في التصور التوراتي للصحراء ينقل لنا مؤلف كتاب “الأسطورة البدوية” دراما وصول الملكة بلقيس ملكة سبأ إلى القدس في عصر نبوة النبي سليمان، مع جناح كبير من أتباعها، ترافقهم الجمال التي تحمل الأعشاب العطرية وكميات ضخمة من الذهب والأحجار الكريمة، فالثروة مرتبطة بالصحراء، خاصة جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، وخلاف ذلك تظهر الصحراء في العهد القديم كمساحة قاحلة، وكمكان ملعون يأوي المستبعدين والهاربين والحيوانات البرية والشياطين، ولذا يعاقب قابيل على قتل شقيقه بالتشرد الأبدي فيها، وقد طردت هاجر جارية إبراهيم المصرية إلى الصحراء مع ابنها إسماعيل، ولم ينقذها إلا ظهور ينبوع الماء.

يناقش كتاب “الأسطورة البدوية في كتابات رحالة القرنين الـ18 والـ19” لمدير الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي سارغا موسى، عددا من المسلمات التي تبنتها الصورة النمطية للبدو العرب.

ويلقي الضوء على الجهود التي أسهمت في إنصاف هذه الجماعة البشرية، عبر إبراز القيم الإنسانية الرفيعة التي تتبناها، والكتاب صدر بالفرنسية عام 2016 عن منشورات جامعة السوربون وترجمته إلى العربية أستاذة الآثار والحضارات القديمة منى زهير الشايب، من خلال إصدارات المركز القومي المصري للترجمة.

يفتتح المؤلف الكتاب باقتباس من رسالة كتبها غوستاف فلوبير إلى لويس كوليه بتاريخ 13 أغسطس/آب 1846: “أحب هؤلاء القوم الحادّي الطباع، المثابرين، الأشداء، فهم الصورة الباقية للمجتمعات البدائية، تراهم في قيظ النهار يتمددون في الظلال أسفل جمالهم، ويسخرون –وهم يدخنون غلايينهم – من التمدن الذي أشعرهم بالغضب الشديد”.

ويؤكد المؤلف على أن رحالة القرن الـ19 لعبوا دورا رئيسا في بناء هذه “الأسطورة البدوية” ونشرها، والتي يمكننا تتبع رواياتها المختلفة عند كتّاب أوروبيين معروفين مثل لامارتين، وجان جاك روسو، وشاتوبريان، وغوستاف فلوبير، ومؤرخين مثل جوزيف بوغولات”، حيث تناولوا الانتقادات الداعمة للنظرة المثالية للبدو، جنبا إلى جنب مع الخطاب المعادي للإسلام في مطلع القرن الـ19، مستعينا بكتاب “رحلة إلى الشرق” لفلوبير كمحصلة نهائية لهذا التحيز.

ويشير الكتاب إلى أن “الأسطورة البدوية” لا تقوم على فكرة هيمنة “الآخر”، بل على العكس، تظهر تجرد عددٍ من الرحالة عن “الذات” وتسمح بنقد المركزية الأوروبية نفسها، التي تسمح لنفسها بالهيمنة بصورة لا تخلو من الاستبداد الذي ناهضه مفكرو عصر التنوير والرومانسية.

ويضيف المؤلف أن الأسطورة البدوية ليست أقل مركزية من الخطاب الاستشراقي الذي انتقده إدوارد سعيد، ومثالية البدو على مدى أكثر من قرن في الأدب الوصفي، بين القرنين الـ18 والـ19، تبين أن الثقافة الأوروبية، بفضل الرحالة انفتحت على الشرق -على الأقل شرق معين ـ تتغير فيه الحياة في الصحراء، عند اتصالها بصور جديدة بنتها بنفسها.

