بعد موجة ظهور ملكات الطرب في مصر، سيدة اللاوندية والحاجة السويسية والست ساكنة وألمظ وتوحيدة ونزهة، في القرن التاسع عشر، ظهرت المطربة فتحية أحمد لتصبح واحدة من علامات الغناء في القرن العشرين.

مطربة القطرين فتحية أحمد لو هجرك طول صوت رائع و لحن جميل من نوادر الطرب نسخة إذاعية جودة عالية

مارست فتحية أحمد (1898-1975) الغناء منذ صغرها، ثم درست مع كبار مطلع القرن العشرين، على رأسهم أبو العلا محمد، فاحترفت الفنّ تدريجا من خلال انخراطها بالفرق المسرحية (الغنائية) التي ازدهرت في عشرينيات القرن. غنّت بعدها لكبار الملحنين، “شدو بلبل عالغصون” وهي أول أغنية لها، ثم الفالس الجميل “يا ترى نسي ليه”، ورسخت شهرتها بأغنيات مثل: “يا حلاوة الدنيا يا حلاوة”، تلحين زكريا أحمد، و”بلِّغوها إذا أتيتم حماها” تلحين صبرى النجريدي، و”يا ريت زمانك وزماني” لصفر علي، و”أنا الحبيبة صدقني” لمحمد القصبجي.

كما أدت الأشكال الغنائية الطربية من القصيدة إلى الدور والطقطوقة والموّال، وعُرفت بأسفارها الكثيرة بين مصر وسوريا ولبنان وفلسطين، فلقّبها “شاعر القُطرين” خليل مطران -الذي تعرَّف إليها في مدينة زحلة اللبنانية- بلقب “مطربة القُطرين” بحضور محمد عبد الوهّاب وأحمد شوقي اللذين باركا اللقب.

وبعد كل ما وصلت إليه ابنة حي الخرنفش من شهرة لغاية الأربعينيات من القرن العشرين، غابت عن ذاكرة الناس وأصبحت مطربة مغمورة وتكاد تقتصر معرفة بعض الجمهور بها على أغنية “يا حلاوة الدنيا”. وبين الشهرة والانطفاء والصعود والهبوط، غالبا ما تقارن فتحية بأم كلثوم التي استطاعت أن تتخطى الأزمات والتحولات وتصبح أيقونة، واكتسحت عشرات الأسماء من التي أصبحت في دائرة النسيان. والحال أن نسيان فتحية أحمد، جعل الباحث محبّ جميل يصفها بأنها صاحبة “الحنجرة الثمينة التي أفل نجمها”[i].

الشاهد أن المطربة التي كان والدها الشيخ أحمد الحمزاوي منشدا ومطربا ومبتهلا، امتلكت أدواتها الصوتية والفنية، ما جعلها محط اهتمام كبار ملحني عصرها، مثل داود حسني، وكامل الخلعي، وأبو العلا محمد، وسيد درويش، ومحمد القصبجي، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي، وأحمد صدقي.

شاءت المصادفات أن يكتشف نجيب الريحاني صوت فتحية أحمد، وهي لم تغادر الطفولة بعد، فتبنّاها، ورعاها، قبل أن يتنافس على خطب ودّها كبار ملحني عصر الطرب الذهبي. وبعد أعوام من التألق الذي يعود الفضل فيه إلى كبار من قبيل زكريا أحمد وأبو العلا محمد وأحمد صبري النجريدي ورياض السنباطي، وإلى شركات الأسطوانات الوليدة، والإذاعة الوطنية الناشئة، انسحبت فتحية أحمد من عالم الأضواء معتكفة في بيتها مريضة صابرة على تقلبات الدّهر.

والحقيقة أن قواسم مشتركة كثيرة جمعت ما بين فتحية أحمد وأم كلثوم، فكما تشير المعلومات غير الدقيقة إلى أنهما وُلدتا في العام نفسه (أو في وقت متقارب)، وشاء القدر أن تكون وفاتهما في العام نفسه أيضا 1975. وجمعت بينهما صداقة متينة لسنوات طويلة.

