• رحم الله علي بن الجهم
  • رحم الله أبا العلاء المعري

تركز التداولية على مقاصد المتكلمين الصريحة والضمنية وملابسات الخطاب أو ما يعرف بمقام التلفظ/ السياق، فإذا سمعت أحدهم يقول رحم الله علي بن الجهم فإن عقلك سيجتهد -ما وسعه ذلك- أن يفهم مسوغ الترحم، إذ قلما يقول عاقل شيئا دون مغزى، فلماذا ذكر علي بن الجهم الآن؟ وما علاقته بما نخوض فيه؟ وما ارتباط الرجل بالأحداث الجارية؟ إلى آخر هذه الأسئلة، هذا أمر طبيعي.

انظر إلى ذلك الرجل الجالس على جسر الرُّصافة، يبصر من أحد طرفي الجسر امرأة من أحسن وأجمل بنات دهرها، بتعبير توفيق الحكيم “تضحك عن ثغر يسطع نورا”، ومن الطرف الآخر يمر شاب أُخذ بجمالها، قلّب فيها الطرف مصعّدا ثم قال رحم الله علي بن الجهم.

يصوّر القاعد الحدث بعينيه، لا يفهم علة الترحم على ابن الجهم، لكنه يكتفي بدور الصامت المندهش، يصعق حين ترد المليحة “رحم الله أبا العلاء المعري”، تهزه هذه الموجة غير المبررة من الترحم، ما القصة؟!

يقرر الصامت المندهش أن يفهم، يقفز من مكانه، يتشبث بعنق الشاب، يستحلفه ويستعطفه، ثم يهدده إن لم يكشف له ما انبهم من أمرهما، وبعد وقت يسير علم ما خفي عليه مما كان، فالشاب حين رأى الحسناء ذكر ابن الجهم قاصدا قوله “عيون المها بين الرصافة والجسر    جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري”، وكان أن أدركت المرأة قصده فأجابته من فورها مترحمة على المعري، قاصدة قوله “فيا دارها بالكرخ إن مزارها    قريب ولكن دون ذلك أهوال”.

من أين لها وله بهذه الألمعية؟ ومن أين لي بهذه البلادة والبلاهة؟ يحدّث الصامت نفسه، أعجب بما كان منهما، وقرر أن يجوّد من أدواته ويحسّن من ملكاته ليحصّل شيئا من تلك المهارة، أدرك مع توالي القرون أن الاستلزام الحواري قد يسعفه لتحصيل ذلك، أدرك حيلة بعض المتحدثين البارعين في الرد على سؤال ما بما لا يوافق شكل السؤال، أو ما يُظن كذلك، وإليك طرفا مما جمعه صاحبنا.

أدرك المندهش أن البلاغيين العرب يسمون ما دار بين الشاب والفتاة “التلميح”، ومنهم من يطلق عليه “التمليح” بتقديم الميم على اللام، والمعنى واحد، وبعد قراءة موسعة بلغه ما توصل إليه الفيلسوف الإنجليزي هربرت بول غرايس بخصوص المسألة ذاتها.

الاستلزام الحواري عند بول غرايس

تفكّر بول غرايس (1913-1988) في كلام الناس، فأحيانا يتكلمون في وادٍ ويقصدون بحديثهم واديا غيره، الكلام له معان واضحة صريحة تتعلق بمحمول الملفوظ وأخرى ضمنية مضمرة تتعلق بما وراء الخطاب أو اللفظ، وليستقيم المعنى يجب أن يصل المخاطَب إلى مقصدية المتكلم، وهذا يستوجب توافر مساحة مشتركة من المعارف والثقافة.

سك بول غرايس مصطلح الاستلزام الحواري (Conversational Implicature)، وهذا أشهر الترجمات المعروفة للمصطلح، لكن ترجمات أخرى توردها الكتب ذات الصلة مثل الاستلزام المحادثي، الاستلزام التحادثي، الاستلزام التخاطبي، الاستلزام الخطابي، الإضمار في المحادثة، التضمين الحواري، الاقتضاء، التلويح الحواري أو التعريض.

