ينقل العمل رؤية مفادها أن الإرهاب ليس إلا لافتة يتم تعليقها على كل بوابة لا تفتح للمستعمر أبواب الأوطان، وأن هذه الحقيقة لا يعرفها جنود الأنظمة الاستعمارية، ولكنهم حين يعرفونها سيتغير موقفهم تماما وينحازون للحق.
كانت سنوات ما بعد تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001 وحتى نهاية العقد الأول من القرن الحالي هي الأسوأ في تصوير العربي والمسلم على شاشات السينما العالمية والأميركية بشكل خاص.
لكن السنوات التالية شهدت تغيرا ملحوظا في معالجة الأمر، ولعل صناع الأفلام في هوليود بدؤوا بالتأمل قليلا في ذلك الشخص الذي تم تحميله كل أوزار الحضارة الغربية من احتلال وقهر، ومن ثم تنميطه باعتباره إرهابيا قادما من الشرق الأوسط، وخاصة بعد الجرائم العسكرية الغربية التي أودت بحياة الملايين في المنطقة خلال العقدين الأخيرين.
ولم تكن السينما الفرنسية بمعزل عن تلك الإدانة العمياء لكل ما هو عربي أو مسلم، لكن مع أفلام العقد الثاني من القرن الحالي يبدو أن حقيقة الصراعات السياسية التي يتم توريط الأبرياء فيها وإدانتهم قد بدأت تلامس الضمير السينمائي، فبدأت تظهر أفلام لا تشير إلى براءة العربي والمسلم فقط، ولكنها تكشف حقيقة المتآمر الغربي الذي يتولى أعلى المناصب في دولة مثل فرنسا.
ويقدم فيلم “متعدد الهويات” (AKA)، الذي يعرض حاليا على شبكة نتفليكس نموذجا حقيقيا لفيلم تتوفر فيه عناصر الإثارة والتشويق، كما يقبض على مفاتيح شخصيات أبطاله ويتابع تطور وعي كل منها من السذاجة والانسياق إلى الوعي وميلاد الإرادة.
وتدور أحداث “متعدد الشخصيات” حول عميل سري للقوات الخاصة الفرنسية اسمه “آدم فرانكو”، ويجسده الممثل ألبان لينوار، يتم تكليفه بعملية اغتيال الشاب المسلم “مختار الطيب” (يلعب دوره كيفن لين) بذريعة أنه حاول تفجير فندق في باريس.
ينتحل العميل هويات مختلفة، لكنه هذه المرة يتسرب إلى إحدى العصابات التي تتعاون مع الطيب باعتباره “آدم فرانكو”، وهي شخصيته الحقيقية في الفيلم، ويتم تقديمه للعمل في الحراسة الشخصية لدى رئيس العصابة الذي يكلفه بحراسة ابنه الصغير ذي السنوات الست.
يقترب العميل من هدفه الرئيسي وهو مختار الطيب، لكن صراعات العصابات تؤدي إلى اختطاف الطفل، فيقرر العميل تحريره من خاطفيه عبر معركة شرسة، ثم يواجه مختار الطيب، ليكتشف حقيقة المؤامرة التي تبدأ بالوزير الفرنسي وتنتهي به، فيفضح العملية في الصحف بعد قتل الطيب من قبل قوات العمليات الخاصة الفرنسية.
اختبارات أخلاقية
اختباران أخلاقيان يتعرض لهما “آدم فرانكو” في المخابرات الفرنسية في فيلم واحد، وينجح في تجاوزهما؛ في المرة الأولى، حين يقرر تحرير ابن زعيم العصابة من خاطفيه المنافسين لوالده رغم أن ذلك الزعيم هو أحد أهدافه من العملية، وفي المرة الثانية ينجح أيضا، حين يقرر الانحياز للشاب “مختار الطيب” الذي غدر به حليفه الفرنسي، ودعاه للقدوم إلى باريس، ليقتله ويلصق به تهمة الإرهاب.
في فيلم “متعدد الهويات”، تقول السينما ما لا تجرؤ الصحف أحيانا على قوله، إذ ينقل العمل رؤية مفادها أن هذا “الختم” الممجوج الذي يدعى “إرهابا”، ليس إلا لافتة يتم تعليقها على كل بوابة لا تفتح للمستعمر أبواب الأوطان، وأن هذه الحقيقة لا يعرفها جنود الأنظمة الاستعمارية، ولكنهم حين يعرفونها سيتغير موقفهم تماما وينحازون للحق.
