براغ- يعد الروائي التشيكي-الألماني فرانز كافكا (1883-1924) مصدر إلهام للأدباء والفنانين والمبدعين عبر العالم، ولا يزال إرثه الإبداعي من الرواية والقصة القصيرة مؤثرا في الواقع المعاصر بإسهامه في صياغة فنون الواقعية العجائبية المختلفة والأدب الحديث عموما.

ويظهر ذلك جليا في كثير من الفلسفات المعاصرة التي تتعامل مع القضايا التي تناولها بطرق عبثية توحي بالتأثر بكتاباته، حيث نقل آلام الإنسان وضيقه عبر فلسفة أدبية مرهفة ولغة شفافة، من خلال شخصيات غريبة الأطوار تعيش مخاوف الاغتراب والقلق والشعور بالذنب.

كافكا المتجدد

الباحث في معهد الدراسات الجرمانية بجامعة كارل الشهيرة في براغ البروفيسور شتيبان زبيتوفسكي يرى أن من الهراء اعتبار فلسفة كافكا مرتبطة فقط بالاكتئاب والسوداوية والعجز، بل إن الكثير من الأسئلة المتعلقة بالهوية والذنب والإيمان لم تكن مشكلة خاصة بزمانه فحسب، بل هي حتى يومنا هذا لا تزال مثار نقاش مستمر.

ويفسر ذلك قائلا إن ذلك يعني أن كافكا -المولود في زمن الإمبراطورية النمساوية المجرية لعائلة ألمانية من أصل يهودي- حاول في تلك المرحلة استكشاف هذه القضايا بأمانة وقيمة كبيرة، جعلت الأدب الحديث مفهوما بشكل متجدد، عبر الاستكشاف الأدبي المغامر لأسئلة الحياة الإنسانية المعاصرة.

ويضيف زبيتوفسكي -في حديث للجزيرة نت- أنه يمكننا أن نتتبع أثر إلهام كافكا عند العديد من الكتاب، مثل التشيكي ياروسلاف روديش الذي ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات، خاصة في سلسلة رواياته “الويس نيبيل” التي تتبع فيها زخارف كافكا، وكذلك الأديبة الألمانية أنجيلا أوفيرث، والروائي الياباني هاروكي موراكامي، والحائزة على جائزة نوبل للآداب الألمانية هيرتا مولر، والأميركي جيمس باتريك كيلي، وحتى المدون المغربي محمد سعيد احجيوج الساحلي، والمؤلف النمساوي فرانزوبيل الذي كتب عن الكوميديا لدى كافكا.

وكان الروائي التشيكي في فرنسا ميلان كونديرا قال عن كافكا إنه يتجاوز حدود المعقول في كتاباته باستمرار، ويفاجئنا بالتغيرات النفسية في محاولة لتحطيم الخوف الداخلي، بشكل مضحك أحيانا ومواقف مثيرة، ويشعر معه القارئ بالضيق ثم البهجة، مثلما جاء في رواية “المحكمة” لكافكا، حيث يجد المواطن “ك” نفسه بلباس النوم أمام شخصين في شقته، وبدل أن يطردهما يشرح موقفه ويدافع عنه مطولا.

وعندما قرأ كافكا هذا النص على أصدقائه، ضحك وأضحك معه الجميع، وأراد “كونديرا” من إيراد القصة السخرية لنسيان المآسي والتحرر منها، والاتجاه إلى ما هو أهم، سواء كان حياة أو فنا أو موقفا أخلاقيا أو صمتا مطبقا، حسب الباحث التشيكي.

وينهي زبيتوفسكي حديثه بالقول إن الأدب الحديث تعامل مع إرث كافكا بفهم عميق، ووظفه بشكل رائع إبداعيا لإسعاد القراء والتأثير فيهم عبر أشكال متعددة، سواء بالتشويق الأدبي المميز أو الفن الجاد الملهم، أو حتى بالألحان الموسيقية الفريدة من نوعها التي تحظى بشعبية كبيرة.