خارج المكان.. إدوارد سعيد

جذور الأسطورة

حظي البدو الرحل شيئا فشيئا خلال القرن الـ18 بنظرة مثالية تحوَّلت بعد كتابات روسو “لأسطورة بدائية”، ولفهم هذه النقلة النوعية التي بدأت في عصر التنوير، إذ تم تصوير البدو وتقديمهم طيلة قرون سابقة على أنهم لصوص، وكيانات همجية وشريرة، تتجذر هذه الصورة النمطية في سرد مزدوج وثني وديني، في العصور اليونانية القديمة، يبدو العرب البدو على نقيض الإنسان المتحضر المستقر، ويصور الكتاب المقدس (العهد القديم) الصحراء كمكان مخيف تسكنه الشياطين، ويستمر هذان التصوران لفترة طويلة ويتم نقلهما إلى حد كبير لحجاج الأراضي المقدسة، دون أن يختفي تماما في القرن الـ19.

وجاء حجاج الأراضي المقدسة ليبرزوا الجانب السلبي للصورة التوراتية للصحراء بشكل كبير، كانوا يصورون الصحراء كجحيم يسمح بتصورات رمزية لسكانها، وتحدث بيير بايلون عام 1553 عن “اللصوص العرب” حين حاول حماية نفسه منهم بقضاء ليلة في الظلام في نزل بالقرب من غزة، وكثر استخدام لفظ اللصوص كناية عن “عرب الصحراء”، وكأن السرقة سمة موجودة عند البدو – حسب المؤلف.

وساد حكم سلبي في كل روايات الحج في الشرق حتى القرن الـ17، وحتى من غير الحجاج، كما في كتابات الطبيب وعالم الطبيعة بايسونيل الذي يرجع تاريخ إقامته في شمال أفريقيا إلى عامي 1724 – 1725، لم يستطع منع نفسه من اتهام البدو بجميع أنواع الرذائل، على الرغم من تمتعه بكرم ضيافتهم طوال فترة إقامته، واصفا إياهم: بأنهم يحبون المال والاستقلال والكسل، هم رصينون جدا، وبليغون بشكل طبيعي، مرنون في الشدائد، ومتعجرفون في الرخاء، كذابون ولصوص بارعون، ومحلفون رائعون وبذيئون للغاية”.

تحول الصورة

حلت كلمة “بدو” محل كلمة عربي شيئا فشيئا، وساد هذا المصطلح مع تغير الوعي بين بداية ونهاية عصر التنوير، الذي يعكس الانتقال من صورة العربي اللص إلى صورة البدوي الكريم.

وتعد المكتبة الشرقية (1697) لـ بارتيلمي هريلو واحدة من أفضل المقاييس لتغيير الصورة الذي صاحب نشر مصطلح البدو في الثقافة الفرنسية، وإذا كان السابق للموسوعة الإسلامية، ومن خلال هذا التحقيق المعجمي البسيط، بدا نفي الصورة السلبية للبدوي المتوحش، وذكر أيضا: “ومن الواضح أن فكرة تفوق عرب الصحراء على سكان المدن ترتبط بتاريخ النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي انتشرت دعوته في شبه الجزيرة العربية.

ويعلق دو هريلو أيضا في العديد من القصص المستمدة من مصادر عربية، على أن البدوي يظهر كمستودع للحكمة الإلهية، التي يقولها بلغة شعرية طبيعية، لذا فعندما يسأل العربي أو البدوي: كيف تعرف أن الله موجود؟.. يجيب بصيغة براقة: “هل يحتاج الفجر إلى شعلة لكي يُرى؟”.

ومن خلال إلقاء نظرة من الداخل عن البدو من خلال معايشة رحلات وبعثات الفارس دارفيو (1653 – 1697) الذي عاش في الشرق فترة طويلة قنصلا في صيدا وحلب وكتب كتابات مطولة عن العيش في مخيم قبيلة بدوية من سوريا، فند دارفيو النظرة السلبية التي تبناها بعض الرحالة، وقدم كتابا لما نسميه اليوم نقدا للمركزية الأوروبية، فهو يحتج على سبيل المثال على الاستنتاجات المتسرعة التي يستخلصها الأوروبيون عن ممارسة السرقة بين القبائل العربية: ” نحن مخطئون بشكل فادح عندما نعتبر البدو أناسا غير مهذبين، غلاظا، وقحين، وحشيين، ظالمين، لديهم عنف، دون ولاء، دون مشاعر.

