تشهد السينما المصرية منذ النصف الثاني من عام 2024 فترة انتعاش، من حيث عدد الأفلام المعروضة من ناحية ومدى تنوع هذه الأفلام من ناحية أخرى.
لكن النقطة التي نرغب في تسليط الضوء عليها هنا هي أن نسبة كبيرة من هذه الأفلام لمخرجين جدد، سواء كانت تلك مشاريعهم التجارية الأولى أو كانت لهم تجارب سابقة محدودة العدد.
فيلم “لأول مرة” هو الفيلم الروائي الطويل الثالث للمخرج جون إكرام، ومن تأليف محمد عبد القادر، وهو الفيلم الثالث له كذلك، بطولة الفيلم تتضمن تارا عماد وعمر الشناوي اللذين يقدمان أولى بطولاتهما السينمائية على الإطلاق.
بركان من الأسرار تحت السطح
تدور أحداث فيلم “لأول مرة” بأكملها في ليلة واحدة وفي مكان واحد كذلك، وهو منزل البطلين ما عدا 3 مشاهد: أحدها في زفاف البطلين، والثاني في الشركة التي يعملان فيها معا، والثالث عندما يعرف الزوج المفاجأة التي ستقلب حياته وزوجته رأسا على عقب.
تتعلق القصة بخالد وغادة، وهما شابان متزوجان يعيشان في منزل أنيق بمجمّع سكني فاخر، ويعملان في شركة كبيرة، لكننا نكتشف في بداية الفيلم أمرين مهمين: الأول يتمثل في أن غادة هي مديرة زوجها في العمل، مما يسبب له إحراجا وضغطا نفسيا كبيرا، أما الأمر الآخر فهو اكتشاف الزوج أنه مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية (إيدز)، ويعود ليواجه زوجته، لكنه لا يعبر عن مخاوفه بشأن مرضه الذي يحمل وصمة كبيرة، بل يتهمها بأنها هي من نقلته إليه.
يتتبع الفيلم قواعد أرسطو المسرحية التي وضعها في كتابه “فن الشعر”، والتي تتمثل في وحدة المكان ووحدة الزمان ووحدة الموضوع، فلدينا هنا أحداث مضغوطة في ليلة واحدة وفي مكان واحد، في حين يقع حدث مفاجئ وضاغط وكاشف، مما يجعل الشخصيات تتخلى عن أقنعتها وتظهر أفكارها المكبوتة بصراحة، الأمر الذي يولد الدراما التي تتصاعد حتى نصل إلى نقطة الانفجار.
لكن في بعض الأحيان عندما يوضع هذا النوع من الأفلام تحت ضغط المكان الواحد والزمان المحدود تظهر مشاكل عدة، وعلى رأسها الافتعال لزيادة الدراما، أو البدء في كشف تفاصيل غير ضرورية لا تخدم سياق الفيلم بصورة إيجابية.
لم يكتفِ “لأول مرة” بالانتقال من مشكلة إلى أخرى، أو بالتركيز على الضغائن التي يحملها كل من البطل والبطلة تجاه بعضهما البعض، وتسليط الضوء على مدى التباين في شخصيتيهما، والمشاعر السلبية التي تولدت لديهما خلال 5 سنوات من الزواج، وهي تفاصيل كافية لصناعة فيلم جيد في نوعه.
لكن الفيلم انطلق في حشد مشاكل وأزمات العديد من الشخصيات الثانوية التي قررت زيارتهما في هذه الليلة تحديدا، لتضيف هذه الشخصيات العديد من التفاصيل التي لم يكن لها داعٍ داخل سياق الفيلم، مثل والدة البطلة التي تقرر حل مشاكلها مع ابنتها في هذه الليلة خاصة، أو الجارة التي يهجرها ابنها ليعيش في بلد آخر، أو شقيق البطل ومشاكله الزوجية الخاصة.
تحولت هذه التفاصيل إلى عبء على أحداث الفيلم، وبدلا من ترك الفرصة للتركيز على أزمة البطل والبطلة والاكتشافات والأسرار البغيضة تشتت المتفرج بين شخصيات فرعية لا تفيد العمل.
تفاصيل جيدة وأخرى كارثية
تتمثل أزمة فيلم “لأول مرة” في تراوحه الشديد بين الجيد للغاية والكارثي للغاية، فعندما ننظر إلى فكرة العمل وبناء الشخصيات نكتشف الكثير من الإيجابيات، كفيلم يزيح الستار عن الأزمات الزوجية المختبئة تحت سطح الاعتيادية، أو عدم الرغبة في الإشارة إلى المشاكل حتى لا تنفجر، فيأتي الحدث الكاشف الذي يتمثل هنا في مرض الزوج، ليخرج كل المشاعر المكبوتة.
ومالت كفة كتابة الشخصيات إلى الزوج في مدى تعقيدها، فهو يبدو من الخارج رجلا محبا لزوجته، في حين أنه في حقيقته رجل ضعيف الشخصية يحمل الكثير من العنف المكبوت ومشاعر سلبية تجاه زوجته لا يعترف بها حتى لنفسه، لتأتي الشرارة التي تجعله يتحول إلى شخص مؤذٍ بشكل حقيقي، فيقرر الانتقام منها بسبب الأمور التي لم يكن قادرا على الإفصاح عنها من قبل، ويلقي عليها كل التهم الممكنة.
تحمل شخصية الزوجة كذلك جوانبها المعقدة، فهي امرأة واعية بمشاكلها الخاصة، سواء في علاقتها بوالدتها أو بالعنف المكبوت لدى زوجها، لكنها قررت التغاضي عن هذا العنف لصالح استمرار العلاقة الزوجية، في حين تفجر اتهامات الزوج المتتالية غضبها تجاهه.
ورغم هذه التفاصيل المميزة -سواء في الحبكة أو كتابة الشخصيات- فإن هذا التميز ضاع في المبالغة الشديدة من الممثلين والممثلات، سواء عمر الشناوي أو تارا عماد أو الممثلين في الأدوار الثانوية مثل نبيل عيسى وعايدة رياض ورانيا منصور، وقد أتت هذه المبالغة مزيجا من قلة خبرة البطلة والبطل من ناحية وسوء إدارة الممثلين من ناحية أخرى.
ووقع الفيلم أيضا في فخ السعي وراء جماليات الصورة التي تبدو ممتازة، ولكن منفصلة عن الأحداث، مع اهتمام مفرط بجماليات التصوير، مثل الإضاءة والزوايا المائلة، في حين هناك انفصال بين الصورة والمضمون.
“لأول مرة” تجربة فقدت بوصلتها في منتصف الطريق، فهو فيلم لديه العمود الفقري لعمل جيد، لكن زحام التفاصيل بلا داعٍ والمبالغات والافتعال حولته إلى عمل ضعيف يسهل نسيانه.