قبل 4 أعوام تُوفي الدكتور أبو بكر عبد المنعم رمضان، الأستاذ المتفرغ بقسم المواقع والبيئة بهيئة “الرقابة النووية الإشعاعية” في مصر، أثناء حضوره ورشة عمل تنظمها الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول التلوث البحري في المغرب.
وقبل أن يتم إعلان أسباب الوفاة، التي تبين لاحقا أنها جاءت نتيجة أزمة قلبية، استبقت وسائل التواصل الاجتماعي أي تحقيقات، وتم تبني رواية أن هناك مَن يقف خلف اغتيال عالم نووي مصري في المغرب، ليتم وصف الرجل الذي تخرج في كلية الزراعة، والذي كانت أبحاثه ذات طبيعة بيئية، بأوصاف أبعد ما تكون عن قدراته وإنجازاته العلمية.
وتكرر الشيء ذاته قبل أيام، مع وفاة الباحثة المصرية الشابة ريم حامد بفرنسا، ليتم أيضا تحميل الحدث أكثر مما يطيق، وتطفو نظرية المؤامرة على السطح، ليذهب محللو وسائل التواصل إلى أن حامد قد اغتيلت، على الرغم من أنها تعمل في مجال بحثي شائع وهو”البايوتكنولوجي”، وهي تفسيرات على ما يبدو جاءت متأثرة برواية اغتيال العالمة المصرية الشابة سميرة موسى بأميركا في خمسينيات القرن الماضي.
وحملت تلك الرواية الكثير من التفاصيل التي يُجمع خبراء، تحدثوا للجزيرة نت، على أنها خلت من الحقائق، وتكاد تكون الحقيقة الواحدة، مقابل سيل من المبالغات، هو أن سميرة موسى تُوفيت، لكن كل ما يحيط بأسباب الوفاة وملابساتها، بل وحتى مسار الباحثة العلمي، لا يعدو أن يكون “مبالغات” لا أساس لها من الصحة.
مبالغة “أول معيدة”
ووُلدت سميرة موسى في محافظة الغربية (إحدى محافظات دلتا النيل في مصر) في 3 مارس/آذار 1917، وفقدت والدتها وهي طفلة صغيرة بسبب السرطان، وانتقلت بعد وفاة والدتها إلى القاهرة مع والدها، حيث نشأت ودرست في المدرسة الابتدائية والثانوية.
وعلى الرغم من تحقيقها درجات عالية جدا في التعليم الثانوي، كانت تسمح لها بدراسة الهندسة، فإنها أصرت على الانضمام لكلية العلوم بجامعة القاهرة.
وتخرجت بدرجة البكالوريوس عام 1939 مع مرتبة الشرف الأولى، ليؤهلها ذلك للانضمام إلى أعضاء هيئة التدريس في وظيفة معيدة، ليتردد في هذا الإطار عند استعراض سيرتها الذاتية، أنها أول معيدة في تاريخ كلية العلوم بالجامعة، وهذه معلومة خاطئة، كما يصفها د. ماهر القاضي، الأستاذ المساعد في قسم الكيمياء والكيمياء الحيوية بجامعة كاليفورنيا-لوس أنجلوس الأميركية في تصريحات للجزيرة نت.
والقاضي مدرس مساعد سابق في قسم الكيمياء بجامعة القاهرة، وناشط مهم في مجال تتبع تاريخ الجامعة بالاستعانة بمصادر عربية وأجنبية، وهو ما جعله يجزم بأن موسى لم تكن أول معيدة.
وسبق ونشر على صفحته بموقع “فيسبوك” صورة يعود تاريخها إلى 1931، أي قبل 8 سنوات على تخرج موسى في الكلية، وكانت تضم أعضاء هيئة التدريس بقسم الكيمياء، وبينهم الدكتورة زينب كامل حسن، التي تم وصفها في الصورة بأنها أول معيدة في تاريخ كلية العلوم.
وليست هذه هي المبالغة الوحيدة، بل إن المبالغة الأكبر هي تلك التي تتحدث عن أن نجاحها في تحويل عناصر رخيصة مثل النحاس إلى عناصر مشعة، كان من بين الأسباب التي وضعهتا في بؤرة الاهتمام، ودفعت إلى اغتيالها.