ويشير المؤلف إلى أن الرحالة يستعينون بقصص رحلات سابقة، إما للحصول على معلومات أو للاستشهاد، وقصة دارفيو أشار إليها كارستن نيبور الشهير بمشاركته عام 1671 في الرحلة الاستكشافية العلمية إلى شبه الجزيرة العربية التي نظمتها الحكومة الدانماركية، وهو الوحيد (من أصل 5 رحالة) الذي عاد حيا، ومن خلال الوصف الأنثروبولوجي العلمي الذي قال به دارفيو للبدو العرب في الصحراء.

وقال نيبور في الفصل الثامن من وصفه للجزيرة العربية بعنوان “عن مختلف قبائل البدو، أو عن العرب المتجولين”: إن البدو العرب الحقيقيين الذين قدروا دوما حريتهم أكثر من تقديرهم للثروة، يعيشون في قبائل منفصلة تحت الخيام، ومازالوا يحتفظون بنفس شكل الحكم ونفس الأعراف والعادات مثلما فعل أسلافهم حتى في أبعد المناطق”.

روسو والأسطورة

وكان للمفكر روسو دور حاسم، فقد كان لروايته دور حاسم في بزوغ الأسطورة البدوية خلال الأعوام 1770 – 1780 لتمييز هؤلاء البدو الذين اعتادوا العيش في الهواء الطلق عن غيرهم من العرب الذين يقطنون المدن ولوثتهم الحضارة الحديثة “البدو لديهم رائحة خفية للغاية، تعجبهم المدن قليلا ولا يفهمون، كيف يمكن للناس الذين يفتخرون بحب النظافة أن يعيشوا في هذا الهواء الملوث؟.

ويقول المؤلف، من العوامل التي أسهمت بشكل كبير في إلحاق الطابع الأسطوري بالقبائل البدوية في القرن الـ18 أنهم من نسل إسماعيل وهاجر، ويعتبر المستشرق سافاري الضيافة البدوية نتيجة منطقية لإحدى حالات الطبيعة التي يمكن الحفاظ عليها على مر القرون، ويشير أيضا إلى سفر التكوين لوصف الطريقة التي يستقبل بها البدو الغرباء، وكان سافاري أكثر تأثرا بروسو من تشويسول – جوفييه، فأعطى للبدو صورة متجانسة تدحض قدر الإمكان مسألة السرقة.

وفي عام 1780، في الطبعة الثالثة لـ”تاريخ الهند” أضاف فقرة في الفصل الحادي عشر “وصف الجزيرة العربية” من الكتاب الثالث، تقدم مدحا لافتا لشعر العرب البدو، و تشكل انعكاسا كاملا للصورة البدوية وموقفا معارضا للنقد الذي صاغه توربين عن تنافر اللغة العربية: “تتسم مؤلفاتهم بسمو وعذوبة وصفاء من حيث التعبير ومن حيث الإحساس، الذي لا يتماثل مع أحاسيس أي من الشعوب القديمة والمعاصرة، كأن عذوبة اللغة التي يخاطبون نساءهم بها في هذا العالم، هي نفسها التي سيخاطبون بها حورياتهم في الآخرة، إنها نوع من الموسيقى شديدة التأثير والرقة والرنين، هذه مفارقات مضحكة ومتجددة: وأود أن أقول إن شعرهم معطر بعطر بلادهم…”

وعلى المستوى البلاغي فإن الاستخدام الواسع للمقارنات من المفترض أن يقلد لغة الشعر المنمقة المحبوبة بين العرب، وفي النهاية، على مستوى تسلسل المدلول فإن تكرار الحرف “ب” عند قراءة الشفاه للحرف الساكن يعطي جمالا افتراضيا على سبيل المثال: (presque poesie – parfumée) ولكن أيضا صوت الحرف المتحرك الممدود (contree – parfumee) يكشف عن رقة هذه اللغة الشعرية وموسيقاها المتخيلة من خلال السجع والقوافي.

