غزة- وسط واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية التي تعصف بقطاع غزة، تتبدى ملامح قاتمة في الأسواق المحلية، حيث فشلت المساعدات المحدودة التي سمح الاحتلال الإسرائيلي بإدخالها مؤخرا في كبح ارتفاع الأسعار أو التخفيف من حدّة المجاعة المتصاعدة.

ويحتاج قطاع غزة إلى نحو 600 شاحنة يوميا من المواد الغذائية والتموينية لتلبية الحد الأدنى من حاجات أكثر من مليوني إنسان.

بيد أن الاحتلال الإسرائيلي، الذي ادعى مؤخرا أنه “وافق على إدخال المساعدات وأنشأ ممرات إنسانية”، لا يسمح سوى بدخول متوسط 80 شاحنة يوميا، تحمل في غالبيتها مساعدات إنسانية وليس بضائع تجارية، وفق بيانات صادرة عن مكتب الإعلام الحكومي.

ورغم قلة أعداد الشاحنات، فإن الاحتلال يُجبر سائقيها على تفريغ حمولتها في مناطق نائية ومفتوحة، مما يعرضها للنهب العشوائي من الجائعين وبعض اللصوص، وسط غياب أي شكل من أشكال التنظيم أو الرقابة.

يحتاج قطاع غزة إلى نحو 600 شاحنة يوميا من المواد الغذائية والتموينية لتلبية الحد الأدنى من حاجات أكثر من مليوني إنسان

انفجار الأسعار بلا كوابح

ورغم دخول المساعدات، لم تُسجّل الأسواق أي انخفاض في الأسعار، بل بقيت باهظة، وأحيانا واصلت ارتفاعها.

فعلى سبيل المثال:

  • لا يزال كيلو الدقيق يُباع بين 42 و45 شيكلا (12.7-13.6 دولارا)
  • السكر بـ400 شيكل (نحو 121 دولارا)
  • والأرز والمعكرونة قرابة 50 شيكلا للكيلوغرام (نحو 15.1 دولارا).
  • علبة الصلصة (400 غرام) تصل إلى 50 شيكلا (15.1 دولارا)
  • لتر زيت القلي بـ50 شيكلا أيضا (15.1 دولارا).

وفي المحصلة، فإن الغالبية الساحقة من الفلسطينيين ما زالوا غير قادرين على شراء هذه السلع الأساسية.

سوق بلا تجار

وفي قطاع غزة، لم تعد هناك أسواق بالمعنى التقليدي، ففي جولة ميدانية على أسواق نشأت خلال الحرب مثل: السرايا، والصحابة، وتل الهوى، تغيب المحلات والبسطات، ولا يوجَد تجار محترفون، ولا نظام بيع أو تنظيم معروف.

ما يوجد هو أفراد يجلسون على الأرصفة يعرضون كميات ضئيلة جدا من السلع، مثل 4 كيلوغرامات من الدقيق، أو 3 زجاجات زيت، أو أكياس معكرونة وأرز متفرقة.

البعض يفتح كيس دقيق كبيرا (25 كغم) ويبيع منه بالكيلو، وسط حالة من الفوضى وغياب أي إشراف.

ويقول أحد هؤلاء الباعة -طلب عدم الكشف عن اسمه- “أشتري كيس الدقيق من موزّعين كبار بسعر مرتفع، وأبيعه بالكيلو بـ44 شيكل، أنا لا أربح سوى شيكلين أو ثلاثة بالكيلو”.

ولا يخفي باعة آخرون أنهم يحصلون على المساعدات مجانا ويبيعونها بأسعار السوق، قائلين “نحن لا نحدد الأسعار”.

من أين تأتي البضائع؟

السؤال الأكثر تكرارا: من أين يحصل هؤلاء على البضائع؟ الجواب يتراوح بين التكتم والرفض الصريح للحديث مع الصحافة، وبين الإشارة إلى مراكز التوزيع التابعة للمؤسسة الأميركية أو أماكن سلب المساعدات.

ويقول أحد الباعة للجزيرة نت -وهو يجلس على الأرض أمام كمية صغيرة من السلع- “أشتريها من جنوب القطاع، الناس الذين يحصلون عليها من المؤسسة الأميركية يعرضونها للبيع، وأنا أشتريها بسعر مرتفع”.

ويقول بائع آخر يجلس أمام كيس طحين مفتوح (25 كيلوغراما)، يبيع منه بالكيلو للناس، “أنا اشتريته بـ1100 شيكل من شخص استلمه من مركز توزيع، وأقوم ببيعه بـ44 شيكل للكيلو، بالكاد أربح شيكل أو شيكلين في الكيلو، التجار الكبار هم الذين يربحون”.