ففي عام 1949 وبعد عودة أم كلثوم من رحلة العلاج، أُقيم لها في معهد الموسيقى العربية حفل بهذه المناسبة استهلته فتحية أحمد بأغنية أعدتها خصيصا لصديقتها “ثومة”، تقول كلماتها “الناس تُقدّم تهانيها وأنا جايه.. أبيع الأزاهر للجناينية”. ومع ذلك كان بينهما تنافسٌ خفي حدّ من طبيعة علاقتهما.

ويقال إن أحد تسجيلات “يا حلاوة الدنيا” بصوتها ألحان زكريا أحمد، من مسرحية غنائية بعنوان “يوم القيامة” حصل بحضور “كوكب الشرق”، وهو تسجيلٌ يعطي فكرة شبه كاملة عن قدرات فتحية أحمد الصوتية.

هذا اللحن الرشيق، أدته فتحية أحمد على طريقتها واستهلت الغناء بموال أقرب إلى الإعجاز في الأداء والعُرَب والتلاوين المرتجلة التي يسمح بها شكل الموّال، وكذلك مبدأ التطريب لاحقا في متن الأغنية والعلو الذي تبلغه بسهولة أكثر من مرة لمن يعرف التسجيل، ويتخطى بنغم ونصف النغم الطرف العلوي (الـ”دو” السادسة) من المدى الطبيعي للصوت الأكثر ارتفاعا عند النساء (سوبرانو).

أسطوانات الغريدة الشهيرة

“ننتهز هذه الفرصة لنسوق البُشرى لعشاق الموسيقى بأننا قريبا سنقدّم إليهم بعض أسطوانات السيدة فتحية أحمد الغريدة الشهيرة.. فليبادر جمهورنا الكريم وليجرّب أسطوانة من باب العلم بالشيء.. ليتحقق من صدق ما نقول”.

كانت هذه مقدمة لإعلان دعاية خطته شركة “كولومبيا” عام 1929 على كتالوغ الأسطوانات التي أنتجتها للمطربة فتحية أحمد، يعكس مدى الشهرة التي وصلت إليها وتزامنت مع وقت تربعت فيه على قمة الغناء، زاحمها في ذلك كلٌ من منيرة المهدية وأم كلثوم.

قال عنها الأديب عباس محمود العقاد: “صوتها يمثّلها تمثيلا عجيبا في البساطة والطيبة وراحة القلب والصراحة، حتّى يخيّل إلى من يسمعها ويراها أنّه قد رآها قبل ذلك، لا نفاق في الإحساس الذي توحيه معرفتها ويوحيه غناؤها. إنّ الرسالة تخدم الغناء الشعبي خدمة جليلة لو وجهت عنايتها إلى إحياء الأدوار القديمة المأثورة التي تناسب عصرنا الحاضر، لأنّها توافق صوتها كلّ الموافقة”[ii].

منافسة أم كلثوم

وعلى عكس الخلافات التي أرستها الصحافة بين أم كلثوم ومنيرة المهدية، فإن الأخيرة ابتعدت عن الساحة الغنائية ولم تعد تلك التي تهدد عرش أم كلثوم على الغناء كونها لم تواكب التطور وتراجع صوتها لإدمانها تناول الشيشة.

أما فتحية فقد ظلت المنافسة الحقيقية لها، لقوة صوتها، علما بأنها سبقت أم كلثوم في الشهرة وهذا ما أثبتته الاستفتاءات التي كانت تجريها المجلات الفنية وتكون النتيجة دائما تفوّق فتحية على أم كلثوم. كل هذا كانت تضعه “ثومة” في اعتبارها وبذلت مجهودا لتطور نفسها، بتعاونها مع أهم الشعراء والملحنين، وكان لديها من الذكاء ما يكفي لأن تصل إلى مرادها، كما استطاعت توظيف السينما لصالح نجوميتها، فغنّت ومثّلت في ستة أفلام. أما فتحية أحمد فظهرت فعليا في فيلمها الوحيد “حنان” كمغنية وممثلة، وغنت من دون أن تظهر فى فيلم “عايدة” عام 1942، وكذلك في فيلم “أحلام الشباب”.

