سراييفو – إنه العام 2012 في جورجيا حيث تجري انتخابات حاسمة، وفي حملته الانتخابية التي يشترك شعارها مع اسم الفيلم الوثائقي “جورجيا الباسمة”، وعد الرئيس الجورجي السابق ميخائيل ساكاشفيلي، سكان بلاده الفقراء بإرسال “جيش من أطباء الأسنان” لتركيب أسنان جديدة تجعل ابتسامتهم “هوليودية”، وبدأ أطباء الأسنان في خلع أسنان البسطاء المتسوسة أو حتى التي لم تكن بحاجة لخلعٍ استعدادًا لاستبدالها مجانًا بمجرد الفوز في الانتخابات.

ولكن بعد هزيمة انتخابية مريرة، لم يحصل البسطاء على أسنانهم البيضاء الصناعية “اللؤلؤية” الجديدة وجاءت المعارضة للسلطة مع مئات المواطنين الجورجيين بلا أسنان ودون أمل يلوح في الأفق لإصلاحها.

ووسط ضحكات الجمهور وغضبهم أحيانا، عُرض في مهرجان الجزيرة بلقان السابع للأفلام الوثائقية، الفيلم الوثائقي “جورجيا الباسمة” للمخرج والسينمائي الجورجي الشاب لوكا بيرادزي، الذي أخذ المشاهدين لقرية جورجية نائية، متتبعا حياة سكانها البسطاء والمزارعين وكبار السن، ومستعرضا وجوها وأفواها بلا أسنان تمثل بحد ذاتها تحذيرا شديد اللهجة من تصديق وعود الساسة الشعبويين والتصويت لأسباب شخصية بحتة.

قصة رمزية

وقال المخرج لوكا بيرادزي إن القصة رمزية وفريدة واستلهمها من محاولة الساسة أخذ أجزاء من أجساد البشر، مما جعله يعتقد أن “هذا العبث يمكنني من إنشاء أيقونة لتعامل الساسة في كل بلد مع الناس، وكيف يتم تقديم الوعود كل مرة ولا يتم الوفاء بها”.

وأضاف في حديثه للجزيرة نت “عندما ذهبت إلى القرية والتقيت بهؤلاء الناس شعرت أنه يجب علي أن أروي هذا النوع من القصص لأنني رأيت كيف يعيشون في طبيعة خلابة وكيف لم يفقدوا حس الدعابة وكيف يحاولون الخروج من دائرة الأكاذيب هذه”، وأردف قائلا “رأيت كيف يتذكر السياسيون ووسائل الإعلام هذه الأماكن النائية فقط أثناء الانتخابات”.

في الوثائقي، الجميل والمرير في آن، بقي الناس المغلوبون على أمرهم بلا أسنان، وتقبلوا مصيرهم بقدر من السخرية والفكاهة، وواصلوا حياتهم اليومية واحتفالات الزفاف والعناية بالمزروعات والحيوانات، فالحياة تستمر بلا أنياب، والبسطاء دوما هامش أو حاشية على متن الرؤساء أو الرؤساء المحتملين وحتى المرشحين الخاسرين

وفي الوثائقي، الجميل والمرير في آن، بقي الناس المغلوبون على أمرهم بلا أسنان، وتقبلوا مصيرهم بقدر من السخرية والفكاهة، وواصلوا حياتهم اليومية واحتفالات الزفاف والعناية بالمزروعات والحيوانات، فالحياة تستمر بلا أنياب، والبسطاء دوما هامش أو حاشية على متن الرؤساء أو الرؤساء المحتملين وحتى المرشحين الخاسرين.

وميخائيل ساكاشفيلي، الذي عاش في بلدان عديدة ويجيد 7 لغات، تولى -بالإضافة إلى رئاسته لجورجيا من 2008 حتى 2013- منصب حاكم مدينة أوديسا الأوكرانية بعد حصوله على الجنسية الأوكرانية عام 2015. ومع ذلك، دخل في خلافات مع الرئيس الأوكراني الذي عينه وسرعان ما غادرها.

واعتقل الرئيس السابق -المؤيد للغرب الذي قاد في عام 2003 “ثورة الورود” التي أطاحت بالنظام الشيوعي الجورجي-  العام الماضي بعد فترة قصيرة من عودته إلى جورجيا على خلفية محاكمة غيابية تعود لسنوات مضت.

تاريخ البسطاء

وتنتمي قصة الفيلم لأفلام وحكايات “التاريخ البديل من أسفل” حيث تقدم الأحداث التاريخية من منظور البسطاء بدلا من منظور الحكومات والقادة والرؤساء.

