الدوحة – في ظل التحولات الاقتصادية العالمية وتزايد التحديات المرتبطة بتقلبات أسواق الطاقة، تمضي دول مجلس التعاون الخليجي بخطوات متسارعة نحو إعادة هيكلة اقتصاداتها، عبر تنويع مصادر الدخل وتعزيز حضور القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي.

ويأتي هذا التوجه كخيار إستراتيجي ينسجم مع الرؤى الوطنية الطموحة، مثل رؤية قطر الوطنية 2030 ورؤية السعودية 2030، والتي تجعل من الاقتصاد المعرفي والاستدامة ركيزتين أساسيتين للمستقبل.

وكشف المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون، في بياناته الأخيرة، عن طفرة نوعية في هذا المسار، إذ ارتفعت مساهمة الأنشطة غير النفطية في الناتج الخليجي بالأسعار الجارية إلى 71.5% بنهاية عام 2023، مقارنة بـ65% في 2022، وبمعدل نمو سنوي بلغ 6.4%. ويعكس ذلك نجاح السياسات الخليجية في تقليص الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للإيرادات.

وتؤشر هذه الأرقام إلى تحول إستراتيجي في بنية الاقتصاد الخليجي، حيث لم يعد النفط المحرك الوحيد للنمو، بل شهدت أغلب الأنشطة الاقتصادية معدلات نمو إيجابية العام الماضي؛ إذ حقق قطاع المال والتأمين نموا بـ11.7%، يليه النقل والتخزين بـ11.6%، ثم الأنشطة العقارية بـ8.1%، والإدارة العامة والدفاع بـ7.9%، وتجارة الجملة والتجزئة بـ7.6%، فيما نما قطاع التعليم بـ5.5%، وفقا لبيانات المركز.

ويرى محللون أن هذا النمو المتسارع يعكس نتائج تبني سياسات واضحة لتنويع الاقتصاد، عبر الاستثمار في البنية التحتية وتعزيز بيئة الأعمال ودعم الابتكار والاقتصاد المعرفي، إلى جانب تحفيز قطاعات خدمية وصناعية واعدة.

وأكدوا للجزيرة نت أن هذه السياسات لم تعد مجرد خطط نظرية، بل تحولت إلى برامج تنفيذية انعكست على أرقام النمو المسجلة، مما يعزز قدرة الخليج على مواجهة تقلبات الطاقة وضمان استدامة التنمية.

إستراتيجيات التنويع الاقتصادي

ويشير أستاذ العلوم المالية والمصرفية بجامعة قطر رامي زيتون إلى أن صعود مساهمة الاقتصاد غير النفطي يرتبط بجملة من العوامل، أبرزها تبني إستراتيجيات التنويع الاقتصادي، حيث وضعت دول الخليج رؤى مستقبلية واضحة تستهدف تقليص الاعتماد على النفط والتركيز على قطاعات بديلة أكثر استدامة.

وأوضح زيتون في حديث للجزيرة نت أن هذه العوامل تشمل الاستثمار في قطاعات مثل السياحة والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والخدمات اللوجستية والتعليم، وهي قطاعات بدأت تلعب دورا محوريا في دعم الناتج المحلي.

وأضاف زيتون أن الدعم الحكومي المستمر عزز هذا التوجه، من خلال سياسات مالية ونقدية تشمل السيطرة على معدلات التضخم وتقديم الحوافز للمستثمرين المحليين والأجانب، إلى جانب تطوير البنية التحتية الحديثة والنمو في القطاع المالي، ما جعل من دول الخليج مراكز مالية واستثمارية إقليمية وأسهم في تنشيط قطاعات التجارة والخدمات.

كما لفت إلى تبني سياسات داعمة للابتكار والاقتصاد المعرفي، من خلال الاستثمار في التعليم والبحث العلمي وإنشاء مؤسسات متخصصة لريادة الأعمال، وهو ما أفرز أنشطة اقتصادية قائمة على المعرفة، إلى جانب دعم الصناعات التحويلية والتحول الرقمي، الأمر الذي ساعد على تنمية الاقتصاد المحلي وتقليص الاعتماد على الواردات.

ضمان استدامة النمو

من جهته، يرى الخبير الاقتصادي القطري عبد الله الخاطر أن تنويع الاقتصاد ليس توجها جديدا في الخليج، بل هو مسار إستراتيجي بدأ منذ عقود نتيجة إدراك الحكومات أن الاعتماد على النفط والغاز وحدهما لا يضمن استدامة النمو أو يحمي الاقتصادات من تقلبات الأسواق.

