استطاعت المخرجة الأمريكية “أيرين تايلور برودسكى” (54 سنة) من خلال فيلمها الوثائقي الأحدث “أنا سيلين ديون” (I Am: Celine Dion)، أن تظهر شحنة من المشاعر القوية المليئة بالألم والحسرة والفقد والأوجاع، وقد انعكس تأثيرها واضحا على الملايين من المشاهدين ومحبي هذه المغنية الرمز، منذ طرح الفيلم قبل أسابيع قليلة.

مراجعات وكتابات وآهات ودموع كثيرة أطلقها المحبون من كل العالم، فشعبيتها لا تعترف بالحدود الجغرافية، فقد نالت خلال مسيرتها محبة كبيرة من الجماهير على اختلاف جنسياتهم، أثمرت إنتاج 27 ألبوما غنائيا، بيع منها أكثر من 250 مليون نسخة.

I Am: Celine Dion - Official Trailer

كما حازت “سيلين” أهم الجوائز العالمية، من بينها عدد من جوائز “غرامي” الموسيقية التي تعد حلما من أحلام كل مغنّ، وحصلت أيضا على جائزة أوسكار أفضل أغنية أصلية عن فيلم “تايتانيك” (Titanic)، ناهيك عن عدد من التكريمات والتتويجات التي تلقتها خلال مسارها من أرقى الجهات.

“كان صوتي هو قائد حياتي”.. انطفاء الشمعة

الصوت النغمي هو رأس مال كل مطرب، ومن خلاله فقط يُفصل بين صوت الإنسان العادي والفنان، وهو المعطى الأساسي الذي كان يميز “سيلين ديون” عن غيرها، فقد كانت ذات صوت طربي مميز، استطاعت أن تنميه منذ طفولتها، وتدربه وتعطيه من الاهتمام ما يستحق، لتهيئة نفسها بطريقة جيدة للمستقبل.

وهذا ما أقدمت عليه، فقد روّضته وطوّعته لصالحها، لتتسلق قمة المجد والسؤدد، ثم تسللت من خلاله إلى قلوب الملايين من البشر، وأصبح اسمها مقرونا بالحب والسحر والجمال والموسيقى الرائعة والصوت الشجي.

لكن كل تلك الأحلام أصبحت فجأة كوابيس مزعجة، فقد وجدت نفسها محاصرة بالمرض، ولم تعد قادرة على العطاء والاستمرار في هذا الطريق. وبعد معاينات طبية مكثفة، شخّص الأطباء مرضها بما يعرف علميا بمتلازمة الشخص المتيبّس.

وهو مرض نادر جدا يصيب إنسانا واحدا من كل مليون، ويسبب عطب الجهاز العصبي والعضلي والأوتار، ويفقد المصاب به التحكم في عضلاته وأعصابه وجسمه، وبذلك أصبح عصيا على “سيلين” التحكم في أوتار صوتها، فأصبح في الكثير من الأحيان نشازا.

من هنا كان لزاما عليها إيقاف كل حفلاتها، وقد اتخذت هذا القرار الموجع سنة 2021، للاهتمام بصحتها وأسرتها، وملازمة منزلها في مدينة نيفادا الأمريكية.

تقول في الفيلم الوثائقي إنها سئمت الكذب على جمهورها كل مرة، فقد كانت تقول إنها مريضة بالجيوب الأنفية، ومرات بنزلات البرد، لهذا صورت فيديو سنة 2022، أخبرت فيه العالم بمرضها النادر.

بعدها ألغت جميع حفلاتها وبرامجها وجولاتها المحلية والعالمية، وتقول في هذا الصدد: “ليس عسيرا تقديم عرض، بل العسير إلغاؤه”. لكن الضرورات تبيح المحظورات، فالأوجاع التي كانت تصيبها في نوبات مرضها كانت أكثر من أن تُتحمل، لكن وجع فقدان صوتها هو الأكبر، وقد كانت تقول: “قبل أن أصاب بالمرض، كان صوتي هو قائد حياتي”، وبعد تشخيص المرض انطفأ كشمعة، ولم يعد كذلك.

