في خمسينيات القرن الماضي كتب المفكر المصري عباس محمود العقاد كتابه “الصهيونية العالمية” يرصدُ فيه النشأة والتأثير الذي قامت به هذه الحركة، وقد شكك الرجل في “بروتوكولات حكماء صهيون” وهي توصيات كبار المؤثرين الصهاينة التي يخططون ويتآمرون فيها على العالم.
وقد كان العقّاد مقتنعا بأن الصهاينة لا يحتاجون لهذه البروتوكولات، لأن لديهم داعمين أقوياء يسعون بكل إخلاص في تنفيذ أجنداتهم، وعلى رأسهم الدول الغربية الكبرى التي قامت بهذه المهمة ليس حبّا في الصهاينة اليهود وإنما خدمة للمصالح الاستعمارية وعداوة أصيلة للإسلام، وضرب على ذلك أمثلة لافتة أدركها الرجل مبكرا بُعيد إنشاء إسرائيل.
وهذا التصور من العقاد تؤكده قوة روابط العلاقات الأميركية بالصهيونية منذ أوائل القرن الـ19، وذلك قبل أن تتبلور مشروعا عمليا مع الصحفي ومؤسس الصهيونية ثيودور هرتزل (ت 1904) وتتحول فيما بعد إلى هجرة منظّمة فاحتلال مُحكم.
بواكير الصهيونية في الولايات المتحدة
بدأت الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة بالجماعات الصهيونية غير اليهودية التي طالبت بتوطين اليهود في فلسطين أو في خارجها، حيث طالب الرئيس الأميركي جون آدمز الذي تولى الحكم بين عامي (1797-1801م) بأن يصبح اليهود أمة واحدة.
في ذلك الوقت، لم يزد عدد اليهود في الولايات المتحدة عن 4 آلاف، ولم يكن هناك لوبي يهودي أو صهيوني، وهو ما يدل على أن النزعة الصهيونية في الولايات المتحدة أصيلة متجذرة.
وكان من أهم الشخصيات الصهيونية المسيحية في تلك الفترة وليام بلاكستون الذي حرص على الاشتراك في مؤتمر الاتحاد الصهيوني الأميركي في فيلادلفيا، وأُعلن في ذلك المؤتمر أنه هو “أبو الصهيونية”، وكما يشير عبد الوهاب المسيري في موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية” فإن الرئيس الأميركي الأسبق وودرو ويلسون يُوصف أيضا بـ”أبو الصهيونية”!
وقد بدأت أفكار الحركة الصهيونية تأخذ منحى مغايرا مع قدوم عشرات الآلاف من المهاجرين اليهود من شرق أوروبا منذ ثمانينيات القرن الـ19 حاملين معهم تقاليدهم وأفكارهم ومعتقداتهم وتنظيماتهم الفكرية والسياسية، والتي كان من بينها “جمعية أحباء صهيون”، وبحلول عام 1890م كان هناك فروع لهذه الجمعية في نيويورك وشيكاغو وبوسطن وفلادلفيا وغيرها.
ويذكر المسيري أنه في عام 1896م طرح البروفيسور بول هاوبت من جامعة جون هوبكنز في الولايات المتحدة فكرة ترمي إلى توجيه المهاجرين اليهود القادمين من شرق أوروبا إلى بلاد بين النهرين وسوريا وأيّده في ذلك العديد من الشخصيات اليهودية البارزة حينئذ مثل سيروس أدلر وأوسكار شتراوس.
وفي العام التالي 1897م، عقد هرتزل مؤتمر الحركة الصهيونية الأول في بازل بسويسرا وحضره 4 من يهود الولايات المتحدة، وفي العام التالي 1898م تكونت مزيد من الجمعيات والعصب التي بدأت تعمل على دعم أنشطة الحركة الصهيونية وتحقيق أهدافها وجمع التبرعات لها، مثل “عصبة الجمعيات الصهيونية في الولايات المتحدة الأميركية الشمالية”.
وكانت منظمة العمل الصهيوني في أميركا، التي تأسست في عام 1897، أول منظمة صهيونية أميركية، وركزت جهودها على توعية المجتمع اليهودي الأميركي بأهداف الحركة الصهيونية.
ورغم أن الحركة واجهت في البداية معارضة من بعض اليهود الأميركيين، وخاصة اليهود الإصلاحيين العلمانيين الذين كانوا يرون أن الاندماج في المجتمع الأميركي هو الحل الأمثل والأنجح لمشاكل اليهود، فإنها بدأت تكسب دعما لأهدافها بمرور الزمن.
فبعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، عقدت الجماعات الصهيونية التي ارتفع عددها إلى 150 ألف شخص في الولايات المتحدة مؤتمرا كبيرا في 15 ديسمبر/كانون الأول 1918 وبالتحديد في فيلادلفيا، وأعلنوا فيه تبنّيهم قرار عصبة الأمم بتولي بريطانيا مهام الانتداب على فلسطين.