ماذا يقصد بالاستلزام؟ في أبسط تعريفات الاستلزام الحواري أنه المعنى التابع للدلالة الأصلية للعبارة، أو ما يرمي إليه المتكلم بشكل غير مباشر جاعلا مستمعه يتجاوز المعنى الظاهري لكلامه إلى معنى آخر.

وبكلمات موجزة تحمل الألفاظ معاني صريحة وأخرى ضمنية مضمرة قد يقصد المتحدث تلك المضمرة وإن لم يذكر ذلك، وعلى المتلقي أن يسعى إلى ردم الهوة بين ما يسمعه من صريح اللفظ وما يقتضيه المعنى متوسلا في ذلك بمقام التلفظ/ السياق، المسافة بين ظاهر اللفظ ومقصدية المتكلم تستلزم إعمال الفكر والربط بين ما وراء اللفظ، وهذا استلزام أو اقتضاء، ومنه جاء الاستلزام الحواري.

فرّق غرايس بين دلالتين للكلام من خلال الفعل، إذ يحمل هذا الفعل في الإنجليزية معنيين: دل وقصد، فقسّم غرايس الدلالة إلى نوعين، الدلالة الطبيعية وترتبط بالأعراض والنتائج، أي تتعلق بالظواهر التي ترتبط بعلامات تدل عليها، فهي علاقة سبب ونتيجة، فمثلا رؤية الدخان تدل على وجود النار، البقع في الجسم تدل على الحصبة، البعرة تدل على البعير، السير يدل على المسير.

قد تخرج الدلالة الطبيعية للكلام عن كونها طبيعية إذا أصبحت إرادية، أي إن كانت بقصد، فالأنين -وإن دل على الألم في دلالته الطبيعية- يخرج عن ذلك إن أصدر بشكل إرادي.

أما الدلالة غير الطبيعية فيضرب غرايس لذلك أمثلة، منها: إني أمشي مع سلحفاة، والمقصود أنه يمشي مع شخص بطيء جدا، فهو يطالبه بالإسراع، وكذلك قوله “كأنك تكتب بقدميك”، في إشارة إلى رداءة الخط، هذا المقصود ليس صريحا في النص، إنما يرتبط بمقصد المتكلم الذي يقول شيئا ويقصد غيره.

ترتبط الدلالة غير الطبيعية بمقصد المتكلم وما ينويه من كلامه، ويندرج تحتها قول عنترة الفوارس للنعمان بن المنذر “إن الأفاعي وإن لانت ملامسها    عند التقلب في أنيابها العطب”، فالكلام خارج عن معناه الظاهر (صفات الأفعى) إلى معنى متضمن يتمثل في عدم الاغترار بالمظاهر الخادعة، والمراد التنبيه والتحذير.

كذلك نجد قول الصدّيق -رضوان الله عليه- حين سئل عن النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- في رحلة الهجرة “هذا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ”، وقول عبد الرحمن الأبنودي “أهو قلبي ده اللي غِرِق واللي سارقه النيل، ولا عارف أجيبه بإيدي ولا بحبل طويل”، إذ يُفهم المعنى الضمني/ المستلزَم من السياق.

تغير السياق يؤدي إلى تغير الدلالة المقصودة من الحوار، بما أننا في مضمار الترحم على ابن الجهم، فيمكن لاثنين أن يتحدثا عن التطبيل للأنظمة الحاكمة وأثر ذلك التطبيل، وكيف أنه غير مأمون العاقبة، ثم يتنهد أحدهما مترحما على ابن الجهم، هنا تغير السياق مما يستلزم تغير الدلالة، ولسائل أن يسأل: ما علاقة علي بن الجهم بالتطبيل؟

ارتضى علي بن الجهم لنفسه التطبيل للمتوكل، كان مولعا بالخليفة العباسي العاشر حتى النخاع، فلما أن نكب المتوكل وزير أخيه الواثق الوزير ابن الزيات طرب لذلك ابن الجهم وقال شعرا يمدح صنيع الخليفة، وأعاد الكرّة حين نُكب عمر بن فرج الرخجي، وكان من كبار الكتّاب ومشاهيرهم، فأوغر ابن الجهم صدور أقوام عليه، فضلا عن وقوعه في الشيعة والمعتزلة والنصارى وأهل الذمة، فزادت دائرة خصومه على توالي الأيام، وسعوا به عند المتوكل نفسه.

