القدس المحتلة- تشهد إسرائيل هذه الأيام أزمة متفاقمة في جهاز التربية والتعليم، تجلت في احتجاجات عارمة، وتهديد جماعي بالاستقالة، وتعطيل واسع للعملية التعليمية على خلفية قرار الحكومة خفض أجور العاملين في القطاع التربوي، الذين يقدر عددهم بنحو 250 ألف موظف، في محاولة للحد من العجز المتصاعد بفعل نفقات الحرب المستمرة على غزة.

ويبلغ الراتب الابتدائي للمعلمين الجدد في إسرائيل نحو 2490 دولارا شهريا. ويمكن للمعلمين المخضرمين أن يحققوا ضعف هذا المبلغ تقريبًا، ولكن فقط بعد 30 عاما من العمل.

وتعد هذه الأزمة في جهاز التربية والتعليم أحد الانعكاسات المباشرة للأزمة الاقتصادية الأوسع التي تواجهها إسرائيل، نتيجة الحرب المستمرة على قطاع غزة وما تفرضه من أعباء مالية هائلة على الميزانية العامة.

ومع تراجع الدعم الشعبي للقرارات التقشفية للحكومة الإسرائيلية سعيا للتغطية على عجز الموازنة بسب الإنفاق الزائد على الحرب، تزداد المخاوف من امتداد هذه التوترات إلى قطاعات مدنية أخرى، مما قد يضاعف من آثار الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعيشها إسرائيل.

عجز بالموازنة الإسرائيلية

سجلت إسرائيل عام 2024 عجزا ماليا بلغ 6.9% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الأعلى منذ أكثر من ربع قرن، باستثناء عام 2020 خلال جائحة كورونا، وفق ما ذكرته صحيفة “غلوبس” الاقتصادية.

ورغم أن العجز كان أقل من التوقعات الرسمية البالغة 7.7%، فإن هذا الانخفاض يعود جزئيا إلى تقديم معاملات مالية من عام 2024 إلى 2025، مثل شراء المركبات لتفادي الضرائب المرتفعة، حسب تقرير صدر عن بنك إسرائيل (البنك المركزي).

ووفق البنك المركزي الإسرائيلي، تقدر تكلفة العمليات العسكرية المتواصلة على غزة بنحو 150 إلى 200 مليون شيكل يوميا، أي ما يصل إلى مليار شيكل أسبوعيا (الدولار يعادل 3.58 شيكلات)، وهو يشكل ضغطا إضافيا على ميزانية الدولة لعام 2025.

وحيال ذلك، حذرت وزارة المالية من احتمال ارتفاع العجز إلى 4.9% أو أكثر إذا ما استمر التصعيد، مما قد يدفع الحكومة إلى تنفيذ جولة جديدة من خفض الإنفاق في الوزارات الحكومية المختلفة، وعلى رأسها وزارة التربية والتعليم.

ما تكاليف الحرب الإسرائيلية على غزة وجنوب لبنان؟

خفض الرواتب

بدأت الأزمة في جهاز التربية والتعليم عندما قررت وزارة المالية الإسرائيلية خفض الرواتب الحكومية بنسبة 3.3%، في إطار إجراءات تقشفية فرضتها تداعيات الحرب، التي يتوقع أن تكلف خزينة الدولة ما يصل إلى 250 مليار شيكل (67.5 مليار دولار) بحلول نهاية عام 2025 حسب ما أفادت به صحيفة يسرائيل هيوم

وفي خطوة احتجاجية أولى، أعلنت نقابة المعلمين عن إضراب إنذاري مطلع الأسبوع، تخلله تأخير في بدء الدوام المدرسي وعدم حضور آلاف المعلمين حتى ساعات متأخرة من الصباح، بينما أغلقت مئات المدارس ورياض الأطفال أبوابها بالكامل خلال الأسبوع.

وأمام اتساع رقعة الاحتجاجات، توصلت وزارة المالية الإسرائيلية إلى اتفاق مع نقابة المعلمين يقضي بخفض الرواتب بنسبة أقل بلغت 0.95% فقط بدلاً من 3.3%، ويسري هذا الخفض بدءا من مايو/أيار وحتى نهاية ديسمبر/كانون الأول 2025.

بيد أن هذه التنازلات -وفقا لصحيفة هآرتس- لم تلق قبولا واسعا بين أوساط المعلمين، الذين اعتبروا أن النقابة، برئاسة يافا بن ديفيد، لم تمثل مصالحهم الحقيقية، وواصلوا احتجاجاتهم بطرق غير رسمية، من بينها تقديم تقارير طبية جماعية لتبرير الغياب.

