يطل علينا النجم الأسطوري روبرت دي نيرو في أول ظهور تلفزيوني أميركي، بعد مشوار سينمائي يتجاوز الستين عاما، عبر نتفليكس في مسلسل “يوم الصفر” (Zero Day)، حيث يقودنا إلى عالم السياسة والإثارة في مواجهة هجوم إلكتروني مدمر.
في 6 حلقات مشوقة، يقدم العمل نظرة عميقة إلى كيفية تعامل القادة مع الأزمات الكبرى، ويكشف عن المؤامرات ذات الوزن الثقيل التي تكفي لتدمير امبراطورية بحجم الولايات المتحدة الأميركية.
ويحمل العمل إشارات صريحة لأشخاص ومؤسسات وحوادث، لا ينقص كل منها سوى الاسم فقط، بدءا من التمرد الذي قام به أنصار الرئيس الحالي دونالد ترامب في مبنى الكونغرس في يناير/كانون الثاني 2020، وكاد أن يؤدي بالدولة الأميركية إلى حرب أهلية، إلى النجاح المالي والتكنولوجي الكبير لسيدة الأعمال التي تقف وراء الهجوم المدمر على كل مرافق الدولة، والتي تحمل إشارات إلى الملياردير إيلون ماسك الذي يعد الذراع اليمنى للرئيس الجديد.
قصة نقاط الضعف
لا يتوقف العمل عند الإسقاط على أشخاص وأحداث بعينها، لكنه يحمل دعوة للقلق والتفكير بشأن الدولة، بالشكل الذي عرضت به في المسلسل، وكيف يمكنها تجاوز محنة كبرى تتعلق بخروج كثير من القيادات عن النظام وإنشاء دولة داخل الدولة.
أنهي دي نيرو تصوير المسلسل قبل أن يتولى دونالد ترامب الرئاسة الأميركية في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، وقبل أن يصدر قرارات العفو عن المدانين في حادث اقتحام الكونغرس الأميركي.
ويخوض مسلسل “يوم الصفر”، الذي يعرض على شبكة نتفليكس، عميقا في نقاط ضعف المجتمع فريق من النجوم بقيادة روبرت دي نيرو، ويجسد دور الرئيس الأميركي السابق جورج مولن، الذي تم استدعاؤه من التقاعد لقيادة لجنة تحقق في هجوم إلكتروني كارثي يشل البنية التحتية للبلاد، مما أسفر عن مقتل الآلاف.
الهجوم، الذي استمر 60 ثانية فقط، ووضع البلاد إلى حالة من الاضطراب. ورافق الهجوم ظهور رسالة تنص على أن “هذا سيحدث مرة أخرى” عبر الشاشات في جميع أنحاء البلاد.
يؤمن مولن، الذي اكتفى بفترة رئاسة واحدة، رغم نجاحه المضمون للفترة الثانية، بأن الحقيقة وحدها هي ما يستحق الناس الاطلاع عليه، وأنها -أي الحقيقة- هي الجدار العازل الحقيقي ضد كل المخاوف، لكن قوانين الواقع السياسي داخل البيت الأبيض والكونغرس لا تتفق مع ما يؤمن به، فيبدأ الصدام من اللحظة الأولى، خاصة مع الصلاحيات الممنوحة للجنة التي يرأسها والتي تتجاوز الدستور وتعتدي على الحقوق المدنية للأفراد.
ويصدم الرجل في ابنته التي يكتشف أنها عنصر رئيسي من عناصر المؤامرة الكبرى التي سببت الهجوم، كما يكشف قيادات على أعلى مستوى، ويتم التشكيك في قواه العقلية، لكنه ينجح في مواجهة كل العوائق، وينتصر على المتطرفين والمتآمرين، ويعود هو إلى حياة التقاعد من جديد.
بناء غير تام
يجسد روبرت دي نيرو شخصية الرئيس الأميركي بشكل يبدو أفضل من بعض الرؤساء السابقين الذين يظهرون في مناسبات مختلفة، إذ يسيطر دي نيرو على ملامح وجهه ويكسوها بجدية مخيفة، ويحررها من تلك الجدية بحسابات دقيقة، ويكشف بميزان حساس متى يبتسم مجاملا ومتى تأتي الابتسامة من وجدانه، وليست ندرة الابتسامات إلا انعكاسا لثقل مزدوج للأزمة الوطنية والآلام الشخصية.
فهو يحارب على جبهته العقلية، فيما يبدو أنه أعراض لمرض “ألزهايمر”، مما يؤدي إلى لحظات من الضعف يلتقطها دي نيرو بدقة وعمق، ويشكل صراعه الداخلي بين الواجب العام والاضطرابات الخاصة جوهر المسلسل العاطفي، ويدفعه رحيل ابنه المراهق إلى هوة من حزن عميق، وتؤلمه علاقته المتوترة دائما بابنته “الكسندرا”.