ولا يمكن دراسة ميلاد الأسطورة البدوية دون النظر إلى المناقشات الفلسفية التي تسببت فيها بين الموسوعيين، بعد روسو تناقش عدد من الفلاسفة والكتاب والمؤرخين من عصر التنوير وغالبيتهم لم يعبروا البحر المتوسط وتجادلوا حول صورة النموذج البدوي، لاسيما التي تظهر باعتبارها شكلا استشراقية لـ”الهمجي النبيل”، ويعتبر هذا الفصل التفافا لابد منه حول أدب الرحلات، علما بأن رحلات دارفيو ونيبور و فولني قد أنعشت مناظرة الأفكار التي تلفت الأنظار إلى صورة البدوي التي أسسها الرحالة في نهاية عصر التنوير.

فولتير

أسهمت الصورة السلبية للبدو عند فولتير إما بشكل مباشر أو غير مباشر في انتقاده للدين، حيث قدّم فولتير في كتابه “محمد” صورة سلبية عن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، وربطها بالصورة النمطية السائدة عن البدو في عصره. وقد استخدم هذه الصورة لتوجيه انتقادات عامة، ليس للإسلام وحده بل لليهودية أيضاً، وقام فولتير في كتابه “محمد” بتطوير سجل نقدي مزدوج، ويحمل كتابه هدفا خفيا معاديا للإسلام من خلال انتقاده لما يزعمه عن أشكال التعصب الديني، وإن كان فولتير قد وجه نفس الاتهام لليهود العبرانيين، وهو يقول “هؤلاء الإسماعيليون يشبهون اليهود بالحماس والتعطش للنهب، وكانوا متفوقين من قبل بالشجاعة وقوة الروح والرحمة”.

وعلى العكس مما خطه فولتير، فإن العديد من النصوص التي تعد جزءا من كتاب “وصف مصر”، الذي أنجزه علماء الحملة الفرنسية، وكيف أسهمت في نقل وإعادة تشكيل الأسطورة البدوية في عهد الإمبراطورية الأولى، سواء لإعطاء صورة مثالية أو سلبية عنهم”.

ومن المتناقضات الموجودة للأسطورة البدوية الصورة التي جاءت عليها في موسوعة وصف مصر، ودور الباحث الفرنسي جون – ماري – جوزيف إيميه دي بوا (1799 – 1846) وهو ضابط مهندس ومتخصص في التاريخ الطبيعي، وكان مكلفا باستكشاف وادي التيه الذي يمتد من ضواحي القاهرة إلى الشاطئ الغربي للبحر الأحمر، ودراسته حول القبائل العربية في صحاري مصر الدراسة الأكثر أهمية وصف البدو في كتاب وصف مصر، والذي تشي بعداء تجاه البدو من البداية الذي يصور البدو الرحل كخطر على السكان “فنراهم يتجولون في جميع أنحاء مصر، وكأنهم حيوانات جائعة حول فريسة دسمة”.

والواقع فإن هذا العداء قد انقلب لإعجاب شعر به دي بوا إيميه فيما يخص أسلوب حياة البدو العرب، وينعكس الإعجاب في عدد من الملاحظات المتفرقة والمتكاملة، والتي تميل إلى توضيح القيم الأساسية للثورة الفرنسية.

في حين يقف على النقيض أدم فرانسوا جومار المسؤول عن البعثات الميدانية لوضع خريطة عامة للبلاد خلال الحملة الفرنسية على مصر، فهو يغالي في الصورة النمطية عن طريق تعميم وجهة نظره على قرى بأكملها “جميع السكان دون استثناء، والشيوخ أنفسهم، يمتهنون السرقة”، وأن بداوتهم هي السبب الرئيسي في عمليات السلب التي يتهمون بها.

أما ماري جوزيف كوتيل فيزيائي في الحملة الفرنسية الذي توجه إلى صعيد مصر وسيناء وأتيحت له فرصة دراسة حياة العرب الرحل عن كثب، وكشفت كتاباته عن موقف وسطي ومحايد إلى حد ما، إعجابا بشجاعتهم وكرم ضيافتهم، وصدق تعاهداتهم.

