منذ بداية الربع الثاني من العام 2022 بشكل خاص وأسواق العقارات الرئيسية في أوروبا تشهد ضغوطات حادة، تنذر بأزمة تتفاقم يوماً تلو الآخر، في ضوء الأوضاع الناجمة عن الانعكاسات الاقتصادية للحرب في أوكرانيا.
يأتي ذلك مع ارتفاع معدلات التضخم، وقرارات البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة، ومن ثم تراجع الإقبال على الاقتراض لشراء العقارات وانخفاض الطلب عليها، وفي ظل مخاوف الركود الاقتصادي المسيطرة على الأسواق هناك.
الشركات العاملة في مجال العقارات في أوروبا كانت أكثر المستفيدين لفترات طويلة من أسعار الفائدة المنخفضة على الاقتراض من أجل الحصول على عقار، وهي الأسعار التي أحياناً كانت تكون صفر بالمئة، إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، حيث الحرب في أوكرانيا وتداعياتها التي عصفت بهذا القطاع، لتجد هذه الشركات نفسها في ورطة حقيقية مع تراجع الطب على العقارات.
- رفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة أخيراً خمس مرات على التوالي
- رفع البنك سعر الفائدة الرئيسي 3 نقاط مئوية في سبعة أشهر فقط ضمن محاولات كبج جماح التضخم
- في اجتماعه الأخير، الشهر الماضي، رفع المركزي الأوروبي الفائدة على الإيداع إلى 2.5 بالمئة من 2 بالمئة
- رفع بنك إنجلترا في اجتماعه الأخير الفائدة (للمرة العاشرة على التوالي) لتصل إلى 4 بالمئة
ترتب على ذلك هزة في قطاع العقارات بشكل خاص، الذي عرف انخفاضاً بالأسعار أخيراً؛ نتيجة توقف الاقتراض بأسعار فائدة مرتفعة، ومن ثم توقف الطلب.
وفي هذا السياق، أصدرت مؤسسة “ستاندرد أند بورز” للتصنيف الائتماني، تقريراً عن آفاق قطاع العقارات في أوروبا، تضمن توقعات باستمرار تراجع أسعار المنازل في أغلب الدول الأوروبية خلال 2023 و2024، لكنه تراجع نسبي وليس حاداً يقود لانهيارات بالقطاع.
أبرز التقرير في السياق ذاته عدة عوامل يُمكن معها الحديث عن صلابة القطاع نسبياً في مواجهة التحديات المرتبطة بانعكاسات ارتفاع أسعار الفائدة على قطاع العقارات،من بين أبرز تلك العوامل: (محدودية المعروض بالسوق) إضافة إلى تمتع الأوروبيين بفوائض مالية، لا سيما تلك التي حصلوا عليه من خلال الدعم الحكومي إبان فترة كورونا.
لكن التقرير تحدث في الوقت نفسه عن تباين مدى وعمق التأثر بين الدول الأوروبية وفترة التعافي التي يحتاجها القطاع بكل بلد.
أطول فترة تراجع لأسعار العقارات منذ سنوات طويلة
يقول الخبير الاقتصادي من لندن، الدكتور أنور القاسم، في تصريحات لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن أسعار العقارات في أوروبا عامة والمملكة المتحدة خاصة تعاني من انخفاض مقلق؛ نتيجة تداعيات وباء كورونا أولا ثم الحرب في أوكرانيا، التي أشعلت أسعار الطاقة وفرضت تضخماً واسعاً في الأسعار هو الأعلى منذ أربعين عاماً تقريباً، مشدداً على أن “أسعار العقارات في بريطانيا على سبيل المثال استمرت في التراجع للشهر الخامس على التوالي، وهي أطول مدة تتراجع متتالي منذ سنة 2008، أي تاريخ الأزمة الاقتصادية العالمية، وهذا يبعث بمؤشرات سلبية للمستثمرين في هذا القطاع”.
ويلفت القاسم إلى أن قطاع العقارات في المملكة المتحدة يعد ثاني أكبر قطاع عقاري في أوروبا بعد ألمانيا، وتقدر قيمته السوقية بأكثر من 250 مليار جنيه إسترليني، وبالتالي فإن أية هزة يتعرض لها هذا القطاع تعد ضربة قوية للاقتصاد برمته.
ويشير الخبير الاقتصادي من لندن، إلى أن أسعار العقارات تراجعت في بريطانيا بين أكتوبر ونوفمبر الماضيين بنسبة 2.3 بالمئة، وهو أكبر تراجع شهري منذ بداية الأزمة الاقتصادية العالمية.
توقعات باستمرار التراجع خلال 2023
ويؤكد الدكتور أنور القاسم، في معرض حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، على أنه من المتوقع أن يستمر هذا التراجع خلال العام الجاري 2023، بسبب سياسة البنك المركزي في رفع سعر الفائدة من أجل التحكم في معدلها، إذ يتوقع أن يرتفع إلى 4.75 بالمئة مع نهاية هذه السنة.