الرسالة التي حملها الفيلم الفرنسي تشير إلى نقطة مهمة تتعلق بالسينما الفرنسية مقارنة بهوليود، وهي أن السينمائي الفرنسي قد يتبنى مقاربات درامية أكثر واقعية وصدقا نسبيا بالمقارنة مع هوليود، التي تكاد تصطف خلف رؤية نمطية تتعلق بـ”العربي الإرهابي” وتتحرك في نطاق شديد الضيق حين يثبت العكس، لكنها لا تتجاوز ذلك إلى المتآمر الغربي ضد مصالح ومواطني العالم الثالث.
الممثل والكاتب الفرنسي ألبان لينوار، والذي جسد شخصية البطل “آدم فرانكو” قدم من قبل عدة أفلام لمع فيها، وخلال هذا العمل يدعم مسيرته كنجم في أفلام الحركة، ولعل الانتباه إلى طبيعة العمل والدراما التي قُدمت فيه تؤكد على تأثره كمؤلف للعمل أولا بالأكشن الهوليودي، والمسار البوليسي الذي ينتمي إلى مؤسس القصة البوليسية الأميركي إدغار ألان بو، لكن اللمحة الفرنسية الظاهرة جاءت من خلال المخرج مورغان داليبرت.
اختار داليبرت أن يخترق أطراف باريس وضواحيها، خاصة تلك التي تلجأ إليها العصابات بعيدا عن عيون الشرطة، وقرر أن يقدم حركية مختلفة عن النسخة الأميركية التي تعتمد اللقطة المكبرة للسلاح، يليها الوجه الخائف، ثم موضع الرصاصة، ورغم الكم الهائل من السلاح والقتلى إلا أنه يمكن إحصاء المعارك الكبرى في العمل، وهي لا تزيد على 4 معارك، أولاها في المشهد التمهيدي.
استطاع داليبرت ولينوار أن يرسل عبر الصورة رسالة بليغة، حيث يلتقي الوزير الفرنسي المتآمر بقائد قواته الخاصة، إما في النادي بينما يتريض أو في أحد المطاعم، أو وهو يستعد للنوم، وهي رسالة بسيطة تؤكد أن ما يحدث في هذه العملية التي تستهدف مختار الطيب هي عملية خارج سياق العمل المكلف به الوزير، وتشير أيضا إلى ذلك الفراغ الذي يكاد يلف حياته إلا من متابعة قواته الخاصة وعملياته القذرة.
نساء العصابات
ثمة فهم عميق للمشاعر العربية والمشرقية يتجلى في أداء الممثلين المكلفين بتجسيد الشخصيات العربية مثل مختار الطيب وشقيقه حسن، وأصدقائهما، ورغم كل ما يحسب للعمل إلا أن لمحة خاطفة لشخص قطع صلاته استجابة لآخر يناديه تؤكد أن أصحاب العمل لا يفهمون بعمق السمات الخاصة للعبادة في الإسلام.
وتعد السمة المميزة للعصابات العائلية هي التماسك، لكن في فيلم “متعدد الهويات” تظهر العصابة التي يتزعمها “فيكتور” مفككة تماما، فالزوجة تتجسس لصالح عصابة منافسة، والابنة تكره الجميع وتحلم بالخلاص من العائلة ولا تثق بأحد.
رغم ذلك تلجأ ناتاليا زوجة زعيم العصابة (تلعب دورها زفيفا ألفيتي) إلى “فرانكو”، ليجلب لها ابنها المختطف، وتؤكد أن العصابة لن تتحرك، وأن زعيمها لن يبذل أي جهد لأن ابنها المختطف ليس من دمه، أما الابنة منى (جسدتها الممثلة الشابة ناتالي أودزيريجكو)، فتقترب من العميل بعد نفور منه، ومن ثم تنقذه حين يصاب برصاصتين في بطنه، وتعالجه. المرأة الثالثة في العمل هي ضابطة الشرطة التي ضحت بروحها بمنتهى الحماس، وقتلت 3 من أفراد العصابة بعد أن يتم اكتشاف أمر العميل.
يكشف الفيلم حقيقة وحشية، وهي أن أسباب الصراع هي الثروة، سواء ذلك المال الذي خدع الوزيرُ الفرنسي به الجميع مؤكدا أنه مخصص لعملية إرهابية في باريس، أو تلك الثروة التي سعت -ولا تزال- الدول الاستعمارية للسطو عليها في دول المنطقة، وتُجنّد في سبيل ذلك بعض أبناء الأرض وتصم من يرفض التفريط في ثروات بلاده بالإرهاب.