسرع ميكرسكوب إلكتروني، وهو ما لم يكن يتحقق لو عينت معيدا في الجامعة”.
ويخرج الدكتور حسن من هذا التحول بنصيحة أخرى يوجهها للطلاب قائلا “لا تبكي على اللبن المسكوب، فالإخفاق في الوصول لهدف لا يعني الاستسلام، بل لا بد من البحث عن أهداف أخرى يمكن تحقيقها”.
شق الطريق نحو العالمية
كان تحقيق هدف الحصول على الماجستير في الليزر من معهد علوم الليزر بجامعة القاهرة إيذانا ببداية شق طريق نحو العالمية، إذ قاده البحث عن منحة لدراسة الدكتوراه في علوم الليزر إلى الحصول على فرصة في معهد ماكس بلانك بألمانيا، وكان المشروع الذي عمل عليه في الدكتوراه هو تخليق أول ليزر بدقة الأتوثانية، وتم استخدامه للتحكم في حركة الإلكترونات داخل غاز “الكربتون”.
ويقول حسن “التحكم في حركة الإلكترون داخل الغاز كان محاولة لإثبات المفهوم العلمي، لكن بالقطع هناك تحديات كبيرة عند محاولة فعل الشيء نفسه في الحالة الصلبة للمادة، وهذا ما نجحنا فيه مؤخرا في جامعة أريزونا من خلال ابتكار أسرع ميكرسكوب إلكتروني في العالم (ميكرسكوب الأتوثانية)”.
والصورة الغازية هي مجرد جزء واحد، ولا يوجد تحدي احتمال حدوث أي تلف عند استخدام الليزر، لكن الوضع في الحالة الصلبة معقد، ويوجد تحدي حدوث تلف بسبب استخدام الليزر، لذلك فإن نجاحنا مؤخرا في التحكم في حركة الإلكترونات داخل الزجاج يفتح الباب أمام مجال واسع من التطبيقات، وهو بمثابة نقل للفكرة من المعمل إلى التطبيق العملي، كما يؤكد الدكتور حسن.
الانضمام لفريق الدكتور زويل
وما بين الانضمام لمعهد ماكس بلانك وابتكار الميكرسكوب الإلكتروني مرحلة في المنتصف لعبت دورا مهما في حياة الدكتور حسن العلمية، وهي الانضمام لفريق العالم المصري الراحل الدكتور أحمد زويل بمعهد كالتك.
وتعود قصة هذا التحول في حياة حسن إلى أحد أيام الجمعة في شهر يوليو/تموز 2012 عندما تمت دعوته إلى مؤتمر في جنيف بسويسرا لإلقاء محاضرة عن أحد أبحاث الدكتوراه الخاصة به، وكان زويل مدعوا لإلقاء المحاضرة الختامية في هذا المؤتمر، وتقابل معه على هامش هذا المؤتمر، وتحدث معه لمدة تقارب الساعتين في العلم، وفي نهاية اللقاء طلب منه زويل إرسال سيرته الذاتية الخاصة دون أن يعرف حسن السبب، ولكن كانت المفاجأة أن الدكتور زويل رشحه للانضمام لفريقه العلمي، وحدث ذلك بعد نحو عام من لقائهما في المؤتمر بجنيف.
ويرى الدكتور حسن أن أهمية هذه المرحلة تكمن في أنه استطاع من خلالها الدمج بين معرفته بالتحكم في الإلكترون بزمن الأتوثانية وتطبيق ذلك من خلال التصوير باستخدام الميكرسكوب.
ويقول “لم تكن كيفية التصوير واضحة في ذهني، ولكن ما تعلمته في كالتك من خلال وجودي مع فريق الدكتور زويل أكسبني هذه الخلفية العلمية، فقد عملت معه في بناء ميكرسكوب في زمن الفيمتوثانية (مليار مليون من الثانية) الذي تجاوزنا به ميكرسكوب بسرعة النانوثانية (جزء من المليار من الثانية)، ابتكرته مجموعة بحثية في ألمانيا، وقطعت مع فريقي البحثي في جامعة أريزونا، التي انتقلت لها بعد وفاة زويل، خطوة أخرى للأمام عن طريق ميكرسكوب في زمن الأتوثانية (مليار من مليار جزء من الثانية)”.
وبينما سمح ميكرسكوب زويل برؤية حركة الجزيئات، فإن الميكرسكوب، الذي ابتكره حسن وتم الإعلان عن تفاصيله قبل أيام في دورية “ساينس أدفانسيس”، يمكنه رؤية حركة الإلكترونات التي تتحكم في الذرة، والتي هي بدورها تتحكم في حركة الجزيئات، أي أن هذا الميكرسكوب يتيح لمن يستخدمه رؤية بداية الحدث، كما يوضح الدكتور حسن.
