في عام 1976، وفي ظل دكتاتورية أنور خوجا الشيوعية التي حوّلت ألبانيا إلى دولة ملحدة دستوريا، والتي دأبت على إيداع المسلمين الممارسين لعبادتهم السجن، لم ينجُ هذا المصحف إلا بفضل صغر حجمه.
يكرر ماريو بروشي الطقوس نفسها دائما، فيغسل يديه ووجهه ويقبّل 3 مرات مصحفا بالغ الصغر -تناقلته عائلته الألبانية من جيل إلى جيل- ثم يرفعه إلى جبهته.
ونجا هذا المصحف -وهو من بين الأصغر حجما في العالم وفقًا للمتخصصين- من تقلبات الزمن والحروب والدكتاتورية الشيوعية. واليوم، تحتفظ عائلة بروشي به داخل صندوقه الفضي في شقتها بالعاصمة الألبانية تيرانا.
يقول ماريو بروشي (45 عامًا) وهو فني في مجال الأشغال العامة في عاصمة الدولة البلقانية الصغيرة لوكالة الصحافة الفرنسية “لقد احتفظنا به (المصحف) من جيل إلى جيل بتفانٍ مطلق لأنه حقا عزيز علينا”.
ويبلغ طول المصحف ذي الغلاف المخملي المطرّز بالذهب 2.5 سنتيمتر وعرضه سنتيمتران، وسمكه سنتيمتر واحد، ولا يمكن قراءة النص إلا باستخدام عدسة مكبرة صغيرة مدمجة في غطاء الصندوق.
ويصعب تحديد التاريخ الذي يعود إليه هذا المصحف في ظل غياب التحليلات العلمية، لكنّ الباحث في العلوم القرآنية إلتون كاراج يعتقد أن المصحف المؤلف من نحو 900 صفحة قديم جدًا.
ويلاحظ أن “هذا المصحف طُبع بحجم بالغ الصِغر، وهو من أصغر المصاحف في العالم”. ويستنتج من خصائصه أن “تاريخ نشره يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر”، ويضيف أنه “من حسن الحظ أن هذه النسخة المميزة موجودة في ألبانيا”.
مصحف الأجداد
وتفيد رواية العائلة بأن هذا المصحف المصغر كان حافزًا لإشهار أسلاف ماريو بروشي إسلامهم، إذ كانوا قبل ذلك مسيحيين كاثوليكيين.
ويخبر ماريو، وهو أب لفتاة في الخامسة، أن أجداد أجداده “كانوا يحفرون لتشييد أساسات منزل جديد في منطقة دياكوفيتشا في كوسوفو عندما عثروا على جثة كانت لا تزال محفوظة بأكملها، لرجل مدفون في المكان”.
ويضيف ماريو أن “القرآن كان لا يزال في حال سليمة على قلب الرجل”. ورأت الأسرة في ذلك علامة إلهية وقررت اعتناق الإسلام.
وكان جد ماريو يومها ضابطًا في جيش العاهل الألباني الملك زوغ في ثلاثينيات القرن العشرين، وكان يجيد اللغة العربية ويدعو أصدقاءه إلى منزله كل مساء لقراءة آيات منه.
وبعد عقود، في عام 1976، وفي ظل دكتاتورية أنور خوجا الشيوعية التي حوّلت ألبانيا دولة إلى ملحدة دستوريا، والتي دأبت على إيداع المسلمين الممارسين لعبادتهم السجن، لم ينجُ هذا المصحف إلا بفضل صغر حجمه.
ويقول ماريو إن “أحدهم أبلغ الشرطة السرية بأن لدينا مصحفًا في منزلنا، لكنّ والدي تمكّن من إخفائه نظرًا إلى أنه صغير جدا. لم يترك العملاء زاوية من المنزل إلا وفتشوا فيها، لكنهم لم ينجحوا في العثور عليه”.
قصص كوسوفو وألبانيا
وعلى إثر هذه الحادثة، عهد والده إسكندر بالمصحف إلى أصدقاء له في مدينة بريزرين في كوسوفو التي كانت إقليمًا في يوغوسلافيا السابقة، بعدما اختبأ في شاحنة مليئة بالفحم لعبور الحدود من ألبانيا المغلقة يومها على العالم.
ووارى أصدقاؤه المصحف الثمين، ولم يسترده إسكندر إلا بعد نهاية الحرب في كوسوفو عام 1999، وأعطى الكتاب إلى ماريو قبل وفاته عام 2012.
ويرى الابن أن “هذا الكتاب الصغير يختزن كثيرا من القَصص والبركات والمعجزات”.
وتقول زوجته بليرينا إن “في كل مرة ألمسه، أتأثر”.
وترى أن المصحف يجلب الحظ السعيد، “فعندما يحدث أمر سيئ أو عندما تمرض ابنتنا، نشعر بالطمأنينة، ونعلم أن القرآن سيحمينا”، على حد تعبيرها.
وتلقت العائلة عروضًا عدة لشراء مصحفها، بعضها من متاحف.
ويقول ماريو “لم أفكر مطلقًا في بيعه (…). هذا القرآن (المصحف) لعائلتنا وسيبقى معنا دائمًا”.