ويقول متعجبا “من أين جاؤوا بهذا الكلام الذي لا يوجد له أي أساس علمي، والذي لم يتحقق إلى الآن رغم التطور العلمي الرهيب؟”.
ولا يبخس القاضي العالمة الراحلة حقها في أنها كانت صاحبة اهتمام علمي مبكر بتوظيف الفيزياء النووية في العلاجات الطبية، لكنه أشار في الوقت ذاته، ووفق ما هو منشور من أبحاث، إلى أنها لم تصل إلى اختراقات تجعلها في بؤرة الاهتمام العالمي.
ولا يريد القاضي نفي أو تأكيد اغتيالها، مضيفا أنه “في ظل تصاعد الصراع العربي الإسرائيلي في فترة الخمسينيات، قد يكون التخوف المبالغ فيه من عمل مصرية في الأبحاث النووية، قد دفع إلى اغتيالها، لكن لا توجد حقائق دامغة تؤكد هذا الاغتيال، كما أن إنتاجها العلمي لا يحمل اختراقات توجد مبررا للقيام بذلك”.
صناعة صورة نمطية
ولا يرى عالم الفيزياء النووية والمستشار العلمي بشركة “هاليبرتون” علي عبده، هو الآخر، أي اختراقات لافتة في الإنتاج العلمي للدكتورة سميرة موسى، مشيرا إلى أن ظروف وفاتها الغامضة فتحت الباب لسيل من المبالغات، وهو نفسه ما حدث مع أستاذها الدكتور مصطفى علي مشرفة.
ويقول للجزيرة نت “الدكتور مشرفة والدكتورة سميرة موسى كان لهما شأن كبير في العلم، لكنهما في الوقت نفسه لم يصلا لاختراقات مهمة، مثلما يردد عامة الناس، الذين وقعوا أسرى دعايا الحقبة الناصرية التي كانت تقوم بتضخيم كل شيء، لإظهار أن تلك الحقبة مستهدفة”.
ومثلما ذهب القاضي، لا يملك عبده حقائق تنفي أو تؤكد اغتيال سميرة موسى، لكنه يؤكد أن العقل المصري أميل إلى تصديق الاغتيال لوقوعه أثيرا لصورة نمطية نجح الإعلام والدراما في تصديرها، بدليل أن شقيق الدكتور مشرفة نشر كتابا نفى فيه اغتيال شقيقه، وأكد وفاته في ظروف طبيعية، ومع ذلك يصر الكثيرون على تصديق رواية الاغتيال.
ويوضح أنه “باستثناء حادثة اغتيال الدكتور يحيى المشد في فرنسا، المثبته كواقعة اغتيال لدوره في البرنامج النووي العراقي، لا يوجد في تقديري عالم مصري توصل لاختراقات تدفع لاغتياله”.
ويضيف “سميرة موسى عندما تُوفيت كانت قد أنهت الدكتوراه قبلها بفترة قصيرة، ولم يمهلها القدر وقتا لإظهار أي اختراقات، فالباحث في مرحلة الدكتوراه يتعلّم طريقة التفكير السليم، وتكون الإنجازات دوما بعد الدكتوراه”.
قراءة في الإنتاج والمسيرة
ويتبيّن بشكل واضح ما ذهب إليه القاضي وعبده، من خلال القراءة التحليلية للمسيرة العلمية والإنتاج العلمي للدكتورة سميرة موسى، والذي خص به الدكتور عبد الناصر توفيق، رئيس المركز المصري للفيزياء النظرية، موقع “الجزيرة نت”.
