كيغالي– عند زيارتك العاصمة الرواندية كيغالي لأول مرة تأسرك المدينة بجمال طبيعتها، ونظافة شوارعها وأزقتها، وانتظام مبانيها، وسلاسة المرور عبر طرقاتها.

فحيثما ولّيت وجهك، تقع عينك على أشجار أو أزهار أو مساحات خضراء تملأ كل الجنبات، فلا لون سوى الأخضر.

قد تكون هذه حال عديد من البلدان والمناطق، خاصة تلك التي تهطل فيها الأمطار باستمرار في وقت عزّت فيه المياه بسبب التغيرات المناخية، لكن المثير في قصة رواندا -التي تقع شرق وسط القارة السمراء– هو أن هذا البلد الأفريقي لم تمض على أحداث الإبادة الجماعية فيه سوى 3 عقود.

مدة ربما لا تكفي حكومات عدة للتخطيط وإطلاق المشاريع، بينما هنا -حيث قُتل أكثر من 800 ألف شخص في 100 يوم فقط عام 1994- كانت الـ30 سنة كفيلة بلملمة الجراح ونسيان الماضي الأليم وتحقيق الوحدة والمصالحة وبناء اقتصاد يعد من بين الأسرع نموا في القارة الأفريقية.

لا ازدهار بدون سلام

“لا يمكن أن نتصور قيام تنمية أو اقتصاد مزدهر في بلد مثل رواندا المثقل بالجراح دون تحقيق الأمن والسلام، وهذا ما تفعله الحكومة الحالية”، يقول سيرج رويغامبا مسؤول العلاقات الخارجية في “مركز النصب التذكاري للإبادة الجماعية” بالعاصمة كيغالي.

رويغامبا أضاف للجزيرة نت -خلال جولة داخل متحف كيغالي- أن السياسة الحالية للحكومة تقوم على مجموعة أهداف، من أهمها تحقيق الوحدة بين أفراد المجتمع الرواندي والعمل على تجاوز الآلام التي خلفتها إبادة جماعية بدأت في السابع من أبريل/نيسان 1994 وحتى منتصف يوليو/تموز من السنة ذاتها، عندما شنت مليشيات متطرفة من جماعة الهوتو حملة إبادة ضد أقلية التوتسي.

سيرج رويغامبا مسؤول العلاقات الخارجية في مركز النصب التذكاري للإبادة الجماعية

إن أهم شيء تقوم به الحكومة الحالية -يؤكد رويغامبا- هو تكريس مبادئ المصالحة وروح العمل الجماعي لبناء بلد قوي اقتصاديا وتنمويا، ومحاولة إعادة تثقيف أفراد المجتمع على قيم التسامح والوحدة والمشاركة الإيجابية بجانب تحقيق العدالة ومعاقبة الجناة كأساس لتضميد جراح الماضي، واستشراف مستقبل أفضل للأجيال الحالية والمستقبلية.

واستقبل متحف كيغالي أكثر من 144 ألف زائر خلال الـ10 أشهر من السنة الحالية، 64% منهم من خارج رواندا، للتعرف عن قرب على حجم المأساة التي خلفتها الإبادة الجماعية في البلاد والأحداث التي أدت إلى هذه الإبادة واستخلاص الدروس منها على أمل عدم العودة إلى مثلها في المستقبل، كما يوضح المسؤول بالمتحف التذكاري.

قصص وعبر

كل زاوية من مركز كيغالي -الذي افتتح عام 2004- تختزل قصة بذاتها لتنصهر مع بقية القصص الأخرى وترسم صورة عن هول الإبادة الجماعية في رواندا.

في هذا المركز يقدر المسؤولون أنه قد دفن أكثر من 250 ألفا من الضحايا، بينما لا يزال البحث جاريا لاستكشاف مزيد من جثت الضحايا لجلبها إلى هناك.

وفي قلب المركز، توجد حدائق عديدة تروي قصص الضحايا من الأطفال وتبعث بالأمل بغد أفضل للأجيال الحالية والمقبلة، وتعكس لحظات تكريم النساء الروانديات في الماضي والحاضر والمستقبل، وترمز إلى حاجة المجتمع الرواندي لنبذ العنف وحماية الأفراد والجماعات من عقيدة الإبادة الجماعية.

حدائق بعضها يرمز إلى حالة الانقسام في البلاد غداة الإبادة الجماعية بعد حقبة من الوحدة رغم محاولات الاستعمار للتفرقة بين أفراد المجتمع، وبعضها الآخر يرسل رسائل بشأن قيم المصالحة والوحدة.

وفي المتحف 3 أقسام رئيسية: قسم مخصص للإبادة الجماعية في رواندا، وآخر لحالات الإبادة الجماعية في عدد من مناطق العالم، وثالث مكرس لرصد صور من إبادة الأطفال.

وقد تعزز المركز ببرنامج لتدريب الأساتذة على تعليم الطلاب “النقد الذاتي والتعاطف والمسؤولية الشخصية من البرنامج الدراسي”، بحسب رويغامبا.

وليس مركز كيغالي وحده من يتولى مهمة التذكير بهول الإبادة الجماعية وآثارها النفسية الاجتماعية والاقتصادية، بل كل المتاحف الشبيهة عبر ربوع البلاد تقوم بدور تعريف الزوار المحليين والدوليين بالمأساة وانعكاساتها على المجتمع، ومحاولة منع حدوث قصص مؤلمة شبيهة في المستقبل.

وفي ركن آخر من العاصمة، يوجد “متحف حملة ضد الإبادة الجماعية”، أحد المتاحف المتعددة في رواندا التي ترصد تاريخ وثقافة الروانديين.

يقع المتحف في المبنى البرلماني للبلاد وافتتح عام 2017 بهدف عرض تاريخ رواندا خلال الحملة ضد الإبادة الجماعية بحق التوتسي، ويرصد المتحف بالتفصيل كيف تم تنفيذ خطة لإنجاح الحملة ضد هذه الإبادة الجماعية.

أرقام اقتصادية دالة

وبين مركز النصب التذكاري ومتحف الحملة ضد الإبادة الجماعية -حيث يقضي الزائر لحظات مع تاريخ مؤلم من رواندا- تنبض الحياة بالخارج حيث لا تنقطع الحركة السياحية والزراعية والصناعية في مناطق عديدة من البلاد، في رغبة جماعية للنهوض باقتصاد حقق نموا بمعدل 8% عام 2023.

اقتصاد يعتمد أساسا على قطاع الزراعة الذي يساهم بـ27% من الناتج المحلي للبلاد، إلى جانب القطاع الصناعي (18%) ثم القطاع السياحي حيث تستقبل رواندا أكثر من 1.4 مليون سائح سنويا في المتوسط لتدر على خزينة الدولة مئات الملايين من الدولارات لمواجهة احتياجات متزايدة لسكان يبلغ تعدادهم أكثر من 14.5 مليون نسمة.

هذه الرغبة الجماعية لتحقيق الازدهار لخصها مدير متحف الحملة ضد الإبادة الجماعية ميدارد باشانا في عدد من النقاط -وصفها بكونها أساسية- ومنها وحدة المجتمع، وتوفير الأمن وبناء اقتصاد قوي عبر رسم إستراتيجيات وسياسات أكثر عدالة وديمقراطية.

يضاف إلى ذلك -حسب باشانا- دور القضاء على الفساد ونسج علاقات دبلوماسية قوية مع الخارج وتوسيع شبكة العلاقات لدعم الاقتصاد بجانب تعزيز الرفاه الاجتماعي.

 

شاركها.
Exit mobile version