في مؤشر يدل على تحوّلٍ تدريجي في مقاربة بعض العواصم الغربية إزاءالسلطة السورية الجديدة، أعلنت لندن، الخميس، رفع العقوبات المفروضة على عدد من الكيانات السيادية والأمنية السورية، وعلى رأسها وزارتا الدفاع والداخلية.
هذا القرار، الصادر عن وزارة المالية البريطانية، ينهي تجميد الأصول العائدة لمؤسسات رئيسية كانت لعقود في صلب الهيكل الأمني للنظام السابق، من بينها إدارة المخابرات العامة، ووكالة استخبارات القوات الجوية، وإدارة الأمن السياسي، بالإضافة إلى مكتب الأمن القومي وإدارة المخابرات العسكرية ومكتب الإمداد العسكري.
كما شملت القائمة كذلك مؤسسات إعلامية رسمية مثل المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون، وقنوات “الوطن”، و”شام برس”، و”سما”، ما يعكس رغبة بريطانية في إعادة النظر في أدوات الضغط التقليدية، وربما فتح باب التواصل غير المعلن مع مكونات الحكم الجديدة في دمشق.
يأتي التحول البريطاني بعد نحو شهرين من قرار مماثل اتخذه الاتحاد الأوروبي، تمثل في تعليق جزء من عقوباته على سوريا للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب في 2011. وقد شملت الإجراءات الأوروبية آنذاك رفع القيود عن قطاعات استراتيجية، لا سيما الطاقة والنقل، بالإضافة إلى حذف خمسة كيانات مصرفية ومؤسسة الطيران الوطنية من لوائح العقوبات. هذه الخطوات تنذر، بحسب مراقبين، بنهاية تدريجية لمنهج “العزل التام”، وبداية مرحلة اختبار حسن النيات السياسية من الجانب السوري.
ترافق هذا التحول في السياسة الغربية مع إعادة تموضع دراماتيكي في تركيبة السلطة داخل سوريا، حيث برزت شخصيات ذات خلفية ميدانية ومعارضة في مواقع القرار، خصوصاً في وزارتي الدفاع والداخلية. ويثير هذا التحول نقاشًا واسعًا حول مستقبل العلاقة بين “الثورة” و”المؤسسة”، بين ماضٍ مسلح، ومستقبل يأمل بعض الفاعلين أن يكون مدنياً متماسكاً.
“أبو الحسن 600” في وزارة الدفاع
ومن أهم الكيانات التي رفعت بريطانيا عنها العقوبات، وزارة الدفاع، ويتولاها اليوم في موقع الوزير اللواء المهندس مرهف أبو قصرة، المعروف سابقاً باسم “أبو الحسن 600”.
أبو قصرة كان أحد القادة البارزين في هيئة تحرير الشام النصرة سابقاً، حيث أشرف على الجناح العسكري فيها وكان له دور محوري في رسم الخطط القتالية الكبرى وتنفيذها في شمال سوريا.
تلقى الرجل تعليمه في الهندسة الزراعية بجامعة دمشق، قبل أن ينخرط في العمل المدني ثم المسلح إثر اندلاع الاحتجاجات، نزح إلى إدلب في بداية الحرب في سوريا، وهناك برز كأحد أبرز المخططين العسكريين ضمن المجموعات المعارضة لنظام الرئيس السابق بشار الأسد. وقد عُرف بإدارته للعمليات وفي التنسيق بين الفصائل.
ومع توليه وزارة الدفاع، أظهر أبو قصرة اهتماماً بدفع هيئة تحرير الشام نحوالانخراط في مشروع الدولة، من خلال تأكيده أن “عقلية الفصيل لا تتماشى مع متطلبات بناء الدولة”.
من هو وزير الداخلية أنس خطاب؟
يشغل أنس خطاب منصب وزير الداخلية، وهو المكنّى “أبو أحمد حدود”. شخصية بارزة في المشهد الأمني الجهادي المعارض سابقاً.
وُلد خطاب في مدينة جيرود بريف دمشق عام 1987، وتخرج في كلية الهندسة المعمارية بجامعة دمشق، قبل أن يصبح أحد مؤسسي جبهة النصرة عام 2012، حيث شارك في مجلس الشورى التابع للجبهة وشغل منصب الأمير الإداري فيها، بحسب ما ورد في بيانات مجلس الأمن الدولي.
فرضت على خطّاب عقوبات دولية منذ عام 2014، على خلفية اتهامات بتمويل وتسليح جبهة النصرة. وبعد تغيّراسمها إلى هيئة تحرير الشام، قاد المذكور جهاز الأمن العام، ثم أصبح نائباً للقائد العام للهيئة حينها أحمد الشرع، الذي كان معروفاً بلقب “أبو محمد الجولاني”.
وفي ديسمبر 2024، تولى خطاب رئاسة جهاز الاستخبارات العامة في سوريا، قبل أن يُعيَّن وزيراً للداخلية مع بداية العام الحالي. غير أن تساؤلات لا تزال تُثار بشأن موقعه السابق، وما إذا كان لا يزال يحتفظ بنفوذ أمني موازٍ داخلبنية الحكمالجديدة.