وفي غضون السنوات العشرين التالية أصبحت الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة المساهم الأول في تطوير الخطط الاستيطانية في فلسطين، فبلغت التبرعات التي قدمتها المنظمة الصهيونية الأميركية حوالي 100 مليون دولار بين عامي 1929 و1939م، كما يرصد المسيري في موسوعته.
الشخصيات الخفية التي دعمت الصهيونية في الولايات المتحدة
ولكن الأمر اللافت أنه برز في خلال العقود الخمسة الأولى من القرن الـ20 العديد من الشخصيات اليهودية التي قادت الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة وأسهمت في تعزيز تأثيرها على السياسة الأميركية الخارجية لدعم وإقامة إسرائيل.
وقامت هذه الشخصيات التي لا نكاد نعرفها في المنطقة العربية بدور ضخم من العلاقات العامة والتقرب من الرؤساء الأميركيين والتأثير عليهم، فضلا عن المجتمع والمؤسسات الأميركية.
لويس برانديز
ويأتي على رأس هؤلاء لويس برانديز (ت 1941م) الذي انضم إلى الحركة الصهيونية عام 1914، وبعدها بعامين عُيّن أول قاضٍ يهودي في المحكمة العليا الأميركية، وكان يعتبر دائما أن الحركة الصهيونية تتطابق مع المبادئ الأميركية حول الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وسعى برانديز إلى إقناع الأميركيين، سواء من اليهود أم غير اليهود، بأن إقامة دولة يهودية يتوافق مع القيم الأميركية، بل إنه حاول إقناع حكومة الولايات المتحدة في أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) بدخول الحرب بجانب الحلفاء للقضاء على الدولة العثمانية وإسقاطها بُغية تسهيل وتسريع عملية السيطرة على فلسطين وتسليمها لليهود.
ومن المعلوم أنه في أثناء الحرب العالمية الأولى حصلت الحركة الصهيونية على دعم دولي محوري من بريطانيا عبر وعد بلفور الشهير وذلك عام 1917، والذي أيد إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. هذا الوعد لاقى ترحيبا كبيرا من قبل الصهاينة في الولايات المتحدة، وعزز من دورهم في التأثير على السياسة الخارجية الأميركية.
وكان برانديز من أشد المؤيدين لهذا الوعد، وعمل على تسويقه بصورة ممتازة للرئيس الأميركي في ذلك الوقت وودرو ويلسون الذي أبدى تعاطفا وتأييدا لبريطانيا ولوعد بلفور.
وكان من اللافت أن دعم ويلسون للصهيونية مثّل نقطة تحول في السياسة الأميركية في عهده وفي عهود الرؤساء اللاحقين، حيث بدأت الولايات المتحدة تتبنى تدريجيا مواقف داعمة للصهيونية في سياستها الخارجية.
والحق أن تأثير برانديز كان شديد الخطورة والأهمية بسبب منصبه الرفيع في المحكمة العليا، وتقديره في الأوساط السياسية والقانونية الأميركية، حيث استخدم مكانته هذه لإيجاد تحالفات سياسية داخل الحكومة الأميركية لصالح الصهيونية.
وكان قادرا على كسب دعم مؤثرين أميركيين جدد من غير اليهود للمشروع الصهيوني، كما دعّم أيضا جهود جمع الأموال لدعم المستوطنات اليهودية في فلسطين، ووجه العديد من الحملات الإعلامية، وبفضل مكانته السياسية والاجتماعية تلك ساهم برانديز في جعل الصهيونية جزءا من التيار السائد في الولايات المتحدة.
هنري مورغنثاو
ومن أهم وأشهر الشخصيات اليهودية الصهيونية التي عملت على التأثير داخل الأوساط السياسية الأميركية منذ الحرب العالمية الأولى وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية لصالح المشروع الصهيوني سنجدُ السفير الأميركي اليهودي هنري مورغنثاو الأب (ت 1946م)، وهو رجل أعمال وسياسي كان مقربا أيضا من ويلسون.
وقد اختاره ويلسون ليكون سفيرا للولايات المتحدة في الدولة العثمانية ما بين عامي 1913-1916م، وذلك في أثناء الفترة الحرجة التي قامت فيها الحرب العالمية الأولى، وكان من أشد المناهضين للدولة العثمانية.
وبعد الحرب أصبح مورغنثاو أكثر التزاما بدعم الصهيونية من خلال علاقاته الواسعة مع قادة الحكومة الأميركية، حيث استخدم نفوذه للتأثير في صنع القرار السياسي، ففي مذكراته أشار إلى أن التجربة المروعة للهولوكوست والفظائع التي ارتُكبت ضد اليهود في أوروبا جعلته يدرك أن الصهيونية لم تعد مجرد حركة قومية، بل ضرورة أخلاقية لضمان مستقبل اليهود.