وتأسيسا على مبدأ “الزّن على الودان (الآذان) أقوى من السحر” أرجف خصوم ابن الجهم وكادوا له عند المتوكل، فسمع لهم وأمر بحبسه عام 237 هـ، ثم أُخرج بعد عام، فكاد له حساده مرة أخرى، فأمر المتوكل بمصادرة أمواله ونفيه إلى خراسان، وهناك وقعت له أمور.

إذن، نُكب ابن الجهم بعدما كان يعدّ نفسه شاعر المتوكل، والدنيا دوارة ولا أمان لها، إذن الترحم على ابن الجهم في هذا السياق يختلف عنه فيما سقناه بداية هذا المقال، فإن ورد الترحم عليه في سياق الحديث عن نكبة البرامكة فالأمر يتجدد ويتغير ويدور بدوران السياق.

بعد إجالة الفكر في هذا الإشكال توصل بول غرايس إلى مبدأ أطلق عليه “مبدأ التعاون”، مفاده أن المتكلمين يتعاونون ضمنيا لفهم المقصود، وأن حديثهم قد يراعي 4 قواعد، وهي قاعدة الكم، قاعدة الكيف، قاعدة العلاقة، قاعدة الجهة، فيكون الكلام طبيعيا لا لبس فيه، أي أن المعنى الناتج عنه يكون معنى صريحا، أو أن يخرق المتحدث إحدى هذه القواعد أو أكثر من واحدة منها، عندها يجتهد المتلقي -اعتمادا على السياق- في الوصول إلى المعنى المستلزَم أو المعنى الضمني.

وتأسيسا على ما تقدم نشر غرايس بحثا عنوانه “المنطق والمحادثة” عام 1975، حاول من خلاله الإجابة عن سؤال: كيف يمكن للكلام أن يتجاوز -في الدلالة- مدلوله الحرفي المعجمي؟

وأدى ذلك إلى طرح نظرية جديدة مبنية على افتراض التعاون بين المتكلم والمخاطب في إيصال المعنى، وفي تأويل الرسالة بغية الوصول إلى معنى المعنى.

أطلق غرايس على نظريته اسم “الاستلزام الحواري”، ويقصد بهذا الاستلزام “الأقوال التي تبلّغ أكثر مما يدل عليه مجموع الكلمات التي تكوّن الجملة”، أي أنه المعنى التلميحي أو الضمني غير المصرح به، ومرتبط في الآن ذاته بمقاصد المتكلمين.

مبدأ التعاون وقواعد المحادثة

يجب أن يتعاون المتحاورون لإنجاح الحديث، هذا التعاون يتفق عليه ضمنيا، إذ إن غيابه يعني غياب التواصل وفشل الحوار، ثم يشرح غرايس مبدأ التعاون بقوله “اجعل مساهمتك موافقة لما يقتضيه الغرض من الحوار الذي تشارك فيه، في المرحلة التي تتدخل فيها”.

يتميز مبدأ التعاون بالمباشرة والتصريح، ويبدو هذا الكلام فضفاضا يحتاج إلى محددات يعرضها غرايس في شكل 4 قواعد تتفرع عن مبدأ التعاون، وهي قاعدة الكم، قاعدة الكيف/ النوعية، قاعدة العلاقة/ المناسبة/ الملاءمة، قاعدة الجهة/ الطريقة، وتعدّ هذه القواعد الحوارية ضابطة لكل تبادل لغوي يراعي مبدأ التعاون.

