تنافس آبل بين المنصات الإلكترونية الأخرى بأنها لا تطمح سوى للأفضل والألمع بلا هوادة، فتحشد في أعمالها الحصرية الممثلين الأكثر نجومية وموهبة، وتختار قصصا مميزة، ومخرجي الصف الأول، فعلى قلة أعمالها -مقارنة بأي منصة أخرى- نجد ما تقدمه مختلفا يصعب نسيانه بعد عرضه.

ومؤخرا قدمت آبل عملا آخر ينتمي لهذه القائمة، وهو مسلسل “تنصل” (Disclaimer) من إخراج الحائز على الأوسكار ألفونسو كوارون، وبطولة حائزة أخرى على ذات الجائزة كيت بلانشيت، بالإضافة إلى ساشا بارون كوهين وكيفن كلاين وكوفي سميت ماكفي، والمقتبس عن رواية لرينيه نايت.

السر في وجهة النظر

كلمة السر في مسلسل “تنصل” والراوية من قبلها هي “وجهة النظر”، ذلك السحر الذي يقلب الحق باطلا والباطل حقا، ليصبح الجاني بريئا والبريء مستحقا للعقاب.

يبدأ المسلسل بكاثرين (كيت بلانشيت) المخرجة الوثائقية وهي على القمة، بجائزة في عملها، وزوج محب ومعجب حتى بعد مرور ربع قرن تقريبا على علاقتهما، غير أن كل ذلك يتدمر في لحظة عابرة، عندما تصلها رواية بعنوان “غرباء تماما” من شخص مجهول، وخلال قراءتها تفقد ثباتها خطوة فخطوة.

تفصح الرواية عن سر يتعلق بكاثرين، سر حاولت إزاحته عن ذهنها طوال 20 عاما ليأتي هذا العمل الأدبي ليهزها من أعماقها، ثم يبدأ مثل زلزال في خلخلة الأرض تحت قدميها، فيدمر علاقتها بزوجها، وابنها، وزملاء عملها، وتعرف أن هناك في الخارج شخصا يتلاعب بالحقيقة ويؤذيها عليها أن تعرف من هو في التوّ واللحظة.

يتجسد هذا العدو المجهول في شخصية المعلم السابق ستيفن (كيفين كلاين)، الذي تعرض قبل 20 عامًا لصدمة مدمرة قلبت حياته رأسًا على عقب. فقد غرق ابنه الوحيد جوناثان أثناء رحلة إلى أحد الشواطئ الإيطالية، مما أدى إلى انهيار زوجته نفسيا، حيث استوطنتها المرارة حتى تطورت إلى مرض السرطان الذي أودى بحياتها. وهكذا، وجد ستيفن نفسه أرمل ومفجوعا بفقدان ابنه. وفي إحدى الليالي، يتلقى مظروفا غامضا يحتوي على صور لم يسبق له أن رآها من رحلة ابنه إلى إيطاليا، بالإضافة إلى مخطوطة رواية كتبتها زوجته، تتخيل فيها الأيام الأخيرة التي سبقت وفاة ابنهما.

أين الحقيقة؟

تتعدد الخطوط الزمنية ووجهات النظر المختلفة خلال المسلسل، فلدينا الماضي من وجهة نظر والدة جوناثان المتمثلة في رواية “غرباء تماما”، وماض آخر لم يكشف عنه المسلسل إلا في حلقة النهاية من وجهة نظر كاثرين، والحاضر، الذي نراه من عيون كاثرين وستيفن والزوج روبرت والابن نيكولاس، وكل منهم يظن أن ما يعرفه هو الحقيقة.

الأمر الذي يمكن استيعابه بسلاسة في العمل الأدبي، غير أن نقله على الشاشة أكثر صعوبة لتجنب ارتباك المشاهد، ولهذا الهدف استخدم كوارون -مؤلف المسلسل كذلك- أنواعا متعددة من السرد ووجهات النظر بالإضافة إلى التصوير.