“جُبت العالم كله ولكنني لم أر شيئا”

سجّلت المخرجة “أيرين تايلور برودسكى” كثيرا من اللحظات المهمة والفارقة في حياة “سيلين ديون” بعد مرضها، من خلال ملازمتها في بيتها، وقد التقطت لحظات نادرة، انطلاقا من تصريحاتها وكلامها وتصرفها ونظرتها للأشياء والعالم.

وقد كانت الجمل تخرج من فمها مشبعة بالحكمة، انطلاقا من تجاربها ومرجعياتها وتكوينها في الحياة، ومن تلك التصريحات حديثها عن رحلاتها التي جابت فيها العالم عدة مرات، وهذا حين قالت: “جبت العالم كله ولكنني لم أر شيئا”.

من هنا وجب وضع علامة تعجب، وطرح تساؤل مشروع عن فحوى كلامها، والإجابة يسيرة واضحة، وهي أنها إنما كانت تهتم بالتدريبات، والتركيز على الحفلات، وكيفية تعاملها مع الجمهور وغيرها من المعطيات الأخرى، لذلك لم تستطع أن تتجول أو أن تقف على معالم العالم، فهي إذن لم تر شيئا.

“من أراد الشهرة فليعمل وحيدا، ومن أراد المجد فليعمل مع الآخرين”

من جانب آخر، تتحدث “سيلين” عن علاقتها المقربة بأعضاء فرقتها الموسيقية، وضرورة معاملة كل فرد منها كأنه من الأسرة، لأنه إن لم يشعر بهذا فإنه لن يعطي الكثير.

كما أثنت على ضرورة العمل الجماعي، لأن الإنسان الفرد لا يعطي عطاء كبيرا، وقد ساقت في ذلك جملة في غاية الحكمة والحسن: “من أراد شهرة سريعة، فليعمل وحيدا، ومن أراد المجد فليعمل مع الآخرين”.

لهذا استطاعت “سيلين” أن تصنع مجدها الموسيقى مبكرا، انطلاقا من تفكيرها في الآخر، وقد ظهر هذا من خلال تعاطيها مع فريقها الطبي، وخدمها الذين كانت تراهم جزءا من الأسرة، وتحث أبناءها على ضرورة احترامهم ومعاملتهم بإنسانية، بعيدا عن الطوابق الاجتماعية.

وهي لا تقول ذلك صراحة، ولكن يمكن فهمه من أسلوب حياتها، فمثلا عندما قدم الخادم كأس عصير لابنها لم يقل له شيئا، فلهذا نبهته، فشكره بعدها، وهذه صفة ستزرع فيه مستقبلا، ليكون فردا إيجابيا.

تشجيع العائلة.. بستان أزهرت فيه الموهبة الكبرى

تتحدث “سيلين” في الفيلم عن عائلتها وتشجيعها الكبير، بل رأتها أجمل عائلة، لا سيما أمها، فهي من شجعتها واكتشفت موهبتها في الغناء، ومع أن العائلة كانت متواضعة ماليا، فإنها لم تكن متواضعة في الحب، فقد نشأوا أسرة متحابة ومتكاثفة، لا سيما بعد تضحيات الأم التي لا تعد ولا تحصى.

فقد علمتها أمها أمورا كثيرة حول الموسيقى والغناء، لأن العائلة كانت تحب الفن حبا جما، وقد تعلمت هذا منهم، لذا أصبحت في صباها تغني في البيت، والجمهور هو الأب والأم والأخوة، ثم أضحت تغني في حفلات المدرسة، والأم تعطيها التوجيهات المناسبة، حتى بدأت تشارك في المسابقات المحلية والدولية، في كندا وفرنسا واليابان، إلى أن تفجر اسمها وأصبحت نجمة كبيرة في سماء الغناء العالمي.

كما تحدثت بحسرة كبيرة عن زوجها الذي توفي سنة 2016، بعد أن حاصره مرض السرطان، وهو “رينيه أنجليل” الذي ينحدر من عائلة سورية لبنانية، وهو مصمم أزياء معروف، وكان مديرها الفني، ومع أنه أكبر منها بـ26 سنة، وتزوج قبلها، فإنها أحبته ولازمته في مرضه، وجمعتها به قصة حب كبيرة، أثمرت ثلاثة أبناء.

