يمكن إطلاق لقب “عام الرعب” على 2024 سواء على المستوى الواقعي أو السينمائي، وذلك بأحداث عالمية شديدة المأسوية، واتجاه سينمائي واضح لإنتاج أفلام الرعب التي تلاقي النجاح على الصعيد التجاري، كما لو أن المتفرج العادي يتجاوب مع هذه الأفلام حتى يتناسى الرعب الذي يعيشه كل يوم.

وفي هذه القائمة جمعنا بعضا من أفضل أفلام الرعب العالمية المعروضة هذا العام والتي رغم أن الرعب -كنوع فيلمي (Gener)- هو المظلة الواسعة التي تضمها، فإن لكل منها خصوصية معينة في نوعها الفرعي، وهو ما يدفعنا لاستكشاف نوع الرعب السينمائي بصوره ونغماته المختلفة، وذلك بالاستعانة بعلم النفس التطوري، وهو فرع مستجد في علم النفس يدرس الجذور البدائية لأفلام الرعب، وقد كتب عنه “كارول أل فراي” مؤلفا بعنوان “الجذور البدائية لسينما الرعب” وصدر بالعربية عام 2021.

المادة

فيلم “المادة” (The Substance) من إخراج كورالي فارجيت ويدور في إطار من الخيال العلمي والرعب حول ممثلة ناجحة للغاية تتراجع شهرتها بعدما بلغت 50 عاما، وبدأت في فقدان جمالها وشبابها بالتدريج، ويأتي لها حل ذهبي يتمثل في تناول عقار دوائي يصنع منه نسخة أخرى أكثر شبابا، ولكن بجانب مثل كل الاتفاقات الأخرى المماثلة هناك شرط واحد على البطلة ونسختها الفاتنة اتباعه، وهو أن لكل منهما أسبوعا واحدا فقط، ثم تخلد إلى النوم مثل الأميرة النائمة لأسبوع آخر، وهكذا بالتبادل بينهما، ومرة أخرى مثل كل هذه الاتفاقات يخل أحد الطرفين به مما يؤدي إلى نتائج كارثية.

يقدم “المادة” الرعب من وجهة نظر “تَمَثُّل الاستحالة” أو التحول الجيني، حيث يقترح علم النفس التطوري أن هناك ما يشبه جرس الإنذار بداخل الإنسان يحذرنا من تلوث وفقدان إرثنا الجيني، وفي هذا الفيلم سعي نحو الشباب الدائم بتناول العقار أو “المادة” مما يحول البطلة في النهاية من إنسانة إلى مسخ، في تحذير واضح من الانغماس في ثقافة الإجراءات والعمليات التجميلية خلال السعي للشباب الدائم.

بيتلجوس بيتلجوس

يجمع “بيتلجوس بيتلجوس” (Beetlejuice Beetlejuice) لتيم بيرتون بين الرعب والكوميديا في تتمة للفيلم الذي حمل نفس الاسم الذي عرض في ثمانينيات القرن الماضي، مستكملا أحداث الجزء السابق. وبعد مرور هذا العدد الكبير من السنوات، أصبحت فليديا ديتز الآن خمسينية وابنتها مراهقة في نفس سن شخصيتها بالجزء الأول، وتعود لمنزل الأشباح بعدما توفي والدها فتجد في انتظارها الشبح الشرير “بيتلجوس” الذي يحاول الزواج منها رغما عن إرادتها مستخدما حيله السحرية.

بوستر Beetlejuice Beetlejuice

وبالعودة إلى علم النفس التطوري نجد أن هذه الثيمة ترجع إلى “تَمَثُّل التزاوج في الرومانسية القوطية” وهي الرومانسية ذات طابع الرعب الذي يميل للنظر للعالم بشكل سوداوي وحزين مع احتفاء زائد بالموت، وهي الصفات التي تنطبق على “ليديا” البطلة وابنتها “أستريد” غير أن الفيلم يغير من هذا التمثل لأن الزواج هنا هو الفخ الذي تهرب منه ليديا وليس الهدف الذي تسعى إليه.

لا تتحدث بشر

“لا تتحدث بشر” (Speak no evil) نسخة أميركية من فيلم دانماركي بنفس الاسم، من إخراج جيمس واتكينز، وتدور الأحداث حول عائلة أميركية تعيش في بريطانيا حيث يعاني الأب بن دالتون من إحباط شديد من حياته، وبينما تقضي الأسرة عطلتها بمنتجع إيطالي صغير يقابلون عائلة بريطانية تحيا في الريف، وبعد صداقة سريعة تتلقى أسرة دالتون دعوة لزيارة المنزل الريفي لبادي وزوجته وابنه، وهناك يكتشفون أن تلك الدعوة ليست مبطنة بالنوايا الحسنة، خصوصا بعد ما تغير سلوك رب الأسرة ليصبح مخيفا للغاية.