اللافت للانتباه أن فتحية أحمد انحصرت في لونها مفتخرة بالتأثيرات الشامية والتركية في غنائها، مما حد من قدرتها على الانتشار وإن حفظ لها معجبيها.

كان للظروف الاجتماعية التي عاشتها فتحية أحمد تأثيرها السلبي في حياتها كفنانة؛ إذ استغل زوجها الأول جهلها بالقراءة والكتابة، وبحجة إدارته لأعمالها، استولى على أموالها. ولم ينقذ أم كلثوم من هذه المنافسة غير اعتزال فتحية وتفرغها لتربية أطفالها لفترة غير قصيرة، وهي بحسب محمد المويلحي “أول (مطربة) جمعت بين أشياء متناقضة متنافرة لا سبيل إلى جمعها أبدا! جمعت (الشرف) والفن والأمومة المنتجة الرحيمة التي تبذل دمها وروحها لتهذب وتعلّم أولادها من مالها (الحلال) الذي جمعته من كدها، وتعبها، وصوتها”[iii].

في خلال مرحلة الستينيات دخلت فتحية أحمد في نوستالجيا متواصلة، فالسيدة التي ذاع صيتها من مصر حتى بلاد الشام لم تعد غرف الإذاعة تحتويها. وبدأت هي الأخرى في الانزواء في منزلها، خصوصا بعدما اشتدّ عليها المرض. وبدأ المسؤولون عن الإذاعة المصرية التفكير جديا في عودتها مرة أخرى إلى الميكروفون، إلى جانب نجوم آخرين أمثال: نادرة، وحامد مرسي، وعبد اللطيف البنا.

وفي أواخر الستينيات كتبت عنها مجلة “الكواكب”: “قليلون من أبناء هذه الجيل هم الذين يذكرون فتحية أحمد التي كانت واحدة من مطربات الطليعة منذ أكثر من ثلاثين عاما. وشاءت بعض الظروف الخارجة عن إرادتها أن تبتعد عن الحياة الفنية، ثم فرضت عليها هذه الظروف أيضا أن تعتزل الحياة الفنية، وقد شجّعها على ذلك أنها أصيبت بحالة قرف من الفن، بعدما وجدت مطربات -لا تؤهلهن مواهبهن للغناء- يفرضن أنفسهن على الفن بفضل الميكروفون الذي يغطي كل العيوب الفنية”[iv].

أسباب النسيان

تعددت الأسباب التي أدت إلى نسيان فتحية أحمد. يقال إنها كانت تنتمي إلى مطربات المسرح ولم توظف صوتها في السينما، لا في الشكل ولا في الأداء. كما كان تفرّغها للاهتمام بأولادها وابتعادها عن العمل الفني، الدور المؤثر في هذا الشأن، إضافة إلى تغير الذائقة الفنية للجمهور والعاملين في مجال الغناء وابتعادهم عن التقاليد الغنائية لأواخر القرن التاسع عشر والتي كانت فتحية أحد رموزها.

لم تكن فتحية أحمد تنتبه لحالة الخمول التي تنتاب المستمعين الجالسين في الصالة لاستمرارها بتقديم أغاني الاّهات الكلاسيكية المحضة، وهي لامت اللجوء الى الغناء من خلال الميكروفون، ولم تنتبه إلى التحولات في الأغاني والأنماط الطربية.

كتب الباحث الموسيقي فكتور سحاب، غداة رحيل الفنانة نور الهدى عام 1998: “كان الغناء النسائي العربي بأسلوب منيرة المهدية ما زال ينتمي إلى أنماط القرن التاسع عشر في أوائل العشرينيات، حين ظهرت أم كلثوم وفتحية أحمد، وظهر محمد عبد الوهاب، وأنشأ محمد عبد الوهاب الأسلوب العصري في الغناء الرجالي العربي الكلاسيكي، واختفى بعده الأسلوب القديم في الغناء. أما الغناء النسائي فنشأت مدرسته الغنائية الحديثة على سكّتين، الأولى سكة أم كلثوم المحافظة، والثانية سكة أسمهان الوهابية العصرية. وكانت فتحية أحمد تجمع في صوتها وأسلوبها روح القرن التاسع عشر الأصيلة التي مثلتها منيرة المهدية، وتهذيب وتطور القرن العشرين الذي أرسته أم كلثوم في غنائها وتطوره”[v].