اثار تعود لعام1200 ميلادية استحدث بشكل قبو تحت الارض لمحاكاة ادب كافكا بالقرب من مكان ولادته وسط المدينة القديمة في براغ

محاكاة أدب كافكا

وعلى دروب كافكا التي مشى عليها في مسقط رأسه وسط المدينة القديمة في العاصمة براغ، وعلى بعد أمتار قليلة بالقرب من ساعة أورلوي الشهيرة، استحدث تحت الأرض قبو سفلي يعود بناؤه إلى عام 1200م، يحاكي فلسفة أدب كافكا وإسقاطها على عالمنا الذي نعيشه اليوم بمرارته وظلمه وفرحه.

ولتوضيح أفكار كافكا للزائرين وارتباطها بعالمنا اليوم، تمت إضافة 54 شاشة تلفاز تنقل أحداث جرت وتجري اليوم، مثل وباء كورونا الذي فقد الإنسان معه حريته، والحرب في أوكرانيا التي تمزق الإنسان داخليا، وأماكن أخرى تقام فيها حفلات فنية صاخبة لنسيان الأوجاع الداخلية.

ويشعر الزائر من خلال تلك العروض بحقيقة ما دوّنه كافكا في رواياته، مثل المسخ والمحكمة والقلعة.

ننزل سلما دائريا بالكاد ترى مساره، يشبه عتمة كتابات كافكا، ونصل إلى الموظفة التي تطلب تذكرة الدخول، وعندما نخبرها أنها زيارة تقوم بها الجزيرة نت “للعالم الكافكاوي”، ترحب بابتسامة غيّرت ملامحها المقتضبة، فاسحةً المجال لاستكشاف ركن كان يلجأ إليه روائي فيلسوف أصبح رائد الكتابة السوداوية، واشتهر بسلاسة ترابط الجمل والوصف الدقيق الذي يبقى طويلا في مخيلة القارئ.

عند مدخل القبو في الجزء الأول، يتم التعريف بكافكا الذي كتب أدبه باللغة الألمانية، وعرف بأدب الأقلية، وتشير الكتابات إلى الظواهر الثقافية المؤثرة في حقبته، في نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين، وهي حقبة انبثقت من أنقاض الإمبراطورية النمساوية-المجرية.

وداخل المكان، تظهر شاشات العرض واللوحات كتابا وفنانين وموسيقيين من الطراز الرفيع، استطاعوا بناء نهضة ثقافية لها تأثير كبير على عالمنا اليوم، في حين يظهر هذا البهو العميق في الشكل والمضمون محاكاة أدب كافكا وتأثيره على الفن والأدب الحديث.

وتعرض الشاشات أعمالا للمشاهير في الموسيقى والأوبرا والمسرح والأدب الحديث، وتبين تلك الأعمال كيف خلق أثر كافكا أسلوبا تعليميا أدبيا وفلسفيا جديدا، وتحاول العروض التي تعرضها الشاشات القيام بمغامرة التحليل العميق لأدب كافكا، للخروج بأدب وفن جديدين يتماشيان مع الحياة المعاصرة، الأمر الذي يجعل الزائر لهذا القبو يشعر ببعض السعادة التي تزيح عن قلبه سوداوية الأحداث وعتمة المكان.

كافكا في الأرشيف

في زيارة للمكتبة الوطنية في العاصمة براغ، قدمت مسؤولة الأرشيف للجزيرة نت كتبا بـ3 أجزاء للمؤرخ الأديب الألماني راينر ستاخ، مترجمة إلى التشيكية، يتناول فيها حياة كافكا المثيرة، وكتاباته الأدبية التي تميزت بالشدة والغموض والاهتمام بموضوعات الوحدة والعزلة والإنسانية والحكم الظالم، وبعض جوانب الفرح في حياته.

ويوثق ستاخ فيها أحداثا مرفقة بالصور، تعد مرجعا للطلاب الباحثين عن حياة كافكا شديد الحساسية والتأني، وتظهر مراحل حياته منذ ولادته في براغ إلى وفاته، وتبين بعض أسراره الغامضة، مثل عرض وصيته التي أمر فيها بتدمير كل أعماله خوفا من نشرها، وغطرسة والده التاجر اليهودي هيرمان الذي لم يرحمه وكان من الأغنياء وفي الوقت نفسه كان بخيلا على عائلته، وأسلوب حياة كافكا المبتهج المغاير لسوداوية كتبه.

