في المشهد الافتتاحي لفيلم “الساموراي” 1967 (Le Samourai)، يستلقي “جيف كوستيلو” أو “آلان ديلون” على سريره في غرفة ذات إضاءة خافتة وأثاث بسيط، يصنع دخان سيجارته مع الإضاءة الخافتة تيارات من الحركة الهشة والوهمية، لا يكسر الصمت سوى أصوات طائر مغرد في قفص، ينهض “ديلون” ويقترب من الطائر المحبوس، ثم يرتدي معطفا وقبعة، ويخرج من الشقة البسيطة بعزم واضح كأنه اتخذ قرارا ما.

| Le Samourai | Opening Scene | Alain Delon | Jean-Pierre Melville | 1967 |

يتحول ذلك المشهد، الذي كشف من اللحظات الأولى للفيلم عن الطبيعة المتحفظة للشخصية والدقة التي يتميز بها “جيف كوستيلو”، فضلا عن الحضور الهادئ، إلى لحظة لا تنسى في تاريخ السينما، ويصبح رمزا لمسيرة الممثل الفرنسي “آلان ديلون” المهنية، ويضفى بساطة مدهشة على فن الأداء فيما بعد، وخاصة لشخصيات “القتلة” من أمثال” كوستيلو”، وبعد ما يقرب من ستين عاما، يثبت “آلان ديلون” قدرته على الاحتفاظ بإيقاع هادئ في الحياة كما في الفن بالرحيل دون صخب عن الحياة يوم الأحد الماضي 18 أغسطس/آب الجاري 2024.

ولادة من رحم المعاناة

“آلان ديلون” ليس مجرد اسم لممثل فرنسي مشهور، ولكنه الاسم المرادف للعصر الذهبي للسينما الفرنسية، أما قصة حياته، فهي عبارة عن نسيج معقد من اللهو والمأساة ومن سوء الحظ بشكل أكثر من بائس، ومن وفرة الحظ بشكل مذهل.

وتتشابك خيوط النجاح والتألق المهني لـ”ديلون” مع الخيوط الأكثر قتامة من الألم الشخصي، ويبقى أقسى ما فيها هو ذلك الألم الخفي الذي بدأ مع وعيه بذاته وبالحياة، ورغم قدرة النجاح المهني على العمل كمسكن لهذا الألم، إلا أنه ظهر منذ عامين و دفعه لطلب الموت الرحيم في محاولة للتخلص من عبء رفض الأبوين للطفل المدعو “آلان” لأنه لم يعد له مكان في حياة أي منهما، وعبء رفض جديد لحياة تؤكد له أن لا مكان له فيها وإن صنعها عبر مشوار حياته الذي تجاوز الثمانين عاما.

ولد “ديلون” في 8 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1935 في فرنسا، وكانت حياته المبكرة تتسم بالرفض والتخلي، وهي التجارب التي شكلت نفسيته وتردد صداها طوال حياته.

انفصل والدا ديلون عندما كان في الرابعة من عمره فقط، وهو حدث مؤلم حدد نغمة طفولته المضطربة وأزمته المزمنة، ولم يكن أي من الوالدين يرغب في رعايته، فسلماه إلى أسرة بديلة لتتبناه، فترك هذا التخلي المبكر ندوبا عميقة على “ديلون”، مما عزز شعورا بالعزلة وعدم الثقة الذي سيتبعه إلى مرحلة البلوغ، وكانت جروح هذا الرفض عميقة لدرجة أن “ديلون” قطع لاحقا كل العلاقات مع والديه، ورفض أي اتصال بهما لسنوات، ولم يكن هذا القرار نابعا من الغضب فحسب، بل كان نابعا أيضا من شعور عميق بالخيانة لقلب طفل تعلم القسوة بإدراكه أنه غير مرغوب فيه.

من دائرة الألم إلى القتل الرحيم

بعد ستة عقود، قضاها “آلان ديلون” تحت أضواء الشهرة والنجومية، بأدواره التي جعلت منه رمزا خاصا ونجما عابرا للأجيال، آن للنجم الوسيم أن يترجل، لا لتغيب عنه أضواء الشهرة، وإنما ليتغير لونها، وتصبح مزيجا من أضواء الشفقة، والحسرة على أيام ولت ولن تعود.

كان “ديلون” قد بلغ الـ86 حين أعلن في عام 2022 عن رغبته في “القتل الرحيم”، وهو خيار قانوني في سويسرا حيث يقيم، كان قراره مدفوعا بتدهور صحته والرغبة في تجنب المعاناة الطويلة، طبقا لتصريحاته في ذلك الحين.