القس رافائيل دي موناكيس

مع النظر للصورة التاريخية للأسطورة البدوية، نجدها في المقام الأول أسطورة أوروبية انبثقت عن الثورة الفرنسية، وفي أعقاب الحملة الفرنسية على مصر، وجدت الأسطورة دعما جزئيا على الأقل من الشرقيين، وينطبق هذا على حال القس روفائيل دي موناكيس، واسمه الحقيقي أنطوان زخورة مؤلف العمل الرائد “البدو أو عرب الصحراء” المنشور في 3 مجلدات في باريس عام 1816، وفي الجزء الثاني من الكتاب معلومات زائفة عن البدو، مكررا على الأذهان الصورة النمطية القديمة عن البدوي اللص.

بوخارت

في مذكراته عن البدو والوهابيين 1830، استطاع السويسري جوهان لودفيج بوخارت (مكتشف آثار أبو سمبل 1812 في صعيد مصر) أن يوجه اهتماماته للبدو العرب، وتمثل كتاباته شكلا من أشكال الترحال، ويعد امتدادا للرحالة الدانماركي كارستن نيبور، وأسهم بوخارت في تغيير وجهة النظر من خلال ملاحظاته عن البدو، بتقديم البدو العرب بوصفهم أمة خرجت عن إطار التاريخ.

في نفس العام الذي يموت فيه بوخارت في القاهرة 1817، يرحل النبيل البولندي الكونت ووكلو روزيسكي إلى الشرق، ويبقى هناك سنين عدة، ويعنى بشكل كبير بنمط حياة البدو، ولكن على النقيض من خلفه السويسري عاش روزيسكي حقيقة حياة قبائل البدو في الصحراء، وسمي نفسه اسما عربيا، في محاولة للاندماج وسط عالم أغلبيته مسلمون مخفيا مظهره الأوروبي، وعرف بين البدو لاهتمامه بالخيول العربية الأصيلة التي اشترى منها مئة حصان عند عودته إلى أوروبا، وكتب كتابه الشهير “الخيول العربية”، ورسم للبدو الهاربين من وطأة العثمانيين شكلا من أشكال مقاومة الاحتلال الأجنبي.

شاتوبريان

مع متابعة تحولات هذه الأسطورة على مدار الفترة الزمنية المحددة، نجد أنه مع وصول شاتوبريان إلى المسرح الأدبي، حيث تطور في طبيعة سرد قصص السفر والترحال، والتي تم توجيهها بفضله نحو الصيغة الأدبية ونحو السيرة الذاتية التي أصبحت منذ ذلك الوقت فصاعدا لغة التواصل، وعندما رحل شاتوبريان إلى الشرق 1806 كتب إلى جوزيف جوبير من تونس في 13 يناير/كانون الأول 1807: “رأيت اليونان واليهود ومصر، وأنا على أنقاض قرطاجة، لكن هذا كلفني كثيرا يا صديقي، تعرضت للهجوم 3 مرات من قبل البدو، وفي المرة الأخيرة فكرت في الانتحار في نهر النيل”.

وعلى الصعيد الديني، يشترك شاتوبريان مع الأب بواريه في نفس الروح المعادية للإسلام، وقبله معظم الحجاج المسيحيين إلى الأرض المقدسة، مما جعله متشككا في ضيافة البدو له، “فقد سافر شاتوبريان إلى الأرض المقدسة، التوراة والإنجيل والحروب الصليبية في يده” كما يقول لامارتين.

على عكس ما خطته يدا شاتوبريان المثيرة للدهشة، تطور تصوير العرب البدو عند جوزيف بوجولا (1808 – 1880) وأستاذه جوزيف فرانسوا ميشو (1767 – 1839) حيث قدما صورة مواربة ومثالية للبدو في بداية عام 1830، وهي الفترة التي رحل فيها المؤرخان رحلة طويلة إلى الشرق.

لامارتين.. في مدح عنترة

كانت رحلة لامارتين إلى الشرق بين (يوليو/تموز 1832 – سبتمبر/أيلول 1833) في فترة فارقة في حياته، وعلى عكس شاتوبريان، فإن مؤلف “رحلة إلى الشرق” 1835 لم يسع إلى إثبات تفوق المسيحية على الديانات الأخرى، بشكل عام يعطي لامارتين صورة إيجابية للغاية للورع التركي.