  • قاعدة الكم/ القدْر 

تقول هذه القاعدة “يجب أن تكون مساهمتك في الحوار بالقدر المطلوب دون زيادة أو نقصان”، تحقيق قاعدة الكم يجعل الحوار طبيعيا، وخرقها يكون إما بالزيادة أو بالنقصان من القدر المناسب للجواب.

مثال: يسافر رجل من أهل خراسان إلى الأندلس، في مجلس أبي بكر بن زُهر الفقيه تلتقي كوكبة من وجوه المدينة، يبصر بعضهم صاحب المجلس يحتفي بهذا المشرقي، يتملكه الفضول لمعرفة رأي الغريب في أهل الأندلس، يسأل: يا شيخ، ما تقول في علماء الأندلس وسادتهم وكبرائهم؟

يجيب الخراساني: كبّرت.

ينظر إليه السائل نظرة باردة كأنما يقول في دواخله “يا ريتني ما سألت”، إذ لم يشف الخراساني الغليل، لم يذكر شيئا مما ينتظره السائل، لم يعدد أفضالهم أو يذكرهم بما هم أهله من مكانة وحظوة، يعض على شفته حنقا وقهرا، هنا يتدخل صاحب المجلس، يقول للسائل: أقرأت ديوان أبي الطيب؟ فيجيب من فوره: وأحفظه عن ظهر قلب، ليرد ابن زهر: فأين أنت من قوله:

كَبَّرْتُ حَوْلَ دِيَارِهِمْ لمَّا بَدَتْ      مِنْهَا الشُّمُوسُ وَلَيْسَ فِيهَا المَشْرِقُ

هنا، وهنا فقط، أدرك الأندلسي أن الخراساني مدحه وأهل محلته مدحا لا مزيد عليه.

هذا الجواب يمثل خرقا لقاعدة الكم، وبالتالي فإنه احتوى معنى ضمنيا غاب عن الرجل، احتاج إلى تدخل من يفهم السياق، فلما أنير له سراج السياق تفطّن إلى روعة الجواب وعلو كعب المجيب، وإلا لظل في نفس السائل شيء على الخراساني، ولربما رماه بالخبل وسوء الفهم وجفوة التعبير، ورحم الله أبا الطيب “وكم من عائب قولا صحيحا          وآفته من الفهم السقيم”.

لهذا، نجد أن غرايس يتحدث عن مفهومين مرتبطين بالاستلزام الحواري، أولهما الحالة الذهنية، وثانيهما وقدرة المتلقي على تأويل الأقوال، فالحالة الذهنية تشير إلى مقاصد المتكلمين/ المتحاورين أثناء عملية التواصل، وقدرة المتلقي على التأويل هي عملية الاستدلال من أجل الوصول إلى مقاصد المتكلمين.

نجاح الاستدلال يؤدي إلى نجاح التواصل، وفشل الاستدلال يفضي إلى فشل التواصل، وفي المثال الذي نحن بصدده كاد التواصل يفشل لولا تدخل ابن زهر وتذكير السائل ببيت المتنبي “كبّرت حول ديارهم.. إلخ”.

الوصول إلى المعنى المستلزم بطريق الاستدلال ليس جديدا، فتحت عنوان “بيان في شأن الكناية والاستعارة والتمثيل” يقول الإمام عبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ) في الجزء الأول من “دلائل الإعجاز” إن “الكلام على ضربين، ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض، ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل، ألا ترى أنك إذا قلت “هو كثير رماد القدر”، أو قلت “طويل النجاد”، أو قلت في المرأة “نؤوم الضحى” فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ، ولكن اللفظ يدل على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى -على سبيل الاستدلال- معنى ثانيا هو غرضك.. إلخ”.

يختلف الاستدلال لدى غرايس عن الاستدلال البرهاني، فهو يرى أن استنتاج الاستلزام الحواري عبر “صياغة الفرضيات ومحاولة إثباتها”، ويعتمد نجاح التواصل على صحة هذا الاستدلال، في حين يرتكز الاستدلال البرهاني على مقدمات منطقية ليصل إلى نتيجة أو نتائج جديدة.

