قيل قديما إن السينما تنقسم إلى 3 أجزاء، أولها فني، والثاني صناعي، والثالث تجاري. وقيل أيضا إن صناع الفن السابع لا يجرؤون على إنتاج عمل دون أن يتورطوا في حسابات المكسب والخسارة، قبل أن ينهمكوا في تصوير البطل وهو يقبع على مقعده المفضل باكيا حبه الضائع، بينما تغيب الإضاءة بالتدريج عن المشهد.
ولعل ذلك الجزء التجاري والصناعي هو الأبرز في هوليود باعتبارها القلعة التي تقدم للعالم ما يصل أحيانا إلى ألف فيلم سنويا هي الأكثر مشاهدة، وبالتالي فإن تحول الفن السابع إلى “صناعة” أصبح حقيقة لا جدال فيها.
معادلة التجسس والخيانة والحب
ويبدو أن غياب جزء جديد من سلسلة “مهمة: مستحيلة” (Mission: Impossible) هذا العام -الذي اعتاده الجمهور- أثار أطماع منتجين أصغر قليلا من صانعي السلسلة وأقل طموحا، ليقدموا فيلما بديلا، يسدون به فراغ السوق، على أن يحمل العمل كثيرا من ملامح أفلام السلسلة.
ويأتي فيلم “الاتحاد” (The Union) للمخرج جوليان فارينو ضمن هذه المعادلة، التي نجحت إلى حد ما في تقديم عمل يمكن أن نراه أحد أفلام المواسم التي تشبه موسم العيد في السينما المصرية، إذ يحمل صفات التسلية والترفيه بشكل أساسي، وإن كانت الكوميديا مجرد مسخ، وقد جاءت محاولة الظهور بمظهر عمل يتبنى قضية بمثابة أمر مشكوك فيه.
تدور أحداث الفيلم حول عامل بناء يدعى “مايك” (مارك والبيرغ)، يتم الدفع به إلى عالم التجسس عندما تقوم صديقته روكسان (هال بيري)، بتجنيده لمهمة استخباراتية خطرة.
وكانت روكسان هجرت عالم المدرسة الثانوية والأصدقاء منذ 25 عاما، فحققت نجاحات كبيرة في عالم التجسس بعدما انضمت إلى جهاز سري منافس للمخابرات المركزية الأميركية. تحاول الشابة استعادة صداقات ما قبل 25 عاما، في حين يستعيد مايك روح الولد الذي يفعل المستحيل ليظهر أمامها بمظهر الرجل القوي.
ورغم أنه يصعب على أي منطق درامي أو إنساني القبول بفكرة عودة صديقة الدراسة الثانوية بعد ربع قرن لتجد صديق الصبا يحمل المشاعر ذاتها، ويصعب أيضا القبول بفكرة أن تتذكر جاسوسة محترفة شابا كان زميلا لها، وتستعين به لحل مشكلة جواسيس محترفين، فإن صناع “الاتحاد” أجازوا حدوثها في عالم الترفيه الخالص الذي لا يمت للواقع أو المنطق أيضا بصلة.
يتخذ المخرج البريطاني جوليان فارينو، المعروف بأعماله الوثائقية والدرامية القليلة، منعطفا مفاجئا نحو عالم التجسس في الفيلم.
ويرصد الفيلم طبيعة مايك المتواضعة واندفاعه المفاجئ إلى عالم يتجاوز تجاربه اليومية. والبيرغ، بسحره القوي وحضوره الجسدي، هو الخيار المثالي لدور البطل العادي. أما انتقال شخصيته من رجل عادي إلى جاسوس فهو أمر غير مقنع، لكنه جذاب، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى أداء والبيرغ الدقيق. يقدم لنا هذا الفيلم مزيجا من الضعف والصلابة، مما يجعل مايك شخصية يمكن للجمهور أن يجد نفسه فيها.
ولعل الدور الذي قدمه والبيرغ في هذا العمل هو الأكثر مساسا به على المستوى الشخصي والعائلي، فقد في حياته الشخصية العديد من الأعمال بعد انفصال والديه، وتورط في العديد من أعمال الاحتيال والسرقات بعد فقدان الأم اهتمامها به وتخلي والده عنه.
