قال خبراء إن المفاوضات الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا عبر وساطة أميركية لم تحقق أي تقدم جوهري، إذ يصفها أوكرانيون بأنها فشلت بسبب رفض موسكو أي هدنة، في حين يراها الروس بداية لمسار جديد من الحوار مع واشنطن.
ويأتي هذا الجدل بين الطرفين في وقت تدخل فيه الحرب عامها الرابع، في ظل استنزاف المعارك اليومية للطرفين، وتصاعد الضغوط الاقتصادية على موسكو، واستمرار كييف في الاعتماد على الدعم الغربي العسكري والمالي.
وبعد انقضاء فعاليات قمتين عُقدتا الشهر الجاري، لم يحدث أي اختراق حقيقي من أجل وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا، وهذا ما يطرح سؤالا جوهريا: هل ستبقى المفاوضات المقبلة مجرد استعراض سياسي، أم أنها قد تمهد لمسار أكثر جدية نحو وقف الحرب؟
الخبراء الذين التقتهم الجزيرة نت، وضعوا مجموعة من الاشتراطات والرؤى التي يجب أن تتحقق بداية قبل الوصول إلى نقطة يمكن البناء عليها لإقامة مفاوضات جادة قد تفضي إلى الوصول إلى بوابة للخروج من تداعيات هذه الحرب.
5 حقائق
ومن هذه الحقائق، أشار تقرير لمجموعة الأزمات الدولية بعنوان “ما بعد قمم أوكرانيا” إلى أن أي اتفاق سياسي لن يصمد ما لم يستند إلى حقائق مرتبطة بتوازن القوى، ولخصها التقرير في النقاط التالية:
- رغم خسارتها جزءا من أرضها، فإن أوكرانيا لا تُبدي نية للتراجع وتعتبر القتال أقل كلفة من الخضوع.
- روسيا، ورغم تقدمها، تواجه خيارا صعبا بين الانتصار العسكري المكلف والخروج من العزلة عبر اتفاق تفاوض.
- جوهر أي اتفاق هو بقاء أوكرانيا قادرة على الدفاع عن نفسها رغم إصرار موسكو على “نزع سلاحها”.
- الدور الأوروبي سيكون محور أي اتفاق دائم، لكونه الممول الأكبر لإعادة الإعمار والشريك التجاري الذي تسعى موسكو لاستعادته.
- المشاركة الأميركية ضرورية، لكن مقاربتها الحالية محدودة وتحتاج إلى خبرة وصبر أكبر.
“تحيز” ترامب
وتدلل القمتان الأخيرتان على انقسام واضح في موقف الطرفين، وكل طرف يذهب إلى تحليل النتائج وفق منظوره لهذه المفاوضات والغايات التي حملها مع حقائبه عندما سافر إلى واشنطن.
فالموقف الأوكراني يعبر عنه الدبلوماسي الأوكراني فولوديمير شوماكوف قائلا إن المفاوضات “فشلت لأن روسيا لا تريد السلام أو حتى الهدنة”.
وأضاف -في تصريحات للجزيرة نت- أن مفتاح الحرب بيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحده، مؤكدا أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب “متحيز بشدة لموسكو ويمنح بوتين شعورا بالإفلات من العقاب”.
أما الموقف الروسي فيذهب إلى اتجاه آخر، وقد يتجاوز الأهداف الدائرة حول الحرب نفسها إلى بعد أكثر براغماتية، فالمحلل الروسي أندريه أونتيكوف يرى أن المفاوضات الأخيرة “فتحت بابا جديدا للحوار بين موسكو وواشنطن”.
وأوضح -في تصريحات للجزيرة نت- أن لقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع ترامب ساعد في توضيح الموقف الروسي، ودفع الرئيس الأميركي للحديث عن “حل شامل” بدلا من الاكتفاء بوقف إطلاق النار.
تجميد الصراع
الخلاف بين الطرفين لم يكن منحصرا فقط في الأهداف المنتظرة من المفاوضات، بل تعداها إلى شكل التسوية التي يمكن أن يطمئن إليها المفاوضون وتكون أساسا للبناء عليها.