هنا وردت إشكالية متعلقة بالترجمة، فمن ترجموا الاستلزام بمعنى الاقتضاء فرّقوا بينهما لاحقا بوضع خطوط فاصلة، فقالوا إن الاقتضاء مفهوم منطقي، في حين الاستلزام مفهوم لساني تداولي.

في قاعدة الكم يكون خرقها بالنقصان مثلما تابعنا في المثال السابق، أو بالزيادة على ما يقتضيه الحوار أو السؤال، خذ مثلا جواب الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ففي سورة طه كان سؤال رب العزة واضحا موجزا لا لبس فيه ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ﴾ (17)، فكان جوابه ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ﴾ (18)، هذا الخروج خرق قاعدة الكم وأوجد معنى ضمنيا يلخصه أهل العلم في أنه أحب الإطالة في الحديث مع ربه، وكلنا يتشوف ويتشوق لتشعيب الكلام مع من يحب، ولولا أن موسى -عليه السلام- استشعر الحرج من الإطالة لما قال ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ﴾.

توصل براون وليفنسون إلى 10 إستراتيجيات تخرق قواعد مبدأ التعاون، 3 منها تصلح لخرق قاعدة الكم، وهي إستراتيجيات “التهوين، المغالاة أو المبالغة، تحصيل الحاصل”.

قد يخرق المتحدث قاعدة الكم بالاستفهام البلاغي أو التعجب مثلما يخرقها بالخطاب الخبري كذلك، ففي موطأ الإمام مالك “دخل رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب، فقال عمر: أي ساعة هذه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، انقلبت من السوق فسمعت النداء، فما زدت على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضا؟ وقد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بالغسل”.

  • قاعدة الكيف/ النوعية

تقول هذه القاعدة “لا تقل ما تعتقده خطأ، ولا تقل ما ليس لك عليه دليل”، يراد بها منع ادعاء الكذب أو إثبات الباطل، وهذه قاعدة غير معمول بها في عالم الفبركة والذباب الإلكتروني والتزييف العميق.

توصل براون وليفنسون إلى 10 إستراتيجيات تخرق قواعد مبدأ التعاون، 4 منها تصلح لخرق قاعدة الكيف، وهي إستراتيجيات التناقضات، التهكم، الاستعارة، الأسئلة البلاغية.

  • قاعدة العلاقة/ المناسبة/ الملاءمة

تقول هذه القاعدة “ليكن كلامك مناسبا لموضوعك”، وتتقاطع هذه القاعدة مع أسلوب معروف في العربية بـ”أسلوب الحكيم” بالتركيب الإضافي وفق تسمية أبي البقاء الكفوي في “الكليات”، أو “الأسلوب الحكيم” بالتركيب الوصفي حسب أبي يعقوب السكاكي في “مفتاح العلوم”، من قبلهما أطلق عليه الجاحظ تسمية “اللغز في الجواب”.

هذا الأسلوب ضرب من ضروب البلاغة العربية يدرّس ضمن مباحث “خروج الكلام على مقتضى الظاهر”، وفيه لفت عناية السائل إلى أن المتكلم سيخبره بما هو أهم مما يقتضيه سؤاله.

وأشهر الأمثلة على ذلك الأسلوب قوله جل من قائل في سورة البقرة ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (189)، ولعلنا نطيل النفس في التعرض له لاحقا.

توصل براون وليفنسون إلى 10 إستراتيجيات تخرق قواعد مبدأ التعاون، 3 منها تصلح لخرق قاعدة العلاقة، وهي إستراتيجيات التلميحات، ذكر معلومات تمهيدية، إفادة الاقتضاء.

