يوسف غانم
مثلما عودنا الروائي والكاتب الكويتي عبدالوهاب الحمادي في معظم أعماله أن يأخذنا معه في رحلة عبر الخيال، ويتنقل بنا خلال محطاتها في أجمل ما يمكن أن يكون ساحرا وجاذبا، سواء في روايته «ولا غالب» الحائزة جائزة الدولة التشجيعية عام 2021، أو في «لا تقصص رؤياك» التي بلغت القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» عام 2015، أو عبر أدب الرحلات وكتابه الرائع «دروب أندلسية» الصادر عام 2011، أو من خلال كتاب «أصوات تشيد الذاكرة» وما يتضمنه من معلومات صيغت كدراسة في أرشيف ضحايا الاحتلال العراقي للكويت، ها هو يبدع في روايته الجديدة «سنة القطط السمان» الصادرة عن «دار الشروق» في مصر، هذا العام، والتي لاقت إقبالا كبيرا من جمهور القراءة وعشاق الرواية، سواء في الكويت أو معظم الدول العربية، وهذا ما لوحظ خلال معرض الشارقة الدولي للكتاب بداية الشهر الجاري، أو من خلال معرض الكويت الدولي للكتاب.
نسج الأديب الحمادي أحداث روايته «سنة القطط السمان» بناء على تاريخ حقيقي ووقائع مشهودة وعلى جانب واسع أيضا من الخيال بحيث يجعل القارئ يستمتع بنوع من السرد التاريخي بأسلوب شيق وبشكل مطعم بالخيال وليبدو المشهد وكأننا ندور في حلقة مفرغة وليظهر التاريخ وكأنه يعيد نفسه فمن اغماضة عين تراوح بين سنة ويقظة، تعرف أنك تنفست عميقا، تشعر بالهواء يسري من أنفك ويملأ صدرك هواء صافيا منعشا أعقب أمطارا هطلت لأسبوع على الكويت، تكتمه في صدرك للحظات، تبقيه كأنه يكفيك العمر كله، ثم تزفره في النهاية، ينتظرك ربيع أخضر هذا العام.
ويبدأ الرحلة بنا من سؤال سعاد لمساعد، الذي ولد سنة الطفحة 1912 ميلادية.. هل نمت؟ الذي أخرجه مما يشبه حلم قيلولة لطيفا، وتناول غدائه مع خليفة، لتلمس أنامله كتفك اليسرى وتعيد سؤالها معطرا بنبرة أنوثة دلفت إلى قلبك مسرعة، الكسل أثقلك عن الرد لتكرر سؤالها وتذكيرك بصلاة العصر. ورائحة الكباب والتكة والكبدة متلبسة في كفك تحلب لها ريقك مجددا.
وشواء الطباخ الهندستاني الطيب الشهي الذي تتذمر منه أم مساعد بسبب كثرة ارتياده اليومي لهذا المطعم ورغبتها بتوفير بعض المال والثناء على طعامها، وما الذي قالته عنه أم منصور.
كما أخذنا معه في رحلة الغوص وموسمها الذي يترقبه الرجال بكل لهفة مع الصيف، حيث الكل يحلم بتلك الدانة المستديرة الفضية، أصغر من عقلة الاصبع تشرق من المحارة بعد فلقها ساعة الفجر، لؤلؤة تقلب حياته رأسا على عقب. وحكاية زواح مساعد من سعاد وزفافه في المرقاب وضرب الدفوف، ليصل إلى استلام مساعد دفتر حسابات العائلة ووفاة والده، ومقتل والد سعاد على أيدي قطاع الطرق.
بعدها يتحدث الروائي عن حال البلدة البحرية في منتصف العقد الثالث من القرن العشرين وهبوط تجار وحرفيين من الهند وإيران إلى سواحل الكويت طمعا في الأمن وفرص تجارة لا تراها أعين أهل البلد الكليلة، يتاجرون في البيع والشراء والاستيراد والتصدير وامتهنوا حرف النجارة والحدادة والخياطة والقصابة وغيرها، وبرعوا في صناعة الحلويات والمخبوزات والمأكولات وافتتحوا لدكاكين التي لاقت رواجا عند الأهالي.
ثم نذهب مع الروائي الحمادي إلى مقهى ابن زنان لنتعرف على أبو جابر، والشاعر الضرير وحاتم، وأحاديث المقهى وعدم رضا أبو مبارك من مجالسة بعض الشباب المتنورين وما في رؤوسهم من أفكار مسبقة عن الإنجليز ونقاشاتهم وتحليلاتهم وابتعادهم غالبا عن ديناميكيات الحياة على بساطتها، وحكاية ديجوري في المعتمدية ولوحات قرى المروج الخضراء المؤطرة ببراويز مذهبة، قبل أن يسأله: هل في قاموسك معنى مصطلح القطط السمان؟ وهل يراه المعتمد قناعا؟
.. كلنا أقنعة يا صديقي، كلنا كذلك شريطة ألا نتجاوز الحدود.
أنت على وجه الخصوص بك روح إنجليزية يا مساعد أحبها وطموح لا يخفى.. ولا تنس أن النفط إن خرج بكميات قليلة سيقلب حالكم.. ألا تود أن تكون قطا سمينا في بلدكم هذا؟
خذ نفسا عميقا آخر يا مساعد، نفسا يضارع نفس والدك قبل ما يغطس في الخليج ليصل إلى الاعماق ويقتلع المحار.. لقد فتح الباب يا مساعد، استعد، وراء الباب ينتظرك ربيع أخضر.