وأوضح الخاطر، في حديثه للجزيرة نت، أن دول الخليج وفي مقدمتها قطر عملت على تعزيز مساهمة القطاعات غير النفطية من خلال الاستثمار المكثف في البنية التحتية والتعليم والابتكار وقطاعات الخدمات، باعتبارها ركائز أساسية لأي اقتصاد متنوع.

وأضاف أن دول المجلس تواصل جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة عبر تقديم حوافز متنوعة وتبسيط الإجراءات، بما يجعل بيئتها الاستثمارية أكثر تنافسية، مشيرا إلى أن التوسع في الصناعات التحويلية يسهم في رفع القيمة المضافة وتقليل الاعتماد على الواردات.

وأشار إلى بيانات أعلنها المجلس الوطني للتخطيط في قطر يونيو/حزيران الماضي، حيث سجل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للربع الأول من 2025 نموا بـ3.7% مقارنة بالفترة نفسها من 2024، وساهم الاقتصاد غير الهيدروكربوني بحوالي 63.6% من الناتج المحلي أي نحو 115 مليار ريال قطري، بعد أن كانت مساهمته 62.6% في الفترة ذاتها من 2024.

كما لفت الخاطر إلى أن قطاعي السياحة والضيافة يحظيان بمكانة متقدمة في الإستراتيجيات التنموية، خاصة بعد استضافة قطر كأس العالم 2022 وما تبعها من تطوير في المنشآت الفندقية وشبكات النقل والخدمات اللوجستية، ليصبح هذا القطاع اليوم أحد أبرز محركات النمو غير النفطي بفضل ما يوفره من فرص عمل وما يجذبه من استثمارات محلية وأجنبية.

تحولات اقتصادية عالمية

أما الخبير الاقتصادي عبد الرحيم الهور، فيؤكد للجزيرة نت أن رفد اقتصادات الخليج بالتنوع لم يعد خيارا بل ضرورة إستراتيجية، بعدما أثبتت السنوات الأخيرة أن الاعتماد على قطاع الطاقة التقليدي وحده لم يعد كافيا لضمان النمو المستدام في ظل تقلبات الأسواق والتحديات المناخية.

ويضيف أن التوجه الخليجي الجماعي نحو تعزيز القطاعات غير النفطية يعكس إدراكا عميقا بضرورة بناء اقتصاد أكثر مرونة، مشيرا إلى أن بيانات 2024 أظهرت أن النمو غير النفطي بلغ 3.7%، مقابل 1.8% فقط للنمو الإجمالي، ما يؤكد أن هذه القطاعات باتت المحرك الرئيس للاقتصاد.

وأوضح الهور أن بيانات قطر الأخيرة تكشف أن الدوحة تواصل قيادة مسار التنويع بخُطا متسارعة، حيث نما ناتجها المحلي الإجمالي في الربع الأول من 2025 بنسبة 3.7%، مدفوعا بارتفاع مساهمة القطاع غير الهيدروكربوني الذي سجل نموا بـ5.3%.

وبحسب تقرير لشركة “برايس ووترهاوس كوبرز” العالمية للاستشارات، فإن الناتج غير النفطي في الخليج نما بمعدل 3.7% خلال 2024، حيث حققت السعودية نموا بـ3.5%، فيما بلغ النمو في الإمارات 4.9%، وسجلت سلطنة عمان 3.4%، في حين بلغ 3.5% في البحرين و2.2% في الكويت.

كما يوضح التقرير الربع سنوي لمجلس التعاون أن الناتج غير النفطي سجل نموا بـ3.7% في الربع الرابع من 2024، مقابل انكماش طفيف في قطاع النفط بنسبة 0.9%، ما يؤكد أن القطاعات غير النفطية باتت تهيمن على أكثر من 70% من نمو الناتج الخليجي.

ويرى الهور أن الفوارق في معدلات النمو بين الدول لا تلغي القاسم المشترك بينها، والمتمثل في التحرر التدريجي من الاعتماد على النفط، وإرساء قاعدة اقتصادية متنوعة ترتكز على الصناعة والخدمات والتكنولوجيا والطاقة النظيفة.

شاركها.
Exit mobile version