  • قاعدة الطريقة/ الكيفية/ الجهة

تقول هذه القاعدة “كن واضحا”، ويراد بها الشفافية وتجنب الغموض مع تنظيم الكلام وترتيبه، إذا سألت ابنك: أين كتاب الرياضيات؟ فأجابك: في الحقيبة، فهذه إجابة نموذجية تحقق هذه القاعدة، إذ يبدو متعاونا في الحوار، أجاب إجابة واضحة (الكيفية)، وكان صادقا (الكيف)، استعمل القدر المطلوب من الكلمات دون زيادة أو نقصان (الكم)، إجابته ذات صلة بالسؤال (المناسبة)، وبالتالي لم يتولد عن ذلك استلزام حواري.

في حديث الموطأ الذي أوردناه آنفا خرق الرجل قاعدتين، قاعدة الكم بالتفصيل في الرد على سؤال الفاروق: أي ساعة هذه؟ ثم خرق قاعدة الطريقة في قوله “فما زدت على أن توضأت”، وسبقت الإشارة إلى أن المتحدث قد يخرق أكثر من قاعدة في قول واحد.

قد يدور في ذهنك الآن سؤال: يتحدث أناس من باب التملص أو التخلص من المتحدث، لا يراعون مبدأ التعاون، ترى المتحدث باسم الحوثيين مثلا في لقاء تلفزيوني شهير يجيب عن سؤال طويل عريض بكلمتي “لا تعليق”، والأمثلة تستعصي على الحصر، فهل سلوكهم يقدح في نظرية غرايس؟ والجواب: ثم من يظن أن نظرية الاستلزام الحواري تأسست على نزعة إنسانية خيرية مفترضة.

لكن غرايس يفند ذلك بقوله “يمكننا ألا نختار التعاون، وأن نمتنع عن الإدلاء بأي معلومة، كقولنا: لا أستطيع التعليق، لقد وعدت بعدم الكلام.. إلخ”، نفهم من ذلك أنه ليست كل التبادلات الحوارية تعاونية، الاستجواب مثلا إنما ما ينطبق عليها مبدأ التعاون موضع بحث نظرية الاستلزام الحواري، ويحيلنا ذلك إلى شروط الاستلزام، فما هي؟

شروط الاستلزام الحواري

يجب أن يلم طرفا الحوار بالمعاني الحرفية للكلمات المستخدمة في حديثهما ودلالاتها الظاهرة، إذ إن الوصول إلى المعاني الباطنة في التخاطب لا يمكن إلا بواسطة المعاني الظاهرة ابتداء، فالانتقال إلى المجهول يكون من خلال المعلوم أولا، فضلا عن معرفتهما بالعبارات الإحالية، فالجهل بذلك يؤدي إلى الاضطراب ولبس المعاني.

ولأننا نتحدث عن وجوب معرفة مقام التلفظ/ السياق فإن توافر قدر مناسب من المعارف والمعطيات المشتركة أمر مهم لنجاح الاستلزام الحواري، فأنت تذكر أن الأندلسي لم تتوفر له هذه المعطيات، فشك -ولو في دخيلة نفسه- بعقل الخراساني، ولولا تدخل من يملك الخلفية المعرفية ويدرك هذه المعارف والمعلومات المشتركة لظل الشك على حاله في نفس الأندلسي.

السياقان اللغوي وغير اللغوي للخطاب، فإن للملفوظات دلالات ومعاني تتعدد بتعدد السياقات التي ترد فيها، لعلك تذكر أن اختلاف سياق الترحم على ابن الجهم يضفي دلالات جديدة على الألفاظ، بل إن جون لاينز يرى أن السياق يوضح معنى الكلمات في التواصل ويبين نوعها، فيتعدى القول إلى مقاصد ضمنية مضمرة في الخطاب.

يصعب التقيد بمبدأ التعاون والقواعد المتفرعة عنه، لكن الخطابات الذكية تعمد إلى الإفادة منه، وكذلك المتحاورون الذين يسعون إلى التأثير على نطاقات واسعة، فكل قراءة أو إعادة تفكير في حواراتهم تنتج معنى جديدا، وليس ذلك وليد الصدفة، إنما يتأتى من الاهتمام بالتأويل الدلالي لبنية اللغة الطبيعية.