استقالات جماعية

وقدّرت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية أن ما بين 17 ألفا إلى 20 ألف معلم، أي نحو 10% من مجمل القوى العاملة في سلك التعليم قدموا بلاغات مرضية، في خطوة احتجاجية تهدف إلى مواصلة الإضراب من دون مخالفة قانونية مباشرة.

ورغم ذلك، فلم يتضح على وجه الدقة عدد المدارس التي بقيت مغلقة على مستوى البلاد والتي تقدر بمئات المدارس. ففي تل أبيب وحدها، تم إغلاق 218 روضة أطفال وأكثر من 50 مدرسة ابتدائية وإعدادية، مما يعكس اتساع رقعة الشلل في الجهاز التعليمي، حسب أفادت به صحيفة يديعوت أحرونوت.

رغم صدور قرار من محكمة العمل اللوائية يلزم المعلمين بالعودة إلى التدريس، فإن المحتجين أصروا على التصعيد، إذ أعلنت مجموعات منظمة من المعلمين نيتهم تنفيذ موجة استقالات جماعية في حال لم يتم استئناف الحوار مع ممثلي الحكومة.

وذكر بيان صادر عن قادة الاحتجاج أن “طاقم التعليم في إسرائيل يصعّد من خطواته. من يضر بالمعلمين، سيحرم من التعليم”.

ويطالب المعلمون الغاضبون بإلغاء خفض الأجور بشكل كامل، خاصة في ظل استمرار استثناء المدارس الحريدية من هذا القرار، وهو ما فاقم الإحساس بالتمييز والظلم بين صفوف المعلمين في المدارس الرسمية، بحسب ما أوردته القناة الـ12 الإسرائيلية.

أزمة متفاقمة

في هذا السياق، ترى الصحفية ياردن بن غال -محررة سوق العمل في صحيفة “ذا ماركر”- أن الاتفاق المؤقت حول “أيام مرض المعلمين” لا يعالج جذور الأزمة المتفاقمة في جهاز التعليم.

واعتبرت أن خفض الرواتب لم يكن سوى شرارة فجرت احتجاجا ظل يتخمر منذ وقت طويل بفعل مشكلات هيكلية عميقة، مشيرة إلى أن التنازل عن خصم 500 شيكل (135 دولارا) شهريا لن يكون كافيا لإنقاذ قطاع يتداعى.

وحسب بن غال، فإن الاتفاق بين وزارتي التعليم والمالية ونقابة المعلمين، الذي يقضي بإعادة توزيع نسبة الخفض البالغة 3.3% عبر بنود غير الأجور المباشرة، جاء متأخرا جدا وضعيف الأثر. ورغم تخفيف خفض الرواتب إلى 1% وتقليص مكافآت كالأقدمية والترقية، فإن كثيرا من المعلمين ظلوا غير راضين.

وقالت إن الضرر الاقتصادي الحقيقي لا يقتصر على الأجور، بل يمتد إلى ارتفاعات الأسعار وتقليصات أخرى لا تقل وطأة، مما يعمّق الشعور بالإجحاف في أوساط العاملين في سلك التعليم.

انهيار الثقة بالدولة

في مقال بعنوان “الحكومة تزرع الفوضى، نضال المعلمين ينذر بعاصفة قادمة”، كتبت تسيبي براند، عضو مجلس بلدي تل أبيب-يافا، في صحيفة هآرتس، أن أزمة جهاز التعليم المتفاقمة في ظل الحرب على غزة تعكس انهيارا أوسع في المنظومة السياسية والاجتماعية بإسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

وانتقدت براند حكومة بنيامين نتنياهو التي -رغم انتخابها قانونيا- تسعى إلى تفكيك مؤسسات الدولة واستغلال التفويض الشعبي لفرض أجندة ضيقة ترتكز على رؤية دينية متشددة لا تمثل غالبية الإسرائيليين، على حد وصفها، متهمة إياها بالتنازل عن الأسرى، وتهميش البيروقراطية المهنية، والتضحية بالجمهور من أجل البقاء السياسي.

وأشارت إلى أن الاتفاقات التي أبرمت مع المعلمين تمت في “عصر مختلف” كانت فيه الحكومة مسؤولة فعليا عن مواطنيها، وتحترم القانون والقضاء، وترسل الجنود للمعارك فقط عندما يكون الهدف وطنيا لا سياسيا.

وبرأيها، فإن نضال المعلمين ليس أزمة قطاعية فقط، بل إنذارا مبكرا بانهيار الثقة بالدولة ومؤسساتها.

شاركها.
Exit mobile version