وتشير التوقعات إلى أن الأسعار تنخفض بنسبة تتراوح بين 5 و12 بالمئة، فيما تذهب بعض التقديرات إلى السيناريو الأسوأ، وهو الانهيار بنسبة 20 بالمئة.
ويسلط القاسم الضوء على مجموعة أخرى من الأسباب المؤدية لتراجع سوق العقارات، موضحاً أن تراجع السياحة والقوة الشرائية للأوروبيين له أثر كبير على أسواق العقارات، لا سيما في دول أوروبا التي عانت مع اضطرابات على مدار حوالي عامين بالنسبة للقطاعات الاقتصادية.
ويشدد على أن عودة قطاع العقارات لنشاطه السابق ونموه مرهوناً بمجريات الحرب في أوكرانيا وانتعاش السياحة والخروج من الأزمات الاقتصادية التي تواجهها معظم دول العالم بما فيها أوروبا.
العقارات في مواجهة التضخم!
على الجانب الآخر، يعتقد الخبير الاقتصادي مدير مركز كوروم للدراسات في لندن، الدكتور طارق الرفاعي، بأن الحرب في أوكرانيا ليس لها تأثير مباشر، لكن السبب الأساسي المؤثر اليوم على أسعار العقارات في أوروبا هو نسبة التضخم المرتفعة جداً، مردفاً: “نحن نتحدث عن أعلى مستويات في التضخم منذ إنشاء عملة اليورو تقريباً”.
ويضيف في تصريحات لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن هذا هو أول اختبار لعملة اليورو مع أزمة التضخم الحاد على هذا النحو، وبالطبع ردة فعل البنك المركزي الأوروبي كان رفع أسعار الفائدة، ورفع أسعار الفائدة كان أبطأ في أوروبا مقارنة على سبيل المثال بالولايات المتحدة الأميركية، بسبب هشاشة البنوك الأوروبية وبالتالي خوف البنك المركزي من رفع سعر الفائدة بوتيرة أسرع تُحدث أزمة في القطاع المصرفي الأوروبي.
ويقول الرفاعي: “ولذلك بدأنا نرى نسبة التضخم تنخفض في أميركا، بينما في أوروبا لا نزال نرى مستويات عالية للتضخم، ولا بد للبنك المركزي التدخل مرة أخرى ورفع أسعار الفائدة أعلى مما كان عليه من قبل، وهذا سيؤدي إلى ضغط أكثر بالطبع على القطاع العقاري الأوروبي وكذلك القطاع المصرفي، فالوضع اليوم في أوروبا صعب جداً”.
عقارات ألمانيا في مهب الريح
وبعيداً عن بريطانيا التي تأتي في مقدمة المتأثرين، فإن قطاع العقارات في ألماني يواجه ضغوطات متفاقمة.
وفي هذا السياق، أجرت رويترز استطلاعاً لرأي عدد من المحللين الاقتصاديين، أجمعوا على أن أسعار المنازل ستنخفض بشكل كبير ليس هذا العام فحسب، بل في العام المقبل كذلك، وربما أكثر مما كان يُتوقع في السابق، ولفتوا إلى أن الضغوطات الناتجة عن ارتفاع أسعار المعيشة وارتفاع معدلات الفائدة والتضخم، كانت سبباً في تخلي عديد من الألمان عن أحلامهم بامتلاك منزل، والاستمرار بدلاً من ذلك في السكن المستأجر.
وأكد المشاركون في الاستطلاع أنه مع توقعات رفع أسعار الفائدة مرتين على الأقل في الأشهر القليلة المقبلة، واستمرار التضخم عند حوالي 9 بالمئة، فمن غير المرجح أن يحدث أي تغير في وضع سوق العقارات قريباً، لافتين إلى أنه من المتوقع أن ينخفض متوسط أسعار المنازل في ألمانيا، وهو أكبر اقتصاد في أوروبا، بنسبة 5.8 بالمئة هذا العام، و2.5 بالمئة في العام المقبل.
وتعليقاً على ذلك، يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة بورتسموث، الدكتور أحمد عبود، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن هناك هبوطاً حاداً يضرب أسعار العقارات في أوروبا، وصل إلى نسبة 15 بالمئة ببعض الدول، ونحو 7 أو 8 بالمئة في دول أخرى مثل إيطاليا، موضحاً أن ألمانيا كذلك شهدت انخفاضاً فيها بسوق العقارات لم تشهده منذ حوالي 10 سنوات، نتيجة أزمة الحرب في أوكرانيا التي أثرت على معدلات التضخم بشكل مباشر.
ويشير إلى أن رفع سعر الفائدة أدى إلى انخفاض الطلب على الاقتراض، وبالتالي انخفاض معدلات الطلب بسوق العقارات، ومن ثم حدوث ركود تضخمي، مؤكداً على أن هذا التراجع سيستمر ما استمرت حالة الركود التضخمي التي تواجهها أوروبا ودولة مثل ألمانيا بشكل خاص.