وبدأت سميرة موسى مسيرتها في الدراسات العليا بعد التخرج في كلية العلوم جامعة القاهرة عام 1939، حيث قدمت في 1942 للجامعة نفسها رسالتها للحصول على درجة الماجستير في العلوم، والتي كان موضوعها “الحمل أو التوصيل الحراري للغازات”، ثم أرسلتها جامعة القاهرة في بعثة لنيل درجة الدكتوراه في جامعة لندن، وعام 1948 أنهت رسالة الدكتوراه وكانت بعنوان “دراسة التأين بواسطة إشعاعات الجهد العالي داخل غرف التأين ومدى اعتماده على مواد العزل، وكذلك البحث في طريقة ممكنة لقياس جودة الإشعاعات”، وبعد 3 أو 4 أعوام، أي في ﻋﺎم 1951 حصلت على ﻣﻨﺤﺔ دراﺳﻴﺔ من ﺑﺮﻧﺎﻣﺞ ﻓﻮﻟﺒﺮاﻳﺖ الأميركي.
ويقول توفيق “يبين هذا المسار اﻷكاديمي بوضوح أنها حصلت علي درجة الدكتوراه خلال 10 أعوام من تخرجها، وهي بهذا تتشابه مع معظم الباحثين في التخصص ذاته، ويمكن بسهولة تصنيف الموضوعات العلمية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه ضمن التيار التقليدي للأبحاث الفيزيائية التجريبية في نهايات النصف الأول من القرن العشرين”.
ويستطرد “وحتي في هذا الإطار الفيزيائي التجريبي، يبدو أنها وظّفت التجهيزات المعدة سلفا ولم تُدْخِل عليها تصاميم تجريبية مبتكرة، وظهر ذلك أيضا عند تفسيرها للنتائج التجريبية، ويتضح ذلك جليا في متن رسالتها للدكتوراه، حيث اعتمدت حصرا على نظريات ونماذج وضعها علماء آخرون، وهذا التقييم لا يقلل استحقاق التنويه والإشادة، لكنه يوضح أيضا أن إنتاجها العلمي يستأنس بالممارسات التقليدية في أبحاث علمية مشابهة، ولا يوجد ما يؤشر على أنه حاد عنها”.
وينتقل توفيق من مرحلة الدكتوراه إلى ما بعدها بـ4 أعوام حيث نشرت في تلك الفترة 4 أبحاث هي:
ورقة بحثية في عام 1949، بالمشاركة مع ” س. و. واتسون”، نُشرت في دورية “ذا بريتش جورنال أوف راديولوجي”، وكانت مستقاة من رسالة الدكتوراه. ورقة بحثية في عام 1950، بالإشتراك مع المؤلف السابق، وفي الدورية نفسها، وهو بحث مشابه للبحث السابق. ورقة بحثية في عام 1951، نُشرت في المجلة المصرية “وقائع الجمعية المصرية للرياضيات والفيزياء”، وكانت تدور في نفس إطار البحثين السابقين. تطورت الموضوعات العلمية قليلا عام 1952، ونشرت بحثا في دورية “النيوكليونيات” بعنوان “مقارنة جرعات الهواء والأنسجة لأشعة جاما الراديوم”، وكان ذلك بمشاركة كل من مايكل تيربوجوسيان ووليام إيتنار.
ويقول توفيق “لا يحتاج الأمر لجهد كبير لتأكيد التقييم السابق بأن المسار البحثي مضى على المنوال ذاته، سواء قبل أو بعد حصولها على درجة الدكتوراه في عام 1948”.
أمنيات بعيدة عن الواقع
ومع أن اهتمامات موسى كانت محددة، كما كشف استعراض توفيق لرسالة الدكتوراه وأبحاث ما بعد الدكتوراه، فإن المواقع الإلكترونية، سواء غير موثوقة المصدر أو التابعة لمؤسسات رسمية، تزخر بتقييمات مفرطة، ويبدو أنها أقرب للأمنيات منها لواقع الأمر.
ويقول توفيق “مثلا ليس في المنشورات والأبحاث العلمية للدكتورة سميرة موسى ما يُعطي أي جهة الحق بإدعاء قدرتها على تحويل العناصر الخاملة لعناصر مشعة، وهذا الادعاء أقرب إلى العلوم المزيفة منها للفيزياء أو الكيمياء، حيث لا توجد معادلة سحرية تصف هذا التحول”.