ومع أن “سيلين” كانت ذات شهرة كبيرة ومشاغل كثيرة، فقد استطاعت أن تؤسس عائلة متماسكة وقوية،

وربما يعود هذا إلى طبيعة الأسرة التي نشأت منها، كما أنها زاوجت بين الفن ومسؤولياتها الشخصية، لهذا نجح زواجها.

نوبات التيبّس…صورة مفزعة عن الألم والمعاناة

مع أن مشاهد نوبات التيبس قد تسبب ألما للمشاهد، فإن المخرجة “أيرين تايلور برودسكى” اختارت أن تعرضها، وهي مشاهد متعددة لنوبات مرض الشخص المتيبّس التي كثيرا ما تتعرض لها “سيلين”، فقد صورتها وبثتها في الفيلم، وهي مقاطع موجعة جدا، تبين مدى الألم الذي تمر به.

لكنها مع كل تلك المعاناة المستمرة منذ سنوات ما زالت تقاوم حتى اليوم، وتتدرب وتستمع لنصائح المدربين الرياضيين والفزيائيين والأطباء، للعودة ولو بجزء قليل إلى جمهورها الذي تشتاق إليه كثيرا، لأن شعور الحماسة الذي يسري في عروقها عندما تواجهه على المسرح لا يمكن وصفه.

لكن تلك الحماسة في نهاية المطاف أصبحت مصدر مرض لها، لأنها حين تشعر بها تصيبها نوبة مرضية، لهذا وجب عليها التعامل بحذر شديد من أمور كثيرة، حفاظا على صحتها أو ما بقي منها.

سحر التفاصيل.. مستويات البوح السينمائي في الفيلم

استطاعت المخرجة السينمائية “أيرين تايلور برودسكى” في فيلمها هذا كسب ثقة “سيلين ديون” وودها، وقد تجلت نتيجة هذا النجاح في الفيلم بشكله النهائي وبمدته الزمنية والدرامية (102 دقيقة)، وبذلك أنتجت وثيقة سمعية بصرية شافية ووافية عن إحدى أعظم مغنيات العصر الحديث، لقطع أي تأويل مستقبلي، أو الذهاب صوب الاحتمالات والكلام غير المؤسس.

ويعود هذا بدرجة أولى إلى أن المخرجة امرأة، شأنها شأن بطلة الفيلم “سيلين”، كما أنهما متقاربتان في العمر، وذلك عامل أساسي أذاب كل الجدران المحتملة، لأن المُلازمة كانت داخل بيتها، ولو كان المخرج رجلا مثلا لواجه كثيرا من الجدران، ولما كان هناك بوح أو فيض روحي.

كما أن ذكاء المخرجة قد انعكس في التركيز على جانب واحد من حياة “سيلين”، مع الاستئناس ببعض الأمور الضرورية التي خدمت الفيلم، لهذا لم تُعدد نجاحاتها وقيمتها الفنية الكبيرة، لأن هذا الأمر معروف ومتداول، بل اتجهت صوب محطات حياتها التي أحدثت فارقا، وركّزت على الجانب الإنساني وطريقة تعاملها مع المرض الذي أوقف أحلامها في مكان معين، وتعاملها هي مع هذا المعطى.

لقد صنعت تلك التفاصيل الصغيرة جمال الفيلم، وأعطته بعده الفني والسينمائي، من خلال قنص اللحظات الفارقة في التسجيلات، والتقاط لحظات الدموع والفرح والضحك ونوبات المرض ومحطات الماضي، وكلها زوايا خدمت فكرة الفيلم العامة، وأعطت المخرجة مثالا حيا على طريق التأقلم الجيد مع مقتضيات الصورة والموضوع، واستثمار كل طرف في توليد لغة سينمائية قوية من جهة.

ومن جهة ثانية، خلق ذلك بعدا جماليا متعددا، من هنا نفهم أن المخرجة ذات مرجعية سينمائية قوية، ولديها بعد إنساني أحست من خلاله بما كان يدور حولها، لهذا استطاعت أن تخرج فيلما وثائقيا مفعما بالروح الإنسانية.

شاركها.
Exit mobile version