انشغلت آراء الكثير من العاملين في مجال الفن والموسيقى في تبيان أسباب نسيان فتحية أحمد ورسوخ أم كلثوم في الوجدان والذاكرة، والأمر يتعدى تبريرات فتحية أو من يحبها. فهناك الكثير من العوامل الطربية والسياسية والموسيقية التي جعلت أم كلثوم في الواجهة على مدى عقود، في حين أفل نجم الكثير من الفنانات اللواتي ظهرن في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، من ماري جبران إلى نجاح سلام ونجاة علي وناديا فهمي ونور الهدى.

يقول المؤرخ الموسيقي أحمد أبو الخضر منسي: “فنانة من طبقة الشيوخ ومن مطربي القديم، وفيها إبداع وعبقرية، والعبقري يسمو على النابغ طبقات؛ إذ النابغ يأخذ ما لقنه فيقيمه أصولا وفروعا، ويؤديه بحذق وإجادة، أما العبقري فيتعدى الحدود ويبدع فيما أخذ، ويرسم لنفسه ما يلهم به محسنا متفوقا في إحكام.

فأم كلثوم في رأينا تؤدي الذي طرح عليها في استواء واستقامة وبراعة، مع صوت قد استوفى شروط القوة والجمال، وإن كانت تُعاب بالغناء المردد. فهي لا تبرح تعود عودا على بدء، أعني أنها تكرر عشرات المرات قطع اللحن وشطوره نغما ولفظا بعينها، لا تنويع فيها ولا تبديل، وتزينه بحركات وأداء مستظرف، وتجول فيه بما تلهم، مع احتفاظها بالأصل الذي لقنته. وأم كلثوم يرفدها ويقويها في غنائها تخت حوى أبرع العازفين كالقصبجي وأمثاله، ومن وراء ظهرها أعوان من أساطين الملحنين.

وأما فتحية فبنفسها كانت تقوم، وبأي تخت كانت تهيج من طربك، وتستحوذ على لبّك، وقد سمعتها في بعض الليالي الغوابر، وقد توسطت تختا من العازفين العاديين غير البارعين، فكانت تارة تثير في رجالها اليقظة فيتبعونها مستجيبين، وتارة لا تبالي أن تخليهم وعجزهم سادرين”[vi].

أما الناقد الموسيقي كمال النجمي فوصفها بقوله: “كان الكثيرون يرون أن فتحية أحمد هي صاحبة الصوت الأول قبل منيرة المهدية وقبل أم كلثوم، لأن صوت أم كلثوم في ذلك الوقت لم يكن استكمل نضجه، لكن النضج السريع لصوت أم كلثوم دفع بفتحية أحمد إلى الخلف، فأصبحت المطربة الثانية، واستراحت هي في الظل، وعاشت شبه متقاعدة”[vii].

ظلمت الظروف والأزمات فتحية أحمد وهي في أنضج مراحل العطاء الفني، فنسيها كثيرون، وتجاهلها آخرون حتى الآن.

المصادر

[i] محب جميل، فتحية أحمد مطربة القُطرين، دار الجديد، بيروت، 2017.

[ii] المصدر نفسه.

[iii] محمد المويلحي، السيدة فتحية أحمد، مجلة «الرسالة»، القاهرة، 20 فبراير/ شباط 1939.

[iv] مجلة الكواكب، القاهرة، 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 1968.

[v] فكتور سحاب، ماتت نور الهدى وعاشت البحة الدافئة، جريدة “الحياة”، لندن، 10 يوليو/ تموز 1998.

[vi] أحمد أبو الخضر منسي، الموسيقى الشرقية بين القديم والجديد، دار الطباعة المصرية الحديثة، القاهرة، 1949.

[vii] كمال النجمي، الغناء المصري، دار الهلال، القاهرة، 1966، ص 21.

شاركها.
Exit mobile version