آلية عمل الميكرسكوب
وينتج ميكرسكوب “الأتوثانية” نبضات باستخدام أشعة ليزر تحت بنفسجية في زمن الفيمتوثانية، لتتفاعل هذه النبضات مع ليزر الأوتوثانية، وتقسمه إلى عدد كبير من النبضات تكون سرعها نحو 600 أتوثانية، وعندما تسقط هذه النبضات على المادة داخل الميكرسكوب، ولتكن مثل الجرافين، يمكنها رصد حركة الإلكترونات السريعة داخل المادة.
ويقول حسن لتقريب هذا الإنجاز “تخيل قطارا يمر بسرعة فائقة تعجز معها أي كاميرا عن التقاط صورة واضحة له، لكن هذا الميكرسكوب بمثابة كاميرا فائقة السرعة يمكنها التقاط الحركة السريعة”.
وعن ما إذا كان هذا الإنجاز يحمل نفس قيمة إنجاز زويل، والذي كان سببا في منحه جائزة نوبل، يرفض حسن المقارنة، مضيفا “في العلم نحن نبني على ما توصل له السابقون، ومن سيأتي بعدنا سيبني على ما توصلنا له، ومن أسباب سعادتي أن من بدأ القصة عالم مصري، وكان لي شرف أن أكمل بعده”.
ولا يشغل حسن باله بمدى استحقاق هذا العمل جائزة رفيعة، قائلا “لا أذهب إلى العمل يوميا وأنا في نبتي أني سأقوم بعمل يحصل على نوبل، فإذا كانت هذه نيتي فلن أحقق شيئا، لكن نيتي هي القيام بعمل يخدم البشرية، وأعتقد أني نجحت في ذلك، لكن بطبيعة الحال سأكون سعيدا إذا حصلت على الجائزة”.
ويقول الدكتور حسن “من حيث التأثير، فإن اختراعنا سيكون له تأثير كبير في العلم، ولكن تحول ذلك لتطبيقات تظهر حجم تأثيره قد يحتاج لبعض الوقت”.
وعن إنجاز ثلاثي نوبل 2023، يوضح حسن أن “ثلاثي نوبل العام الماضي أنتجوا نبضات الأتوثانية بفوتونات عالية الطاقة، واستخدموها في قياسات طيفية للاستدلال على حركة الإلكترونات، أي أنهم يقيسون التغير الطيفي، وبناء على هذا التغير الذي نجحوا في قياسه يتوقعون أن الإلكترون تحرك مثلا من النقطة (أ) إلى النقطة (د) دون أن يكون لديهم أي تفاصيل عن الطريق الذي سلكه الإلكتروني للوصول للنقطة (د)، لكن ما يفعله الأتوميكرسكوب الجديد أنه يحدد حركة الإلكترونات بالضبط والمسار الذي سارت فيه”.
ويشبّه ذلك بوصف حالة شخص قطع الطريق من منزله إلى عمله، فإنجاز ثلاثي نوبل العام الماضي يقول لك إنه وصل لعمله في نصف ساعة دون أن يحدد لك الطريق الذي سلكه للوصول للعمل، ولكن الأتوميكرسكوب يخبرك بالتفاصيل المكانية، أي يقول لك إنك خرجت الساعة الثامنة ووصلت عملك 8:30، وقطعت الطريق (أ) حتى تسطيع الوصول لعملك.
تطبيقات غير محدودة
والتطبيقات التي يتيحها ميكرسكوب “الأتوثانية” غير محدودة، كما يصفها الدكتور حسن، ويقول “كل شيء في الحياة متعلق بحركة الإلكترونات، ففي الكيمياء مثلا، تقوم التفاعلات الكيميائية على تكوين روابط كيميائية وتفكيك أخرى، والرابطة الكيميائية هي عبارة عن اتحاد إلكترونين، وبالتالي فإن قدرتنا على رؤية الإلكترونات ستساعدنا على التحكم في التفاعل وتكوين روابط جديدة تساعد على إنتاج مركبات جديدة، وهذا سيكون مفيدا في كثير من الصناعات مثل صناعة الأدوية”.
ويضيف أنه “من التطبيقات أيضا ما يتعلق بالتحكم في المواد، فمن خلال التحكم في حركة الإلكترون تستطيع تغيير شكل المواد وإنتاج أخرى جديدة في أطوال النانوميتر، وهذا سيكون مفيدا في صناعة مثل الإلكترونيات، وتستطيع أيضا في المجال البيولوجي استغلال حركة الإلكترون في بعض المواد البيولوجية مثل خطوط “دي إن إيه”، وصناعة إلكترونات بيولوجية مثل منظمات ضربات القلب”.