كان واقع الأمر أكثر قسوة، إذ تورط أبناء “آلان ديلون” في صراع معقد ومثير للجدل حول ثروته، وهم ثلاثة أبناء أكبرهم هو “أنتوني” ابنه من الممثلة “ناتالي ديلون”، و”أنوشكا” ابننه من عارضة الأزياء الهولندية “روزالي فان بريمن”، و”آلان فابيان” شقيقها، ونشأت التوترات بشكل أساسي من الاختلاف حول كيفية إدارة الثروة وكيفية الحفاظ على الإرث، وانقسمت العائلة إلى فريقين، أحدهما يقف فيه الابن الأكبر وحده، بينما يشكل الأب مع ابنته “أنوشكا” وابنه الأصغر “فابيان” فريقا آخر.

وحاول الممثل الكبير التكتم على الأمر وعدم الرد على ابنه الذي لجأ إلى الإعلام، لكنه استسلم في النهاية، ليؤكد حقيقة وجود الصراع، والذي لا يتمثل في القيمة المادية فقط، وإنما في إرث “آلان ديلون” وكيف سيتذكره الفرنسيون وجمهوره في العالم كله، وكان السؤال هل من المقبول أن يشكل إرث الرجل الذي أسر الجماهير لعقود من الزمان، مشهدا لصراع عائلي مؤلم؟

انعكس الصراع على “ديلون” حين حُكم لصالح الابن الأكبر، وفُرضت وصاية قضائية على النجم الذي لم يعد يستطيع التصرف في أمواله أو أصوله إلا في حدود ضيقة، وجاء الحكم بعد أن فقد “ديلون” رفيق نجاحه وصديقه الأقدم الممثل “جان بول بلموندو”، الذي شكل معه الثنائي الأبرز في الموجة الجديدة للسينما الفرنسية، كان لقاؤهما الأول بفيلم “كوني جميلة واصمتي” 1958 (Be Beautiful But Shut Up)، لتبدأ بعده منافسة ثم صداقة استمرت حتى آخر لحظة من حياة “بلموندو”.

وفي تصريح لشبكة “سي نيوز” (CNews) الفرنسية، قال “آلان ديلون” باكيا: “خسرت اليوم أخا وصديقا، أنا مدمر تماما، سأحاول الصمود كي لا أحذو حذوه في الساعات القادمة، ما كان الأمر ليكون سيئا لو غادرنا معا، فلقد بات جزءا مهما من حياتي منذ بدأنا معا قبل 60 عاما”.

لم يعد ديلون يرى سببا للاستمرار، فقد رحل صديقه الأقرب، وخانته قدراته الصحية، وتحولت الأضواء إلى إشارات للحسرة والصراع الأسري والكراهية؛ فأراد الموت الرحيم.

موهبة توجتها النساء إلى نجومية

ساهمت النساء في حياة “آلان ديلون” المبكرة وعبر مسيرته المهنية بشكل كبير في صعوده إلى الشهرة، حيث قدمن الدعم العاطفي، والتوجيه المهني، والفرص الحاسمة التي ساعدته في ترسيخ نفسه كرجل رائد في السينما الأوروبية، ومنهن ممثلات مثل “رومي شنايدر” و”ناتالي ديلون”، اللتان شاركتاه الشاشة وحياتهما، إلى صديقات مثل “سيمون سينوريت”.

كان دخول “ديلون” إلى عالم السينما مصادفة إلى حد ما، وكانت الممثلة الفرنسية “بريجيت أوبر” هي بوابته للدخول إلى عالم الفن السابع، حيث التقى بها في منتصف الخمسينيات بينما كان يكافح من أجل إيجاد مكان له في فرنسا ما بعد الحرب. أعجبت أوبر بمظهره، وقدمته لمجموعة من الأشخاص المؤثرين في صناعة السينما، مثل مكتشفي المواهب والمنتجين، وكان هذا التعريف خطوة حاسمة في إطلاق مسيرته التمثيلية، مما أدى إلى اختباراته الأولى على الشاشة وفي النهاية دوره الأول.

أما “ناتالي ديلون”، فهي زوجته الأولى وزميلته في البطولة، والتقت به في أوائل الستينيات، وسرعان ما تطورت علاقتهما إلى شراكة رومانسية ومهنية، وقد لعبت “ناتالي” دور البطولة إلى جانب “ديلون” في فيلم “الساموراي”، وهو أحد أكثر أدواره شهرة، وعلى الرغم من أن زواجهما لم يدم طويلا، إلا أن تأثير نجاحهما معا على مسيرته المهنية كان كبيرا.

