لم يتخيل استشاري الجراحة المصري الدكتور عصمت النمر، أنه قد يضطر في يوم من الأيام إلى بيع أي من مكتبته الشخصية، أو أرشيفه الموسيقي الضخم تحت أي سبب، لكن جاءت الرياح بما لم يشته الباحث في التراث الشرقي القديم، واضطر عبر منشور على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيس بوك إلى الإعلان عن عرض ما لديه من أرشيف موسيقي تراثي سمعي للبيع.

مئات من شرائط الكاسيت، آلاف من الملفات الموسيقية لتسجيلات التراث القديم في نهايات القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20، مئات الأسطوانات المدمجة، و”الهاردات” (أقراص الحاسوب الصلبة) التي تحوي أدوارا، وطقاطيق، وتواشيح، وتلاوات قرآنية نادرة، وابتهالات وسهرات، للبيع.

موسيقى تعود إلى نهايات القرن الـ19

قضى رئيس قسم الجراحة في مستشفى الزقازيق العام سابقا، أكثر من 50 عاما من حياته في جمع ما لديه من أرشيف ضخم، يحكي القصة للجزيرة نت: “بدأت اهتمامي في سبعينيات القرن الماضي، ورثت عن والدي جهاز فونوغراف، ومجموعة كبيرة من الأسطوانات، ثم واصلت جمع المزيد منها عبر زياراتي إلى سوق الثلاثاء في مدينة الزقازيق حيث أقيم، ولاحقا توسع اهتمامي، فبدأت التواصل مع المهتمين ممن لديهم أسطوانات وبدأنا في تبادل ما لدينا، وتسجيل المزيد من القطع الموسيقية النادرة، حتى صار لدي مخزون ضخم”.

لم يكتف الطبيب البالغ من العمر 74 عاما باقتناء التراث السمعي الذي يحب، ولكنه أراد نشره أيضا، يقول: “أنا مهموم بالتراث بشكل عام، والتراث السمعي بشكل خاص، التراث القديم محفوظ في الكتب بشكل جيد، لكن التراث السمعي في مهب الريح، تحديدا ذلك الذي يعود إلى الفترة من نهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، لم يصلنا منه إلا ما تزامن مع ظهور الآلة السحرية العجيبة الفونوغراف، وصولا إلى انطلاق الإذاعة المصرية عام 1934”.

تتبع النمر مسار الفونوغراف في مصر، يقول: “في البداية قابله الناس برفض شديد باعتباره بدعة، ثم بدأ في الانتشار وتنوعت الأسطوانات أو ما يقال عنه الكوبايات، فمن الشمعية وصولا إلى البلاستيكية، وهي فترة تكاد تسقط من الذاكرة المصرية، رغم أهمية تلك الأسطوانات وموسيقى تلك في الفترة في التعبير عن شكل الحياة والمجتمع في مصر بتلك الفترة”.

25 ألف ملف موسيقي يبحث عن مشتر

ألف النمر كتابين في مجال الموسيقى التراثية، وحاول نشر الوعي بالموسيقى التراثية على طريقته، يقول صاحب كتاب “طرب زمان”: “لم أتوقف عند حدود أسطوانات الفونوغراف، فقد كانت ضعيفة ومصيرها الاختفاء، لذا حاولت مواكبة التطور، فقمت بنقلها إلى شرائط كاسيت، ثم أخيرا قمت بتحويلها إلى صيغة إم بي 3 لتكون صالحة لأجهزة الكمبيوتر، وأردنا إتاحتها للجمهور، فقمت بصحبة المخرج السينمائي محمد حسان، وصديق من اليمن، إطلاق موقع سماعي للموسيقى التراثية، والذي أتاح لمن يملك مقاطع موسيقية نادرة إضافتها وهو ما كان بالفعل”.

يقدر النمر إجمالي ما لديه بـ25 ألف ملف موسيقي تراثي، أراد لها أن تصل بصورة أكبر، فقام أيضا بإطلاق راديو إلكتروني باسم راديو مصر فون، يقول للجزيرة نت: “سميته باسم شركة الراحل محمد فوزي، أقوم كل يوم باختيار موسيقي مصري مختلف كبطل للسهرة، مرة يوسف المنيلاوي، مرة الشيخ درويش الحريري وهكذا”.