وتؤدي الممثلة ليزي كابلان دور “الكسندرا”، الابنة وعضوة الكونغرس التي تدفعها قناعاتها إلى انفصال شعوري حاد عن والدها، وتجسد كابلان نموذج الشخصية الممزقة بين الولاء العائلي والطموح السياسي، وتعكس علاقتها بوالدها انفصالا بين الأجيال الأميركية وتضفي العلاقة نفسها أجواء مشحونة بالتوتر على العمل.
ويأتي نموذج روجر كارلسون، الذي يجسده الممثل جيسي بليمونز، وهو مساعد مولن وصديق ابنته المتورط فيما هو أكثر من الخيانة لرئيسه، إذ يستفيد سرا، ويتلقى رشاوي مقابل تنفيذ رغبات رجال أعمال كبار وفاسدين. ينتهي كارلسون منتحرا بعد أن يأمره أحد أباطرة الفساد بحياة رئيسه والدفع بفكرة مرضه إلى الواجهة في الإعلام، لكنه لا يستطيع. يبدو بناء شخصية روجر كارلسون متعجلا، وكسولا إلى حد كبير لدرجة الخلاص من الشخصية بانتحارها، لتسلك الدراما طريقها، كما يريد لها صانعو العمل، لا كما يقتضي منطق العمل نفسه، وهو خطيئة درامية تقلل من مصداقية العمل فنيا.
ويستدعي نموذج الزوجة “شيلا مولن” والتي جسدت شخصيتها الممثلة جوان ألين، والعشيقة السابقة “فاليري” والتي قدمتها الممثلة كوني بريتون، نموذج وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، والتي تورط زوجها مع إحدى المتدربات في البيت الأبيض، وعرفت الفضيحة إعلاميا باسم “فضيحة مونيكا لوينسكي”. وفعلت شخصية شيلا مولن ما قامت به هيلاري كلينتون تماما، إذ تجاهلت الأمر تماما، وقامت بدعم زوجها، لكن ثمة اتفاق حداثي تماما بينهما، وهو أن ينهي مشواره السياسي بعد اللجنة ويعود لتقاعده كما كان، على أن تستكمل شيلا مشوارها لتصبح قاضية فدرالية بدعم منه.

البنية السردية والروتين الحكومي
يدور المسلسل على مدار 6 حلقات من إخراج ليزلي لينكا غلاتر، وسيناريو كل من ايريك نيمان ونوح اوبينهايم، رئيس أستوديوهات إن بي سي نيوز، ومايكل شميدت، الصحفي الحاصل على جائزة بولتزر.
وقام الكتاب الثلاثة بتطوير الشخصيات والكشف التدريجي عن اللغز المركزي عبر إيقاع متوسط للمخرج، ورغم ذلك، فقد تعصر السرد في الإجراءات البيروقراطية التي لم يكن ينبغي لها أن تتكرر بهذه الكثافة في عمل أقرب إلى التشويق. ورغم التوتر الذي أوحت به الموسيقى التصويرية التي ألفها جيف روسو، فإنها جاءت مصحوبة بنغمة حزينة في انعكاس لأحزان الطل وأجواء الفاجعة التي أدت إلى قتل أكثر من 3 آلاف مواطن، وتوقع تكرارها في أي لحظة.
أوحت الموسيقى التصويرية بحالة من الحيرة بين الحزن والتوتر والإثارة، ودفعت بشعور انعدام اليقين إلى الطفو على سطح المشاعر، وهو أقرب إلى الحالة التي عاشها المجتمع الأميركي إبان أحداث يناير/كانون الثاني 2020، وهي الحالة التي سادت العمل، وأدت إلى القفز فوق الدراما للدفع بمقولات صناع العمل كحل نهائي للدراما، فبدت وكأنها واحد من تصريحات روبرت دي نيرو الشهيرة ضد ترامب.
ورغم نجاح صناع المسلسل في تقديم عمل مثير للقلق والمتعة في الوقت، فإن ضعف السرد جاء واضحا، وتمثل في “فتح كل الجراح الأميركية” خلال حلقات 6 فقط، فهناك قضية الأمن السيبراني الذي يصم القوة العظمى بهشاشة ويجعل الشعب غير آمن، وهناك الأزمة الأخلاقية بين الساسة الأميركيين، والصراعات الأيديولوجية والفساد، والخيانة، وغيرها، وكلها خطوط درامية تشبه متاهة سردية لم يقو العمل على السيطرة عليها.
نجح روبرت دي نيرو في طلته التليفزيونية الأولى، وحققت صرخته السياسية والفنية صدى يليق بتاريخ من النجاحات الفنية، لكن الدراما نفسها بحاجة إلى استكمال، خاصة أن ثمة فترة رئاسة جديدة لترامب بدأت لتوها.