الكيانات التي رفعت عنها العقوبات… من هي وما هي أدوارها؟
ومعالقرار البريطاني الجديد برفع العقوبات عن الكيانات الأمنية والإعلامية والسياسية السورية، تكثر الأسئلة حول أدوار هذه الكيانات في المرحلة الجديدة، حيث توحي الحركة الغربية تجاه دمشق بتغيّر لايزال بطيئاً، لكنه متصاعد في وتيرته باتجاه استعادة العلاقات معها. فمن هي هذه الكيانات، وما هي أدوارها؟
وزارة الدفاع
تمثل وزارة الدفاع حجر الأساس في البنية السيادية للدولة السورية، وهي الجهة التي تتولى الإشراف الكامل على القوات المسلحة بجميع تشكيلاتها، وتخطيط استراتيجياتها الدفاعية، وتحديد أولوياتها العملياتية. ومنذ اندلاع النزاع الداخلي في 2011، تولّت الوزارة (في ظل النظام السابق) إدارة مجمل المجهود الحربي، من تعبئة الموارد البشرية عبر التجنيد الإجباري والاحتياط، إلى التنسيق العملياتي مع حلفاء دمشق، وفي مقدمتهم روسيا وإيران. كما تملك صلاحيات مركزية في التصنيع العسكري، والتدريب المهني، وضبط الإيقاع الأمني للمؤسسة العسكرية.
وزارة الداخلية
تضطلع وزارة الداخلية بدورٍ محوري في هندسة المشهد الأمني الداخلي، بما يشمل إدارة أجهزة الشرطة، وتنظيم المرور، ومراقبة الهجرة والجوازات، فضلًا عن إشرافها على أجهزة أمنية بالغة التأثير مثل الأمن الجنائي والأمن السياسي. وقد برزت الوزارة، منذ بداية الأزمة السورية، كفاعلٍ مركزي في مواجهة الاحتجاجات والاضطرابات الشعبية مما جعلها محل انتقاد دولي واسع النطاق، بالإضافة إلى قيامها بملاحقة الأعمال الأمنية التي قامت بها المجموعات المسلحة المعارضة أو المتطرفة. وتُعد أيضاً مسؤولة عن إدارة السجون ومراكز التوقيف، فضلاً عن إشرافها على شؤون البلديات والإدارات المحلية.
إدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)
كانت هذه الإدارة إحدى الأذرع الاستخباراتية الأساسية للنظام السوري السابق، وهي تتمتع بهيكلية شبه مستقلة رغم أنها تتبع مكتب الأمن القومي. نشأت في خمسينيات القرن العشرين، وشكّلت عبر العقود جهازاً متخصصاً في مراقبة النشاط السياسي والإعلامي، إضافة إلى رصد تحركات المجتمع المدني. وتتهمها منظمات حقوقية بالضلوع في ممارسات قمعية ممنهجة، شملت الاعتقالات التعسفية والتعذيب، ما جعلها في دائئرة استهداف العقوبات الغربية المفروضة على النظام.
وكالة استخبارات القوات الجوية
رغم كونها نظريًا جزءًا من سلاح الجو، إلا أن هذه الوكالة مارست عملها كجهازٍ أمني مستقل يتمتع بامتيازات واسعة ونطاق عمل يتجاوز الشأن العسكري. كانت هذه الوكالة تُعرف بقربها من الحلقة الضيقة المحيطة بالرئاسة، وقد لعبت دوراً بارزاً في عمليات المراقبة الداخلية، ولاسيما بين صفوف القوات المسلحة، لمنع الانشقاقات أو الخروج عن الولاء السياسي.
اتُّهمت الوكالة، مرارًا، بممارسة انتهاكات واسعة ضد المعتقلين، خاصة في مراكز الاحتجاز التابعة لها.
إدارة الأمن السياسي
تُعنى هذه الإدارة برصد الأنشطة السياسية والنقابية في البلاد، وتُعرف تاريخياً بدورها في مراقبة الحركات الحزبية، والمنظمات الطلابية، والنقابات المهنية. تعود جذورها إلى بنية النظام الأمني السابق الذي شُيّد منذ وصول حزب البعث إلى السلطة، وكانت تُعد أداةً مركزية في ضبط المجال السياسي من الداخل، لا سيما عبر شبكة موسعة من المخبرين والمحققين. وخلال الحرب السورية، تداخل دورها الأمني مع الميدان، إذ شاركت في عمليات التحقيق والاعتقال، لا سيما بحق الناشطين السياسيين، كما يقولمنتقدو النظام السابق.