وربما كانت العلاقة الأكثر تحديدا في مسيرة “آلان ديلون” المهنية المبكرة مع الممثلة النمساوية “رومي شنايدر”، فقد التقيا في عام 1958 في موقع تصوير فيلم” كريستين” (Christine)، وهو الفيلم الذي دفع “ديلون” إلى النجومية العالمية، وساعدت “رومي شنايدر” التي كانت في قمة جماهيريتها وشهرتها “آلان ديلون” على الصعود الصاروخي في عالم صناعة الأفلام، وربطت تلك العلاقة “ديلون” بشخصيات مؤثرة في عالم السينما الأوروبية، خلقت قوة نجم “شنايدر” وموهبة “ديلون” الناشئة ديناميكية قوية أسرت الجماهير ووسائل الإعلام على حد سواء، وأصبح الزوجان أحد أشهر الأزواج في السينما، وغالبا ما يُنسب إلى علاقتهما المساعدة في ترسيخ سمعة ديلون كرجل رائد في صناعة الأفلام.

كانت الممثلة “سيمون سينوريت” المرأة الرابعة في حياة “ديلون” المهنية، وقد عملت معه في فيلم “روكو وإخوته” 1960 (Rocco and His Brothers) من إخراج “لوتشينو فيسكونتي”، على الرغم من أن “سينوريت” لم تلعب دور البطولة في الفيلم، إلا أن تأثيرها على “ديلون” خلال هذا الوقت كان عميقا، لقد أدركت إمكاناته ووفرت له التوجيه بينما كان يصقل حرفته.

وفي الفيلم، يجسد “ديلون” دور “روكو”، وهو شاب ينتقل مع عائلته من جنوب إيطاليا إلى ميلانو، سمح دور “روكو” لـ”ديلون” باستكشاف شخصية عاطفية ودرامية عميقة.

محطات خلدتها السينما

لعب “آلان ديلون” العديد من الأدوار الملحمية طوال مسيرته المهنية المرموقة، وقد ساهم كل منها في تعزيز مكانته كشخصية أيقونية في السينما، كما تركت أيضا علامة لا تمحى على الفن السابع نفسه، وأثرت على عدد لا يحصى من الأفلام والعروض التي تلتها، ويعد دور “جيف كوستيلو” في فيلم ” الساموراي” أكثر أدواره شهرة، حيث جسد دور قاتل مأجور صارم ودقيق يلتزم بقواعد شخصية صارمة، والفيلم، الذي أخرجه “جان بيير ميلفيل”، هو درس رئيسي في السرد القصصي البسيط، وتجلت في أداء “ديلون” الطبيعة الباردة المنفصلة لشخصية القاتل بشكل مثالي، وأصبح الدور معيارا للنموذج الأولي للقاتل “البارد” في السينما.

وفي فيلم ” ظهيرة أرجوانية” Plein Soleil)) 1960 -المقتبس من رواية باتريشيا هايسميث- “السيد ريبلي الموهوب” The Talented Mr. Ripley))، يلعب “ديلون” دور “توم ريبلي” الساحر والماكر بشكل خطير، وكان تصويره لشخصية “ريبلي”، الشخصية التي تحركها الغيرة والطموح، مخيفا وجذابا في الوقت نفسه، وأظهر هذا الدور قدرة “ديلون” على لعب شخصيات معقدة وغامضة أخلاقيا.

أما في فيلم “بورسالينو” (Borsalino) 1970، فقد لعب “ديلون” دور البطولة إلى جانب “جان بول بلموندو” في دور رجل عصابات ساحر وقوي في مرسيليا خلال ثلاثينيات القرن العشرين، ساعد تصوير الفيلم الأنيق للعالم السفلي الإجرامي والأداء الكاريزمي لـ”ديلون” في ترسيخ صورته كنجم للسينما الأوروبية.

وفي فيلم “الفهد” (The Leopard) 1963، يلعب فيها “ديلون” دور ابن شقيق الأمير الصقلي المسن الوسيم والطموح، والذي يلعب دوره “بيرت لانكستر”، وتدور أحداث الفيلم أثناء توحيد إيطاليا، وهو استكشاف رائع للتغيير والتقاليد، كما يتميز أداء “ديلون” بالأناقة والدقة.

شاركها.
Exit mobile version