على سبيل المثال، نجد راويا عليما يتمثل في الرواية التي كتبتها نانسي (ليزلي مانفيل)، زوجة ستيفن، إلى جانب راوٍ بضمير المتكلم يظهر في بعض المواضع، خاصة تلك المتعلقة بستيفن نفسه، حيث يعبر عن مشاعره وأفكاره بكلماته الخاصة. أما ألفونسو كوارون، فقد استخدم أسلوبًا غير مألوف في السرد، وهو وجهة نظر المخاطب، حيث يتحدث بلغة المخاطب المباشر عن شخصياته، كما يظهر ذلك بوضوح في تناول شخصيات كاثرين، روبرت، ونيك.

على الجانب الآخر تعاون كوارون مع اثنين من المصورين دأب على العمل معهما وهما إيمانويل لوبيزكي وبرونو ديل بونيل اللذان جعلا الصورة وسيلة ممتازة في التفريق بين وجهات النظر، خصوصا فيما يتعلق بالأحداث في إيطاليا بين رواية نانسي وما حدث بالفعل وروته كاثرين، فالأولى تظهر أحداثها مغرقة في إضاءة الشمس الساطعة لدرجة مصطنعة، مبهرة بشكل يثير الشكوك، بينما تم تصوير المشاهد ذاتها في المواقع نفسها مرة أخرى بإضاءة أكثر تواضعا عندما انتقلت الأحداث إلى وجهة نظر كاثرين، ليفصح المسلسل عن أسراره عبر الإضاءة والتصوير وليس فقط الحوار.

المُشاهد الواقع في فخ التحيز

يقود مسلسل “تنصل” مشاهده إلى فخ محكم، تجعله يعيد التفكير في وجهات نظره، ويكشف عن تحيزاته رغما عن أنفه، فهو يبدأ بالبطلة مهتزة بعد قراءتها الرواية، ثم يتابع ردود أفعالها، والمكيدة التي تحاك ضدها، وتجعل زوجها يهجرها، وينقلب زملاؤها عليها.

يعلم المتفرج أن الدليل ضد كاثرين هو رواية مكتوبة على يد أم ثكلى، وبضعة صور فوتوغرافية قديمة لا يعلم أي شخص سواها تفاصيل التقاطها، غير أنه يصدق أدلة واهية رغما عن أنفه، وهي النقطة التي ترتكز عليها الرواية والمسلسل بالأساس.

لماذا تدان المرأة بسهولة بلا أدلة قوية، بينما إثبات براءتها مهمة أصعب، وهي السبب وراء إخفاء سرها لعقدين كاملين حتى من أقرب الأشخاص إليها وهم هنا زوجها ووالدتها.

يقدم المسلسل قصة مثيرة، مليئة بالتواءات الحبكة، والمفاجآت، ويصعب توقع خاتمته حتى الحلقة الأخيرة، غير أنه بشكل خفي يشتبك مع أفكار راسخة حول المرأة في أغلب المجتمعات، حتى الغربية منها.

طالبت كاثرين زوجها بفرصة واحدة لتفسير ما قرأه ورآه، غير أنه رفض إعطاءها هذه الفرصة، وانقلب ضدها لتكتشف أنه محمل بغضب مكبوت لسنوات لم يشعر هو نفسه به، غضب منها لنجاحها الشديد في عملها، لتألقها الواضح في كل مكان تخطو به، لعدم تناسبها مع دور الأمومة الذي رسمه لها هو والمجتمع بالكامل، أصبح الاتهام الأخير مجرد نقطة في بحر اتهامات أخرى دأب على تناسيها ليحافظ على زواجه من امرأة جميلة يتباهى بها أمام مجتمعه.

تمكن متابعة “تنصل” كمسلسل إثارة وتشويق فوق العادة من حيث القصة والتمثيل الممتاز والتصوير على هذه الشاكلة الرائعة في المسلسلات التلفزيونية، أو قراءته كمسلسل يناقش عبر قصة امرأة واحدة، حكايات ملايين النساء.

شاركها.
Exit mobile version