ويجمع الوثائقي السينمائي بين التراجيديا التي تضفي دراما مضاعفة على حياة أبطالها، والكوميديا التي تبدو كقناع إنساني لا يخلو من آلام البؤس، مع مناظر طبيعية مذهلة للريف الجورجي الأخضر ونمط حياة محلي ساحر يبقى محفوظا في ذاكرة المشاهد، وأبطال عاديين هم القرويون الذين لم يطلبوا حتى أسنانا جديدة.

وإذ تدور فصول اللعبة السياسية أمام الكاميرات بعيدا عن حياة القرية وواقع سكانها، يتابع الوثائقي قصة الضحايا بعد أكثر من عقد على خلع الأسنان الأليم، ورغم أن أبطال الفيلم من البسطاء لا يشتكون كثيرا أمام الكاميرا من أسنانهم المفقودة ولا صعوبة المضغ والكلام ولا تشوه صورهم، لكن في كل مرة يفتحون أفواههم محاولين الابتسامة أمام الكاميرا يتذكر المشاهد القصة كلها.

ومع ذلك فالحياة ليست بائسة تماما في القرية النائية، بل فيها أوجه الفرح والدفء والحميمية المفقودة في قاعات السياسيين، واختار المخرج أن يجعل الكاميرا تتجول في القرية وبيوتها مؤثرا الصمت والتدخل المحدود للغاية تاركا الفرح يأخذ مجراه في حياة البسطاء الذين وثِقوا فيه وتركوه يصور حياتهم بأريحية.

الحياة ليست بائسة تماما في القرية النائية، بل فيها أوجه الفرح والدفء والحميمية المفقودة في قاعات السياسيين، واختار المخرج أن يجعل الكاميرا تتجول في القرية وبيوتها مؤثرا الصمت والتدخل المحدود للغاية تاركا الفرح يأخذ مجراه في حياة البسطاء الذين وثِقوا فيه وتركوه يصور حياتهم بأريحية

ويظهر في الفيلم العديد من الثنائيات من قبيل الريف والمدينة، ذوي النفوذ الذين يظهرون في التلفاز ويذهبون للقرى ببذلهم الأنيقة في مواسم الانتخابات وبين البسطاء من سكان القرى الذين لا يأبه بعضهم بما يجري في المدينة بينما ينخدع آخرون بخطابات السياسيين الحماسية، لكن المفارقة الأكبر بالفيلم، في العنوان، الذي هو أيضا شعار الحملة الانتخابية، فالابتسامة الجورجية بلا أسنان، ووحدهم الفقراء يبتسمون أحيانا بالمزيد من الألم حتى إن ابتسامتهم تصبح أكثر دلالة على البؤس.

وحدهم الفقراء يبتسمون أحيانا بالمزيد من الألم حتى إن ابتسامتهم تصبح أكثر دلالة على البؤس

يحقق الفيلم توازنًا دقيقًا بين التراجيديا والكوميديا، مما يضفي عليه طابعًا إنسانيًا وعاطفيًا عميقًا. فهو لا يكتفي بعرض المآسي والخيبات، بل يستخدم الفكاهة لتخفيف حدة الألم وإتاحة مساحة للتفكير العميق في وعود السياسيين الزائفة وتأثيرها على حيوات البشر.

في “جورجيا الباسمة”، كانت “كلمات الشرف” الانتخابية مدعومة بوعود أقل طموحًا وأرخص وأقل تكلفة من الوفاء بها، وكأنها درس للتحذير من سهولة التلاعب بالبسطاء الذين يستغلهم الساسة، دون أن يشكّوا على ما يبدو أو لا يرغبون في الشك بأن آمالهم قد تُخدع كالمعتاد.

وانطلق، قبل أيام، مهرجان الجزيرة بلقان السابع للأفلام الوثائقية (AJB DOC) بالتزامن مع البرنامج المهني لصناعة الوثائقيات “أيام الجزيرة الوثائقية” بالعاصمة البوسنية سراييفو، ويعرض المهرجان 24 فيلما وثائقيا تتناول العنف ضد الفلسطينيين وتتناول أيضا الاضطرابات الاقتصادية والسياسية في العالم، تحت شعار “العدالة؟”، وبالإضافة إلى ذلك عقد برنامج مصاحب يشتمل على عروض خاصة وحلقات نقاش وجلسات تدريب لصانعي الأفلام الشباب.

شاركها.
Exit mobile version