موسكو- تتواصل الاحتجاجات المناهضة للحكومة في صربيا من قبل المعارضة والطلاب، لأكثر من 100 يوم، في أعنف تجدد للمظاهرات في البلاد منذ العام 2023.
واندلعت الاضطرابات في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2024 احتجاجا على مقتل 15 شخصا بسبب انهيار سقف خرساني في محطة للسكك الحديدية بمدينة نوفي ساد، ثاني أكبر مدينة في البلاد، وذلك بعد فترة قصيرة من إعادة ترميم المحطة، لكن السقف “المنكوب” لم يكن مدرجا في برنامج الترميم.
وأوقف المتظاهرون عمل العديد من مؤسسات التعليم العالي وأغلقوا الطرق والتقاطعات بشكل شبه يومي، في حراك شمل عددا من المدن ولم يتوقف حتى بعد استقالة رئيس الوزراء ميلوس فوسيفيتش.
وتحظى تطورات الأوضاع في صربيا باهتمام بالغ من جانب روسيا، نظرا للعلاقات الوثيقة التي تتمتع بها مع البلد البلقاني، الذي رفض فرض عقوبات عليها بسبب العملية العسكرية في أوكرانيا، على عكس الاتحاد الأوروبي الذي تأمل بلغراد في الانضمام إليه.
حليف أخير
يقرأ في تصريحات المسؤولين الروس وجود هواجس من تدخل خارجي (غربي) في الأحداث في صربيا. فقد حذرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، من انتشار “الفوضى” في صربيا ودعت المتظاهرين للتحلي بالعقلانية و”عدم الانسياق وراء الذين يؤججون المشاعر، حسب تعبيرها.
أما السفير الروسي في بلغراد ألكسندر خارتشينكو فأكد وجود تدخل خارجي واضح ومحاولة استغلال المأساة ومشاعر الناس لإطلاق ثورة من خلال الاحتجاجات.
وتأتي التطورات في صربيا على وقع تدافع بين روسيا والمنظومة الغربية على مناطق النفوذ، وفي وقت يشهد فيه الفضاء الجيوسياسي لموسكو بوادر تآكل، لا سيما بعد إعلان أرمينيا مؤخرا إعادة توجيه بوصلة سياستها الخارجية نحو مزيد من التقارب مع الغرب.
وبحسب ما يؤكده محلل شؤون البلقان، فاسيلي بابوف، فإن الغرب هو الذي يقف وراء هذه الاحتجاجات لاستخدامها كأداة للضغط سرا على الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش للرضوخ للمطالب الأميركية بشأن العلاقات مع روسيا وملف كوسوفو.
ويضيف للجزيرة نت أنه رغم الضغوط “الجدية” من الغرب، تظل صربيا الدولة الوحيدة في أوروبا التي لم تنضم إلى العقوبات ضد روسيا، مشيرا كذلك إلى أن الرأي العام داخل صربيا ليس منقسما حيال ضرورة الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا، كما كان الحال في أوكرانيا عام 2013، وبعد ذلك وحتى الآن في جورجيا وأرمينيا.
ويوضح في هذا السياق أن 85% من المواطنين في صربيا ضد حلف شمال الأطلسي، وأكثر من 60% ضد الاتحاد الأوروبي.
![protest](https://jeddahdays.com/wp-content/uploads/2025/02/1739278629_825_شبشيسبس-1738760762.jpg)
ضغوط ومصالح
ويربط فاسيلي بابوف تدهور الأوضاع في صربيا بالعقوبات الأميركية الأخيرة الجديدة الهادفة لإجبار روسيا على الانسحاب الكامل من صناعة البترول في صربيا والتوقف عن تلقي تدفقات الأموال من صربيا إلى روسيا، كما صرح بذلك بشكل واضح مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأوروبية والأوراسية جيمس أوبراين.
وتابع المتحدث ذاته بأن الموقف “الوسطي” للسلطات في بلغراد أدى إلى ديناميكية سلبية في حجم التجارة بين روسيا وصربيا، حيث تراجع العام الماضي إلى 2.4 مليار دولار بعد أن بلغ 3 مليارات عام 2023 و4.2 مليارات دولار عام 2022.
وقال إن صربيا في واقع الحال تتعرض ليس لضغوط فحسب، بل لعقوبات غربية مباشرة وإن كانت غير معلنة.
من جانبه، لا يرى الخبير في العلاقات الدولية، ديمتري بابيتش، بأن الرئيس الحالي في صربيا هو حليف لروسيا بقدر ما هو موال ولكن بشكل غير كاف للغرب، حسب توصيفه.
ويعطي في تعليق له أمثلة عل ذلك، كقيام صربيا بتزويد أوكرانيا بشكل غير مباشر بذخيرة بقيمة 828 مليون دولار، وتوقيع فوتشيتش على العديد من البيانات التي تدين تصرفات موسكو، كما حصل في إعلان “تيرانا” الذي عبر عن الدعم الثابت لاستقلال وسيادة وسلامة أراضي أوكرانيا داخل حدودها المعترف بها دوليا اعتبارا من عام 1991.
ويضيف إلى ذلك دعم الرئيس الصربي -بحكم الأمر الواقع- لمذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
مع ذلك، يرى المتحدث أن الكرملين يغض الطرف عن تحركات فوسيتش وانتهاجه سياسة مؤيدة للغرب من جهة، مع الحفاظ على خطاب مؤيد لروسيا من جهة ثانية، لاعتبارات من بينها مراعاة المزاج العام داخل صربيا المؤيد بأغلبيته لروسيا بحكم العلاقات العرقية والتاريخية، إلى جانب المصالح الاقتصادية.
هامش المناورة
وبرأي ديمتري بابيتش، فقد كان كل من الاتحاد الأوروبي وروسيا يضغطان على بلغراد لاختيار جانب واحد، لكن الغرب ذهب الآن إلى خيار “إشعال النار” في صربيا لتضييق هامش المناورة على موسكو وإعادة صربيا إلى المسار الصحيح، حسب وصفه.
ووفقا له، فإن القيادة الحالية في صربيا باتت في موضع وكأنها تتزحلق على جليد الأزمة والتناقضات بين روسيا والغرب، لا سيما مع إصرار الولايات المتحدة على خفض حصة شركة غازبروم الروسية في شركة صناعة النفط في صربيا إلى الصفر، وهو ما يمكن أن يؤدي لحدوث انقطاع في إمدادات النفط إلى صربيا ومعاناة للمستهلكين، رغم وعود المسؤولين الأميركيين بعدم حدوث ذلك.
يشار إلى أن السلطات الصربية أنهت الشهر الماضي بعض العقود في مجال التعاون العسكري مع روسيا، وأرجأت عقودا أخرى إلى أجل غير مسمى.
وقال رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الصربي الجنرال ميلان مويسيلوفيتش، إن بلاده وجدت بعد فرض العقوبات على روسيا، طرقا لضمان إمدادات مستقرة ومرنة من الأسلحة الروسية من خلال الإنتاج المرخص في بلدان أخرى.
أما فيما يتعلق بتسليم الأسلحة الجديدة من روسيا، فقال إنه أمر مستحيل عمليا في الوقت الحالي.