ويضيف أنه “لا توجد في منشوراتها العلمية أيه محاولة لاشتقاق أية معادلة رياضية، ولعل طبيعة تخصصها التجريبي لا تستلزم ذلك، وأيضا تجدر الإشارة إلى أنه لم يحدث، حتى بعد مرور ما يزيد عن 7 عقود من التطورات العلمية المذهلة، أن توصل أحدهم لمثل هذه المعادلة”.
أما عن الاهتمامات الأخرى، التي ارتبطت باسم الدكتورة موسى مثل توظيف الفيزياء النووية في العلاجات الطبية أو في تحقيق السلام، فقد كانت كل هذه الأفكار ترددها حركة علمية مجتمعية عالمية ظهرت مباشرة بعد تفجير مدينتي هيروشيما ونجازاكي بقنبلتين نوويتين أميركيتين خلال الحرب العالمية الثانية، وقادها أبرز العلماء والفلاسفة والرؤساء حتى وصلنا للخطاب الشهير للرئيس أيزنهاور في عام 1953، وبعد ذلك مساهمات ألبرت آينشتاين وبرتراند راسل في عام 1955.
ويقول توفيق “ما حدث أن الدكتورة سميرة موسى تبنت مثل هذه الأفكار مثلها مثل الكثيرين والكثيرات ممن عاصروها”.
ويؤكد، بعد هذا الاستعراض المفصل، أنه “من المفيد التأكيد أن دورنا ليس نفي أن يكون الحادث المروري المأساوي الذي أدى لوفاتها مدبرا، ولا نريد تبرأة أو اتهام أحد، لكن يبدو الآن جليا أن الربط بين الحادث والقدرات العلمية الخارقة للضحية بحاجة لمبررات ليست موجودة في إنتاجها العلمي”.
ويضيف “في المقابل يرى بعض الخبراء الأمنيين أن حديثها المتكرر وحماسها الشديد لامتلاك مصر أسلحة نووية، وبناء مختبرات نووية، ونقل التقنيات النووية لمصر، وما شابهها، والتي لم تكن ضمن تخصصها العلمي الأصيل، قد جلب لها المتاعب والتي وللأسف الشديد، أودت بحياتها”.
الرحلة المجهولة إلى كاليفورنيا
وكما أُحيطت مسيرتها العلمية بسيل من المبالغات والشائعات، تكرر الشيء ذاته مع حادثة وفاتها الغامضة، كما تقول الباحثة الأرشيفية الجزائرية بهيجة عمر، والتي أجرت استقصاء حول ظروف وفاتها.
وتقول عمر للجزيرة نت “من الشائع أنها تُوفيت في كاليفورنيا، وهذا لم يحدث، فالوفاة حدثت في وسط أميركا قبل أن تصل إلى وجهتها”.
ولم تعثر عمر في أوراق التحقيقات، التي اطلعت عليها من مصادرها الأرشيفية، ما يشير من قريب أو بعيد إلى سبب الرحلة التي قطعتها بالسيارة من سانت لويس قاصدة كاليفورنيا، وأنه لا توجد إشارة من قريب أو بعيد إلى أنها كانت متجهة لزيارة بعض المختبرات النووية في كاليفورنيا، كما هو شائع.
ومن الشائعات أيضا التي تحيط بالوفاة هو أن شاحنة صدمت سيارتها من الخلف، وهذا غير مثبت في الأوراق، والتي تشير إلى أن الوفاة وقعت بسبب حادثة مرورية عادية، تسببت في وفاة موسى التي كانت تجلس خلف سائق السيارة، الذي لم يقفز منها كما هو شائع، وشخص يجلس بجوار السائق، وكان هو المسؤول على ما يبدو عن اصطحاب موسى إلى وجهتها التي لم يعرفها أحد.
ورغم أن الوفاة مسجلة في أميركا أنها ناتجة عن حادث مروري عادي، فإن عمر تراها وفاة غامضة، لم يتم كشف طلاسمها، والحل يأتي في تقديرها بمعرفة الوجهة التي كانت تقصدها موسى.
وعلى ذلك، فإن الحقيقة الوحيدة في رواية اغتيالها، أنها تُوفيت، وكل ما تم نسجه حول الوفاة لا يعدو أن يكون مبالغات وشائعات.