فشوماكوف يؤكد أن كييف تسعى إلى السلام “ولو عبر تجميد الصراع على خطوط التماس كحد أدنى”. لكنه في الوقت نفسه يستبعد أي تنازلات دستورية يمكن أن يقدم عليها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، مضيفا أن “بوتين لا يريد منطقة دونباس فقط، بل يسعى للسيطرة على كامل أوكرانيا وتغيير نظامها السياسي”.
وعلى الجهة الأخرى يعبر أونتيكوف عن الرؤية الروسية لشكل التسوية الممكنة، فيرى أن “وقف إطلاق النار وحده سيبقى مؤقتا”، مبينا أن موسكو تريد “سلاما دائما يزيل جذور الأزمة”، وهو ما يتطلب -حسب قوله- انسحاب القوات الأوكرانية من مناطق دونيتسك ولوغانسك وزاباروجيا وخيرسون، وتقليص الجيش الأوكراني، وضمان عدم انضمام كييف إلى الناتو أو الاتحاد الأوروبي.
التنازلات
ويعد الحديث عن التنازلات التي يمكن أن يقدمها الطرفان بابا يدخل منه الوسيط الأميركي لمحاولة جسر الهوة وبناء الثقة، فقد قال جيه دي فانس نائب الرئيس الأميركي لشبكة إن بي سي إن “الروس قدّموا تنازلات مهمة للرئيس ترامب للمرة الأولى منذ 3 أعوام ونصف العام”، مشيرا إلى استعداد موسكو لإبداء مرونة بشأن بعض مطالبها الأساسية.
ومع ذلك، تبقى الرؤية لشكل التسوية بين روسيا وأوكرانيا بعيدة، فأونتيكوف يقول إن “تبادل الأراضي” مطروح. في حين يشدد شوماكوف على أن “أي تنازل سيشجع روسيا على التمدد أكثر”، مشيرا إلى أن أوكرانيا حققت بعض المكاسب الميدانية في دونباس، بينما لم تتمكن موسكو إلا من السيطرة على نحو 20% من الأراضي مع خسائر بشرية فادحة، حسب تعبيره.

الضمانات الأمنية
وفي ما يتعلق بالضمانات الأمنية التي يمكن أن تشجع على الوصول إلى اتفاق بين الطرفين، خلص تقرير مجموعة الأزمات إلى أن أي اتفاق واقعي قد يتضمن قبول أوكرانيا بخسارة بعض أراضيها مقابل الحفاظ على جيش قوي ودعم غربي طويل الأمد، مع تخفيف تدريجي للعقوبات عن روسيا وآليات مراقبة دولية.
وأكد التقرير أيضا أن التحدي الحقيقي لا يكمن في صياغة التفاصيل، بل في إقناع الأطراف بأن السلام أفضل من استمرار الحرب، وفي وقت يبقى فيه موقف الرئيس الروسي من سيادة أوكرانيا غير محسوم، ومع تأكيد الدور الأميركي النشط في أي مفاوضات بوصفه شرطا أساسيا لجعل السلام أكثر قبولا من الطرفين.
أما المحلل الأوكراني شوماكوف فيرى أن الغرب قدم ضمانات قوية لكييف عبر الدعم العسكري والاقتصادي، وهو ما سمح للجيش الأوكراني بالصمود واستعادة مدن كبرى مثل كييف وخاركيف وخيرسون.
وفي المقابل، يحذر المحلل الروسي أونتيكوف من إهمال ضمانات موسكو، مشيرا إلى أن وزير الخارجية الروسي اقترح إنشاء آلية دولية تشمل الولايات المتحدة وأوروبا والصين لتوفير التزامات متبادلة، مشترطا ألا تعني هذه الضمانات مزيدا من التسليح لكييف.
وفي فبراير/شباط 2022، شنت روسيا هجوما عسكريا واسع النطاق على أوكرانيا، وباتت اليوم تسيطر على نحو 20% من أراضيها، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو إلى أقاليمها بقرار أحادي الجانب عام 2014.
وتسبب النزاع في مقتل أو إصابة نحو مئات الآلاف من الجنود والمدنيين من الجانبين وفرار الملايين، ودمرت الحرب مدنا وبلدات في شرقي أوكرانيا وجنوبيها، وكذلك أثار النزاع أكبر أزمة في العلاقات بين الغرب وروسيا منذ الحرب الباردة.