مكتب الأمن القومي السوري
هو الكيان التنسيقي الأعلى الذي يُشرف على كافة أجهزة المخابرات السورية، ويضطلع بصياغة السياسات الأمنية العليا، وتوجيه عمل الأجهزة الاستخباراتية ضمن رؤية موحدة كانت تُرفع مباشرة إلى رئاسة الجمهورية. عادةً ما كان يُعيَّن على رأسه شخصية أمنية من الصف الأول، ويحظى بصلاحيات تفوق كثيرًا صلاحيات الوزراء. ومنذ 2011، يقول متابعون إن هذا المكتب كان العقل المدبّر للسياسات الأمنية الاستباقية، والتناغم بين الأجهزة في إدارة المشهد الأمني والعسكري الداخلي.
إدارة المخابرات العسكرية
جهاز استخباراتي عسكري يتجاوز عمله الطابع التقليدي للأمن العسكري، ليتداخل مع العمل الأمني المدني. وبحسب المتابعين، كان مكلّفا برصد أي نشاط يُشتبه في تهديده لاستقرار المؤسسة العسكرية أو الدولة، ويُعرف بتغلغله في الحياة المدنية، خاصة عبر مراقبة الإعلام، والنقابات، والتجمعات المحلية. كما لعب دوراً محورياً في تنفيذ عمليات ميدانية مشتركة مع الجيش، وملاحقة الفارين من الخدمة، والتنسيق مع ميليشيات محلية وأجنبية موالية للدولة في المرحلة الماضية.
مكتب الإمداد العسكري
يشكّل هذا المكتب عصب الدعم اللوجستي للقوات المسلحة، ويشرف على تأمين سلسلة الإمدادات من الأسلحة والذخائر إلى المعدات والوقود. وكان يلعب دورًا مفصليًا في صيانة استمرارية العمليات العسكرية، من خلال شبكات التخزين والتوزيع والنقل العسكري، وقد ارتبط اسمه بتنسيق الدعم الفني والتقني مع حلفاء النظام السابق، لا سيما إيران وروسيا. كما كان يعنى بتأمين التموين لجبهات القتال، والاحتياجات الفنية للقوات المنتشرة.
المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون
تُعد الهيئة الرسمية الأعلى للإعلام الحكومي في سوريا، وتعمل بوصفها الأداة التعبيرية للدولة في الداخل والخارج. تُشرف على القنوات والإذاعات الرسمية، وتبث محتوى سياسيا وثقافيا مُوَجَّها يخدم السياسات الرسمية. خلال الأزمة، كانت من أبرز منصات التعبئة الإعلامية في وجه المعارضة، وساهمت في الترويج للرواية الرسمية، وفي مواجهة الحرب الإعلامية التي خاضتها قنوات المعارضة. وتُعد من أبرز مؤسسات الإعلام المرتبطة بالسلطة التنفيذية.
قناة الوطن
هي قناة إعلامية خاصة كانت تُصنّف ضمن “الإعلام الرديف” للنظام السابق، وغالباً ما يُشار إليها بوصفها صوتاً مكملاً للإعلام الرسمي. تأسست خلال مرحلة ما قبل الحرب، وبرزت بشكل أكبر خلال سنوات النزاع، إذ تماهت تغطيتها مع المواقف الرسمية، لا سيما في ما يتعلق بالملفات السيادية والعمليات العسكرية. وكانت بصورةٍ عامة تستضيف محللين ومعلقين مقرّبين من دوائر السلطة.
موقع شام برس
كان الموقع من أوائل المواقع الإخبارية الخاصة التي ظهرت في سوريا، وقد حافظ منذ تأسيسه على موقف مؤيد للدولة (خلال مرحلة النظام السابق)، وغالباً ما عُدّ منصة للدفاع الإعلامي عن سياسات الحكومة. إذ كان يُركّز على تقديم محتوى يُبرز إنجازات النظام، وينتقد خصوم الدولة من الداخل والخارج، ويُستخدم كوسيلة تواصل رقمية للتأثير في الرأي العام، وخاصة في ظلتحول المشهد الإعلامي نحو الفضاء الرقمي.
قناة سما
هي قناة تلفزيونية خاصة، تأسست بعد اندلاع الأزمة السورية، وسرعان ما تحوّلت إلى منبر رئيسي للدفاع عن النظام السياسي. غطت القناة الشأن المحلي والدولي من منظور متقارب مع الخطاب الرسمي، وكانت تُعرف ببرامجها الإخبارية المكثفة، وتغطياتها المباشرة للأحداث العسكرية.
وكان يُعتقد على نطاقٍ واسعٍ أنها مدعومة من رجال أعمال مقرّبين من دوائر صنع القرار، وأنها تلعب دوراً في الترويج للرؤية الرسمية داخلياً وخارجياً، خاصة في ظل تراجع الثقة بوسائل الإعلام الغربية وفق رأي هؤلاء.
وبعد القرار البريطاني، سوف هذه الكيانات من حرية أكبر في العمل وهامشٍ أوسع من النشاط والتواصل مع العالم الخارجي، حيث أدت العقوبات في المرحلة الماضية إلى عزل هذه المؤسسات لأسباب سياسية تتعلق بسوء العلاقات وتوترها بين النظام السابق والدول الغربية بصورةٍ عامة.