حلم “النمر” أن تتاح له نصف ساعة بإحدى محطات الراديو على التردد إف إم، أراد أن يقدم برنامجا يحمل للمشاهدين موسيقى تراثية نادرة من طقاطيق وموشحات ومارشات، لكن الأمر بدا مستحيلا وسط ما وصفه بـ”الصخب والانهيار”.

يصف النمر المجهود الذي بذله في جمع ما لديه من تراث سمعي بـ”الشاق”، يقول: “استغرق الأمر وقتا ومجهودا ضخما لنقل الموسيقى من الأسطوانات إلى صيغ حديثة من دون الإضرار بالصوت الأصلي، أدوار، ومقامات، وتواشيح، وموشحات، وسلامات، ومارشات نادرة توثق لمراحل هامة في التاريخ المصري”.

من بين القطع النادرة التي يضمها أرشيف النمر، مقاطع للشيخ درويش الحريري الملقب بـ “أبو الموسيقى في مصر”، يقول النمر: “في الربع الخاص بالشيخ الحريري تتلمذ سيد درويش وزكريا أحمد وغيرهم من عمالقة الموسيقى في مصر، حيث منحهم الشيح الحريري أصول الإيقاع والمقامات، وغنى بصوته عددا من الموشحات النادرة التي تعود إلى عصور سابقة، ويوجد لدي أيضا تسجيلات مؤتمر الموسيقى العربية الأولى الذي أقيم عام 1932 وبه توثيق لأصوات عمالقة الموسيقى وقتها فضلا عن مشاركات لمطربين من مصر والجزائر وسوريا والعراق، ويوجد لدي أيضا مارش بعنوان (فتوح مكة) تم تأليفه بواسطة ملحن مجهول لاستقبال الخديوي عباس لدى عودته من الحجاز وغير ذلك الكثير جدا”.

ظروف قاهرة تضطره إلى البيع

لم يكن في حسبان استشاري الجراحة العامة أن الظروف الصحية المفاجئة والصعبة التي تعرض لها مؤخرا ستجبره على التخلي عن أعز ما يملك. بدأت تلك المحنة باضطراره لبيع مكتبته، حيث يقول: “مررت بفترة صحية قاسية جدا كلفتني الكثير من الناحية المادية، مما اضطرني إلى بيع مكتبتي التي تحتوي على 4 آلاف كتاب، وهي أعز ما أملك، ميراث عمري كله، وبعتها بثمن بخس. بعد ذلك، بقيت في المستشفى لمدة شهر، وما زلت أعاني من مشكلة في الكلى. واليوم، أجد نفسي مضطرا لبيع أرشيفي الخاص بالتراث السمعي المصري، كي أتمكن من العيش بكرامة فيما تبقى لي من العمر، دون الحاجة إلى استجداء العلاج أو التسول لتغطية تكاليف المستشفى أو تلبية احتياجاتي الأخرى. هذا القرار صعب جدا بالنسبة لي، كأنني أبيع جزءا من نفسي أو أحد أبنائي، لكنني مجبر على ذلك”.

ويأمل النمر أن تشتري جهة مصرية رسمية أرشيفه، قائلا: “أتمنى أن ينتهي هذا التراث بين أيدي من يقدره حقا، ويهتم بما يمثله من قيمة للتاريخ المصري”.

محاولات للإنقاذ

أثار إعلان الطبيب المصري عن نيته بيع أرشيفه الموسيقي حالة من الحزن بين المثقفين والمهتمين بالتراث، ومن بينهم الكاتبة المصرية إكرام يوسف، التي دعت إلى بذل جهود أخيرة لإنقاذ الأرشيف من خلال اكتتاب شعبي أو البحث عن حلول بديلة. في حديثها لـ”الجزيرة نت”، قالت: “أعرف الدكتور عصمت منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث كان من أبرز رموز الحركة الطلابية في الجامعة، واشتهر بحبه العميق لكنوز الغناء والموسيقى المصرية القديمة”.

وتابعت “ربما يكون الاكتتاب الشعبي باسم المصريين أو تدخل جهة رسمية لشراء الأرشيف، مع وضع قوانين تمنع بيعه مستقبلا، هو الحل لإنقاذ هذا التراث القومي. لقد عرضت الفكرة على الشاعر زين العابدين فؤاد، ونعمل حاليا على إيجاد مخرج للحفاظ على هذه الثروة التي جمعها الرجل بجهده على مدى نصف قرن”.

شاركها.
Exit mobile version