خصائص الاستلزام الحواري

تتمثل خصائص الاستلزام الحواري في الإلغاء، الارتباط وعدم الانفصال عن المحتويات الدلالية، تغير الاستلزامات بتغير المناسبات/ السياقات، التقدير والتأويل وصولا إلى المعنى المستلزم.

قد يُلغى الاستلزام إذا أتبع بكلمة أو جملة تناقض المصرح به، فإن قال موظف لمديره “لم أقرأ التقرير” فقد يفهم من ذلك أنه قرأ جزءا منه، أما لو قال “لم أقرأ التقرير أصلا” فهذا يلغي ما فهمه المدير سلفا، والأمر ذاته إن قال قارئ لكاتب “لم أقرأ كتبك” فلعله قرأ أحدها، فإن قال القارئ “لم أقرأ كتبك مطلقا أو لم أسمع بأي من مؤلفاتك” فقد أبطل الاستلزام بالمرة.

أما الارتباط وعدم الانفصال عن المحتويات الدلالية فالمراد أن الاستلزام مرتبط بالمحتوى الدلالي لما يقال، ولاهتمام الاستلزام الحواري بمعاني العبارات لا بشكلها فهذا يجعله غير مفصول عن المحتويات الدلالية.

تغير الاستلزام بتغير السياق مسألة تطرقنا إليها في أول أمثلة هذا المقال، وأشرنا إلى أن الاستلزام يختلف وفق السياق ويدور معه.

قد تتلبس العبارة بمعانٍ عدة وفق السياق أو المناسبة، فربما تأتي في سياق الإعلام أو الإخبار، أو تهربا من مسؤولية مترتبة على قراءة التقرير، أو غير ذلك مما يحدده المقام.

بعد الحديث عن الاستلزام الحواري ومبدأ التعاون والقواعد الحوارية نعود إلى نوعين من الاستلزام حددهما غرايس وميّز بينهما، الاستلزام العرفي والاستلزام الحواري، ونشير هنا إلى ذكر أكثر من تسمية لكل منهما، ليس من باب الاستعراض، إنما نظرا لوجودها في عدد من المصنفات المترجمة.

  • الاستلزام العرفي/ المعجمي/ التواضعي

الاستلزام العرفي قائم على ما تعارف عليه أصحاب اللغة من استلزام بعض الألفاظ دلالات معينة لا تنفك عنها مهما اختلفت السياقات وتغيرت التراكيب.

هذا الاستلزام النموذجي -حسب تعبير ليفنسون- فيه يراعي المتحاور قواعد مبدأ التعاون ولا يخرقها، ولا يكون للسياق دور في التوصل إلى المعنى المقصود، يعتمد الأمر على المعنى المعجمي للكلمات الواردة في الحديث، على سبيل الذكر إيراد “لكن” في الجملة يستلزم أن يكون ما بعدها مخالفا لما يتوقعه المخاطب “المسلمون كثيرون لكنهم غثاء”.

  • الاستلزام الحواري/ التخاطبي/ غير العرفي

نشير إلى أننا أوردنا تسميات عدة أخرى خاصة بهذا الاستلزام الذي هو مدار حديثنا، وشقّقنا فيه القول وشعبناه، وهذا النوع ينقسم بدوره إلى استلزام حواري معمم واستلزام حواري خاص.

أما المعمم فهو كقولك “عدت اليوم مريضا” فالمخاطب يفهم من كلمة “مريضا” أنك تقصد شخصا لا يعرفه، وإلا لعيّنته له بالاسم أو الصفة، لا يحتاج في ذلك إلى مراعاة مقام أو سياق أو قواعد حوارية، أما الاستلزام الذي “ندوزن” على وتره في هذا المقال فهو الاستلزام الحواري الخاص، أي ذلك الذي يستوجب الانتباه إلى السياق ومبدأ التعاون والقواعد الحوارية.

شاركها.
Exit mobile version