الحاخام ستيفن وايز
كما يأتي الحاخام ستيفن وايز (ت 1949م) كواحد من أهم الشخصيات اليهودية التي لعبت دورا مؤثرا في دعم الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة، فقد أسّس المؤتمر اليهودي الأميركي في عام 1922، وهي منظمة صهيونية كان لها تأثير كبير في حشد الدعم الشعبي والسياسي لإقامة دولة يهودية في فلسطين.
وكان وايز شخصية كاريزمية وخطيبا مفوّها، مما جعله قادرا على التأثير في الرأي العام الأميركي لصالح مشروع الحركة الصهيونية.
وايزمان وترومان
ومن الشخصيات اليهودية الصهيونية التي أثّرت في السياسة الأميركية أيضا في ذلك الحين، سنجدُ حاييم وايزمان (ت 1952م) قائد الصهيونية العالمية والرئيس الأول لإسرائيل الذي لعب دورا شديد الأهمية في التأثير على الولايات المتحدة الأميركية قبل وبعد الاعتراف بدولة الاحتلال في نوفمبر/تشرين الثاني 1947 ثم في مايو/أيار 1948م.
نجح وايزمان، الذي كان كيميائيا وسياسيا قويا، في إقامة علاقات دبلوماسية وثيقة مع العديد من الشخصيات السياسية الأميركية من كافة الاتجاهات، ومنهم الرؤساء الأميركيون.
وخلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، زار وايزمان الولايات المتحدة عدة مرات للعمل على جمع الدعم المالي والسياسي للصهيونية، ولقد أسهمت جهوده في تحقيق وعد بلفور من قِبل بريطانيا عام 1917.
وكان لوايزمان دور كبير في الضغط على الإدارة الأميركية لدعم إنشاء دولة يهودية في فلسطين، ولديه علاقة وثيقة مع الرئيس هاري ترومان الذي تولى رئاسة الولايات المتحدة بين عامي (1945-1953م)، مما ساهم في دعم الاعتراف الأميركي بإسرائيل فور إعلانها في عام 1948.
وساطة التاجر الغامض
لكن ثمة شخصية مؤثرة ومحورية وتكاد تكون خفية وكان لها الفضل الكبير في التقريب بين وايزمان وترومان، وهو التاجر ورجل الأعمال اليهودي الأميركي إدوارد جاكوبسون المعروف بإيدي جاكوبسون (ت 1955م).
فقد استطاع هذا الرجل الشريك والصديق المقرب من ترومان منذ أيام الحرب العالمية الأولى إقناعه بضرورة مقابلة وايزمان والاستماع له، وذلك على الرغم من اعتراض كثير من موظفي وزارة الخارجية الأميركية وتوصياتهم بضرورة الحياد والابتعاد عن الدعم المباشر والقوي لإسرائيل إذا أرادت أميركا أن يكون لها تأثير في الشرق الأوسط.
لقد وصف إيدي جاكوبسون صديقه زعيم الصهيونية العالمية وايزمان بأنه مثل “موسى عصره”، وهو تشبيه ديني كان له تأثير مباشر في قناعة ترومان وحرصه على مقابلته.
وفي تلك المقابلة لعب وايزمان بهدوء شديد على المعاناة الإنسانية التي تعرض لها اليهود في محارق النازية في أثناء الحرب العالمية الثانية، وكيف أنه يسعى لإحلال السلام في الشرق الأوسط، وحل المشكلة اليهودية بصورة جذرية.
وكما يذكر ترومان في مذكراته أنه تأثّر للغاية بمنطق وايزمان ولغته العاطفية والإنسانية، حتى وصفه بأنه “قادر على تحريك قلوب الرجال”، ونظرا لغياب الصوت العربي المؤثر، واللعب على العلاقات الدينية والسياسية شديدة الصلة بين اليهود والأميركان. وكان ترومان أول من اعترف بقيام دولة إسرائيل بعد إعلانها بـ11 دقيقة فقط.
وفي مذكراته، أشار وايزمان بتقدير كبير للدور الضخم والتعاطف اللافت الذي كان يُبديه ترومان للقضية الصهيونية ودعمها أمام اعتراضات بعض مستشاريه وموظفي وزارة الخارجية الذين كانوا يسعون لإفساد الأمر في الأمم المتحدة وفي دهاليز الحكومة، بل أمام مندوبي الدول الأخرى.
يقول وايزمان في مذكراته “كنتُ كلما اصطدمت القضية (الصهيونية) بشيء تنقلت من مندوب إلى آخر من مندوبي الدول (في الأمم المتحدة)، أو اتصلتُ بالرئيس ترومان لأحلّ الأزمة قبل تفاقمها”.
تلك هي أهم المسارات والشخصيات الصهيونية التي لعبت أدوارا حاسمة في تشكيل السياسة الخارجية الأميركية، وجعلها تميل ناحية الطرف الإسرائيلي على حساب القضية الفلسطينية، وإننا نرى أن العلاقات العامة والشخصية، والمناصب المرموقة التي تولاها هؤلاء اليهود الأميركان كان لها الفضل الكبير في حسم واشنطن قرارها ناحية تل أبيب!