وتبرز في الصور أيضا طريقة تفضيل كافكا التنقل بين الريف والمدينة وحبه الحياة، في حين يبدو فيها مبتسما وأنيقا على عكس كتاباته المتشائمة، بالإضافة إلى إظهار تلك الصور بعض كتاباته بخط اليد، وحبه الكبير لشقيقته، وصداقته مع ألبرت أينشتاين وماكس برود (كاتب ومؤلف تشيكي)، وتسليط الضوء على عشيقاته، ومنهن دور دايموند، التي التقاها عام 1923، وعاشت معه أصعب أيام إصابته بمرض السل الذي أفقده شهية الأكل، حتى وفاته في مصحة كيرلينغ بالقرب من فيينا عام 1924.

ويظهر المؤرخ ستاخ في كتبه الثلاثة أسلوب كافكا في الكتابة، إذ نجح في خلق عوالم بديلة تتجاوز الحدود الزمنية والمكانية، وعبر عن تجارب شخصية شديدة التعقيد والتأثير، تركت أثرا في العقل والنفس، واستفاد منها الكتاب والمشاهير اليوم بأساليب متعددة، أسعدت الناس أحيانا وأدخلت البهجة إلى قلوبهم، بدل حصر تفكيرهم فقط في الحزن والهم والأفكار السوداوية، التي ارتبطت بأدب أحد أعظم الكتاب في القرن العشرين.

تأثير وجداني موسيقي

تتشابك أحيانا المدرسة الأدبية التي أطلق عليها المدرسة الوجودية -حسب الكاتب زيد الشريف المقيم في براغ- مع مدرسة العبثية، التي أصبحت مثالا يقتدى به ضمن أدب القرن العشرين، وتدور قصصها بين الهزل واللامنطق.

وهذا الأسلوب تطور في ما بعد وسمي مسرح العبث، الذي كان من رواده المؤلف الأيرلندي صموئيل بيكيت (1906-1989) الذي تأثر بكافكا كثيرا، لا سيما رواية التحول (بطل القصة تحوَّل وهو في سريره إلى حشرة عملاقة) التي أضحت مرجعا لعدد كبير من الأدباء والمفكرين في أوروبا كلها.

ويرى الشريف -الذي ألف 3 أجزاء من كتب موسوعة أعلام الموسيقى- أن كافكا لم يكن مهتما بالفن والموسيقا أو الفن التشكيلي، ولكن إرثه الأدبي أثر بشكل كبير على الموسيقيين العالمين تأثيرا وجدانيا يتماشى مع العصر الذي جاء بمدرسة “فيينا الثانية للموسيقا”، وبأساتذتها الكبار أرنولد شونبرغ (1874ـ1951)، وأنطون فيبرن (1883ـ1945)، وألبان بيرج (1885ـ1935)، أو بمدارس الفن التشكيلي المختلفة لبابلو بيكاسو (1883ـ1971)، وسلفادور دالي (1904ـ1989) وغيرهم، وجميعهم يمثلون مدارس تحاكي مدرسة كافكا التي تجاوزت التقليدية وانتقلت إلى الفن الحديث الطليعي.

وأُطلق على هذا الفن في عالم الموسيقا المدرسة اللالحنية (أو اللامقامية، حيث لا تستطيع الأذن تمييز مركز المقام الموسيقي)، وحمل في الفن التشكيلي تسميات كثيرة مثل السريالية والدادية (محاربة الفن بالفن) والتكعيبية (الأشكال الهندسية أساسا لبناء العمل الفني)، وعبرت تلك التسميات عن أدب كافكا (أو الكافكاوية) فنيا.

ويضيف الشريف -في حديث للجزيرة نت- أنه يلاحظ اليوم أيضا تأثر فرق البوب العالمية وأبرز مغنيها المشاهير بأدب كافكا.

شاركها.
Exit mobile version