ويفسر علم النفس التطوري الرعب في أفلام مثل “لا تتحدث بشر” إلى “تَمَثُّل الآخر” بأنه الرعب الذي ورثه الإنسان من أسلافه البدائيين حول الرعب والخوف وكراهية من ننظر إليهم بارتياب. وللتقسيم الأولي لـ”نحن” و”هم” بالفيلم لدينا وجهتي نظر مغايرتين في الحياة بشكل عام، بين العائلتين الأميركية والبريطانية، بما تحمله هذه الفروقات الثقافية من عادات وتقاليد مختلفة، وتم استخدام هذا الارتياب لزرع أول بذرة للرعب، قبل أن يتطور إلى أحداث مخيفة حقيقية.

قارة

“قارة” (Continente) فيلم برازيلي أرجنتيني من إخراج ديفي بريتو، يبدأ بعودة البطلة أماندا من خارج البلاد إلى قريتها البسيطة في البرازيل لظروف احتضار والدها الذي دخل في غيبوبة كاملة، غير أن هناك الكثير من التفاصيل التي نسيتها أماندا عن القرية خلال غيابها 15 عاما، منها وضع والدها كأهم شخصية في البلدة، والحاكم الآمر الذي يطيعه الكثيرون، الأمر الذي ظنته في البداية لسطوته أو نفوذه وأمواله. لكن خلال الأحداث تبدأ الشكوك تتصاعد بداخلها -وداخل المتفرج- حول علاقات القوة التي تحكم هؤلاء الفلاحين البسطاء بالإقطاعي الثري، فهم يجنون عندما يحتضر، ويطالبون ابنته باحتلال مكانه مهما تطلب الأمر، حتى وإن تحولت إلى نوع عجيب من مصاصي الدماء.

ويمكن قراءة فيلم “قارة” عبر “تَمَثُّل الإقليمية” وهو الذي يتناول السلوك الإقليمي حول رقعة من الأرض تُحتَل بتوظيف القوة أو دون توظيفها ودائمًا ما تحتوي على مورد دائم والإقليم في الفيلم يتمثل في البلدة الصغيرة، والمورد الدائم هنا متبادل بين السكان والإقطاعي المتحكم. فبينما هم يعملون في أراضيه ويكدحون بمقابل محدود، يتحكم هو فيهم بشكل شرير ومرعب فيظنون أن مص دمائهم المجازي والحقيقي هو أسمى ما قد يصلون إليه، ولا يتخيلون حياتهم بدونه.

ويشير الفيلم كذلك بشكل متوار إلى الإقطاع في البرازيل وتحكم أصحاب رأس المال والأرض في الفقراء بشكل يجعلهم لا يرون أن هناك خيارات أخرى أفضل في الحياة، فيسعون إلى الاستبداد بأقدامهم.

لا تتركني أبدا

يدور “لا تتركني أبدا” (Never Let Go) في منزل منعزل تحيا فيه أم وابناها التوأم، وتؤكد هذه الأم على أن العالم بالخارج يسكنه الشر، لذا عليهما البقاء دوما متصلين بالمنزل بحبل، ولا يخرجان إلا في ظروف خاصة، وإلا لمسهما الشر مثلما لمس جديهما ووالدهما أيضا وباقي البشر.

الشر في “لا تتركني أبدا” يمكن إرجاعه طبقا لعلم النفس التطوري لـ”تَمَثُّل المفترسين” والذي يمكن تلخيصه بثيمة “شيء ما هنا يتربص بنا وهو ليس بشرا” سواء كان هذا الشيء وحشا كاسرا أو فيروسا قاتلا لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، أو الفضائيين الأشرار الذين يصطادون البشر أو كما في فيلم “لا تتركني أبدا” وهو “الشر” غير محدد الهيئة.

ويخمن المختصون بعلم النفس التطوري أن همسات الصيادين من أجدادنا مازالت تتردد في عقولنا قادمة من إرثنا الجيني، لذلك يتجاوب مخ المتفرج مع هذا الرعب تجاه الكائن الشرير المجهول.

ويتيح تحليل هذه الأفلام -من وجهة نظر علم النفس التطوري- فهم أسباب نجاح أفلام الرعب عاما بعد عام، حيث تداعب داخل عقول المتفرجين مخاوف أجدادنا البدائيين، والتي لم تطمسها الحضارة والتعليم حتى اليوم ومازال لها بقايا تتجاوب مع الرعب الذي نشاهده على الشاشة.

شاركها.
Exit mobile version