أما هال بيري، فتتألق في دور روكسان، عميلة الاستخبارات المخضرمة ذات الماضي المعقد. وثمة تفاهم واضح بين بيري ووالبيرغ يضفي طبقة من التوتر الرومانسي، الذي يضاف للتوتر الناتج عن أعمال التجسس والمعارك. يتم الكشف عن دوافع روكسان تدريجيا، وتتعامل بيري مع الثقل العاطفي لخلفية شخصيتها برشاقة، مما يجعلها أكثر من مجرد اهتمام عادي في دراما تجسس.
يكمل الممثل جيه كيه سيمونز فريق التمثيل الرئيسي بدور عميل مخضرم يعمل كمدير للثنائي، ويضيف ذكاؤه وسلوكه الراقي لمسة من البهجة إلى الفيلم، مما يوازن بين اللحظات الأكثر كثافة. تعد شخصية توم بيرنان التي يجسدها سيمونز غامضة ولكنها ودودة للغاية.
الفرص الثانية المستحيلة
يمزج السيناريو الذي كتبه جو بارتون وديفيد غوغنهايم ببراعة بين الإثارة التي توفرها أفلام التجسس وروح الرومانسية. وبالتحديد بين الإيقاع السريع والتقلبات والمنعطفات. وقد تمكن كاتبا فيلم “الاتحاد” من إضفاء روح الدعابة والعاطفة على السرد، لكن محاولات بناء مواقف كوميدية لم تكلل إلا بالسخافة، لكن العمل إجمالا يطمح على طريقته الخاصة إلى منح الفرص الثانية وإعادة اكتشاف الحب المفقود، وهي طريقة خاصة مثيرة للجدل والأسئلة حول قبول منتجي العمل بمغامرة غير منطقية عن حب اثنين من المراهقين وإمكانية عودته بعد ربع قرن، وبلاهة جاسوسة محترفة ورؤسائها الذين قبلوا باقتراح تجنيد طالب ثانوي مجهول شوهد للمرة الأخيرة منذ 25 عاما.
يبرز إخراج فارينو أفضل ما في طاقمه مع الحفاظ على قبضة محكمة على نغمة الفيلم. تخدمه خبرته في الدراما التي يسيطر عليها الأشخاص بشكل جيد هنا، حيث يؤسس حبكة التجسس الأكبر من الحياة في القصة الإنسانية للغاية لمايك وروكسان. كما تم تنفيذ مشاهد الحركة بشكل جيد دون أن تطغى على الجوهر العاطفي للفيلم، مما يحقق توازنا مثاليا بين المشهد والقصة.
يلتقط التصوير السينمائي الذي قام به روبرت إلسويت كلا من الواقعية القاسية لعالم موقع البناء الذي يعيش فيه مايك، والجماليات الأنيقة والغامضة لمشاهد التجسس، في حين تلعب الموسيقى التصويرية، التي ألفها جون كي إكس إل، دورها في إتمام الحالة المزاجية المتغيرة للفيلم، من مشاهد الحركة المتوترة والمليئة بالحيوية إلى اللحظات الأكثر رقة واستبطانا بين مايك وروكسان.
ولا يمكن الحديث عن شخصيات غير مكتملة البناء في الفيلم، إلا لو أردنا القول إن الشخصيات التي اكتمل بناؤها بشكل نسبي هي روكسان ومايك فقط، أما باقي شخصيات العمل فقد جاءت جميعها دون استثناء مبتورة التاريخ، غامضة الدوافع، دون ملامح إنسانية.
حاول فيلم “الاتحاد” أن يقدم رحلة توفر الإثارة والعمق العاطفي، خاصة مع الأداء القوي من جانب أبطاله، إلا أن السيناريو الضعيف حال دون اكتمالها، وإن نجح جوليان فارينو في دخول عالم أفلام التجسس وقدم فيلما ترفيهيا يستكشف تعقيدات الحب والولاء والمسافات التي قد نقطعها لحماية من نهتم بهم.