ولم يكن الأتراك وحدهم هم الذين يمثلون الصورة المثالية في “رحلة إلى الشرق” ولكن العرب أيضا بما يتعارض مع وجهة نظر شاتوبريان، ولذا كان على لامارتين أن يدفع عنه دور الفارس والراهب ليقضي وقتا أكبر في الشعر والفلسفة.

ويلتقي الرحالة لامارتين بالسيدة ستانهوب في جبال لبنان، وسجل لامارتين وقائع الزيارة في فصل أعطاه عنوانا في كتاب الرحلة “زيارة إلى السيدة ستانهوب” وفي هذا الفصل سجل حوارا طويلا بينهما، وأعلنت السيدة ستانهوب له عن موهبته الشعرية، بل لعبت دور الوسيط في الاهتمام الذي أبداه الرحالة تجاه الشعر العربي، لاسيما شعر العرب الرحل.

كما اهتم لامارتين بشكل خاص بشخصية عنترة، الشاعر العربي الذي عاش في القرن السادس، واستلهم من حياته ملحمة كتبها نحو القرن الـ15 وهي “رواية عنترة”، وأعتبر أن الجزء الرعوي متفوق على الجزء الغنائي في شعر عنترة، ومن ناحية أخرى قام لامارتين بتحوير صوت المؤذن ليعلن أنه صوت شعري، وبنظرة مغايرة، فإن الصلاة نفسها أداء شعري.

وضاعف لامارتين أوجه التشابه بين ملحمة عنترة وبين الشعراء اليونانيين، أو التوراة ليظهر بوضوح وفقا لمفهومه الكوني أن الشعر في جميع الأماكن وفي جميع الأوقات لجميع الحضارات.

فلوبير.. ونقد المركزية الأوروبية

مثل لامارتين، يصور غوستاف فلوبير نفسه كبدوي، غير أن فلوبير الذي قام مع دو كومب برحلته العظيمة في البحر المتوسط، له فكر نقدي عن الاستشراق في عصره، وعن الصيغ المبتذلة التي تعبر عن أدب الرحلات، ومن ثم كانت خطاباته ومذكراته عن الرحلة في منتصف القرن الـ19 نوعا ما، عرضا من أعراض أزمة الأسطورة البدوية.

قام صاحب “مدام بوفاري” برحلته إلى الشرق في الفترة من 1849 – 1851، حيث عاش فلوبير حلمه الاستشراقي التي ستصبح الصحراء أحد مكوناته الأساسية، صحراء فلوبير لم تكن اللاشيء، بل على العكس مكان مأهول بالبدو ودوابهم، وكان مفتونا بشكل الجمل.

مع تطور الإمبراطوريات (الفرنسية والبريطانية) وميلاد ما يسمى (الخطاب الاستشراقي) في الأدب، الخطاب الذي قصده الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي يقوم على إضفاء شرعية على هيمنة الغرب على الشرق، كان من الضروري التركيز على شخصية البدو لا العرب ولا الأتراك، كان لابد من معالجة سؤال الاستشراق – بحسب المؤلف.

وجاء إدوارد سعيد يثير سؤال الاستشراق النظري مركزا على الجزء المهم من الأصل العرقي في العمل الأدبي الغربي، بخاصة أدب الرحلات منذ منتصف القرن الـ18 وحتى منتصف القرن الـ20.

المشرق الذي أنشأه الفكر الغربي، ليظهر كعنوان فرعي مناسب في الترجمة الفرنسية لكلمة “الاستشراق”، هو من ثم مجموعة كاملة من الصور كانت موضوعا لخطابات غير متجانسة مثلما يعتقد إدوارد سعيد.

ومع الاهتمام بصورة العرب البدو في الأدب الوصفي، يتضح أنه منذ منتصف عصر التنوير، تظهر صورة البدوي المثالي التي غالبا ما تستخدم للنقد، بشكل غير مباشر، في أوربا نفسها، وهذا ما أطلقت عليه (الأسطورة البدوية) التي دفعت كاتبا بحجم غوستاف فلوبير أن يكتب في لحظة غضب عندما احتج على شكل من أشكال السلطة في بلده (القوانين والحكومة والمجتمع): “سأعود إلى البدو الأحرار” بحسب المؤلف.

شاركها.
Exit mobile version