ويقول بائع ثالث بصراحة لافتة “أتلقى المساعدة مجانا، ثم أذهب لأبيعه بسعر السوق، ببساطة لأنني بلا دخل، ولذا أبيعه لأشتري به احتياجات أخرى للمنزل”.

رغم تدفق كميات من المساعدات إلى غزة لكنها لم تنجح في خفض الأسعار بسبب قلة كمياتها وعدم سماح الاحتلال بتأمين وصولها لمخازن المنظمات الدولية المسؤولة عن توزيعها

قلة المعروض يرفع الأسعار

في تفسيره لاستمرار ارتفاع الأسعار في أسواق غزة، رغم الحديث عن دخول بعض المساعدات، يؤكد الصحفي الاقتصادي أحمد أبو قمر أن ما يتم تداوله في بعض وسائل الإعلام حول انخفاض الأسعار أو تحسّن الوضع المعيشي غير صحيح.

ويشير إلى أن الأرقام الصادرة عن مكتب الإعلام الحكومي في غزة تؤكد أن عدد الشاحنات التي دخلت عبر المعابر خلال الأيام الثلاثة الماضية (الأحد الاثنين الثلاثاء) بلغ على التوالي: 73 و87 و109 شاحنات على التوالي، في حين أن الحاجة اليومية الفعلية للقطاع لا تقل عن 600 شاحنة لتغطية الاحتياجات الأساسية.

ويرى أن حالة من التشوّه الاقتصادي قد أصابت الأسواق، حيث لم تعد تتحرك وفق ديناميكية العرض والطلب المعتادة، بل وفق استثناءات طارئة وخاضعة للمزاج السياسي والأمني للاحتلال.

ويتابع “ما يدخل اليوم لا يشكّل أكثر من 10% من حجم الاحتياج الحقيقي، وحتى لو سُمح بدخول 600 شاحنة يوميا، فإن الأسواق بحاجة إلى عدة أسابيع من الضخ المتواصل كي تتشبع وتعود إلى حالة من التوازن”.

ويلفت إلى أن 95% من سكان القطاع باتوا يعتمدون على المساعدات الإنسانية، لكن نحو 85% منهم لا تصلهم أي مساعدات، ومن يستفيد فعليا هم فئة محدودة، لديها القدرة الجسدية والمادية على التوجّه إلى مراكز التوزيع، ومواجهة المخاطر الأمنية.

السوق السوداء تتحكم بكل شيء

وفي توصيفه للواقع الراهن، يرى أبو قمر أن السوق السوداء هي من تتحكم حاليا بمفاصل الاقتصاد في غزة، بما في ذلك المجال المصرفي.

ويقول “قلة من التجار يحتكرون السوق ويتحكمون في الأسعار، يحصلون على البضائع من مستلمي المساعدات بأسعار مرتفعة، ثم يطرحونها في السوق بأسلوب التقطير، مما يبقي أسعارها مرتفعة، خصوصا المواد الأساسية مثل الطحين. وللأسف، لا توجد آلية لضبط هذا السلوك”.

ويتوقع أبو قمر أن تنخفض الأسعار تدريجيا إذا استمر تدفّق المساعدات، ولكن ذلك يحتاج إلى وقت قد يصل إلى 3 أسابيع من الضخ اليومي والمستمر.

لكنه في المقابل يحذّر من نية إسرائيل الإبقاء على أسعار بعض السلع، مثل الطحين، مرتفعة عمدا من خلال تقليص المساعدات كلما شعرت أن الأسعار تنخفض.

ويؤكد أبو قمر أن أي إجراءات حكومية لضبط السوق لن تنجح في ظل هذا الواقع، قائلا “السلع الرئيسية شحيحة للغاية، ولا يمكن فرض أي رقابة أو ضبط حقيقي دون وجود مخزون كافٍ من السلع لدى الحكومة”.

العمولات.. ظلم مضاعف

ينتقل أبو قمر إلى جانب آخر بالغ الخطورة، وهو ظاهرة صرف الأموال الموجودة في البنوك من السوق السوداء مقابل عمولات باهظة بسبب استمرار إغلاق المصارف.

ويقول في هذا الصدد “ما يُفرض على المواطنين كعمولات صرف من أرصدتهم البنكية هو أكثر قسوة من المجاعة نفسها، هناك من يدفع 48% أو حتى 50% من قيمة المبلغ المستحق له، أي أن التاجر يقتطع نصف أموال المواطن دون وجه حق، لمجرد تحويل المبلغ من رقمي إلى نقدي”.

ويضيف: “هذه الظاهرة تقضي تماما على فكرة العدالة الاقتصادية، وتزيد من تكدّس الأموال في أيدي قلة قليلة، بينما يُستنزف ما تبقى من مدخرات المواطنين، وهي غالبا آخر خط دفاع يمتلكونه في مواجهة هذه الكارثة”.

شاركها.
Exit mobile version