الأرض غير الأرض والسموات، حلة جديدة تكتسي الكون، وفم الزمان تبسمٌ وثناء، ومسامعه ترتقب النبأ العظيم، والميلاد الأعلى للكون، تنزاح الغشاوة شيئا فشيئا، فإذا الجمال والجلال كأحسن ما يرى الرائي، وأبهر ما تفتر عنه القيم والأيام. لقد ولد النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
ولد الهدى فالكائنات ضياء
وبدأت الأغلال في انهيار متواصل، وبدا كل معبود غير الله تعالى ينكفئ على نفسه، وأصغت الأرض إلى السماء حينما دوى في الخافقين رفيف أجنحة الملائكة، ورنا الملأ الأعلى إلى بيت بنت وهب، حيث تشرق الدنيا بميلاد النبي الكريم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، ابن سيد البطحاء، وأيضا سيد الوجود، وإمام كل موجود.
كان ميلاد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم استثناء في حوادث الأيام، فقد كان ميلاد الرحمة المهداة، حملته أمه أمنا وسلاما، فلم تجد ما تجد الحوامل من ثقل الحبل، بل حدثت عن نفسها كما روت كتب السيرة “قال ابن إسحاق: إن آمنة ابنة وهب أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت تحدث أنها أتيت في منامها لما حملت به -صلى الله عليه وسلم- فقيل لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع بالأرض قولي أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام.
فلما وضعته أرسلت إلى جده عبد المطلب: إنه قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه، فنظر إليه وحدثته بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه وما أُمرت أن تسميه.
وقال عثمان بن أبي العاص: حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة ولدته، قالت: فما شيء أنظر إليه في البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن علي، فلما وضعت خرج منها نور أضاء له البيت والدار، حتى جعلت لا أرى إلا نورا”.
يوم الاثنين البهيج من ربيع الأغر
ومع أن الرواة لم يتمكنوا من ضبط التاريخ الدقيق، فإنه يرتبط لدى معظم المسلمين بيوم الثاني عشر من ربيع الأول، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد بدقة غير يوم الاثنين فقال “ذلك يوم ولدت فيه، وأنزل علي فيه”.
ويستعرض مؤرخو السيرة النبوية عدة تواريخ متقاربة في شهر ربيع الأول، إذ ينقل ابن الأثير في كامله عن مؤرخ السيرة ابن إسحاق “قال ابن إسحاق: ولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، وكان مولده بالدار التي تعرف بدار ابن يوسف. قيل: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهبها عقيل بن أبي طالب، فلم تزل في يده حتى توفي، فباعها ولده من محمد بن يوسف أخي الحجاج، فبنى داره التي يقال لها دار ابن يوسف، وأدخل ذلك البيت في الدار، حتى أخرجته الخيزران فجعلته مسجدا يصلى فيه. وقيل: ولد لعشر خلون منه، وقيل: لليلتين خلتا منه”.
كان ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم حدثا باهرا، ارتبطت به ذكرى عام الفيل، ذلك الجيش الضخم الذي ساقه أبرهة الحبشة إلى مكة ليهدم كعبتها المشرفة، فرده الله بطير أبابيل أمطرته حجارة وموتا زؤاما، أنهى ذلك قصة الجيش الذي قاده الطغيان الأعمى إلى نهايته التي بدأت من القليس وانتهت بركام وأشلاء متناثرة، وغضب سماوي.
وبين تلك التواريخ المتعددة، اختار أغلب المسلمين يوم الثاني عشر من ربيع الأول ليكون تاريخ الاحتفاء والاحتفال بذكرى المولد الشريف.
ومن بين الشعوب المسلمة من يؤجل الاحتفال إلى يوم 17 من ربيع الأول احتفاء بيوم العقيقة الشريفة، في وقت تتعدد فيه العادات والتقاليد المرتبطة بهذا المولد الشريف، وإن جمعها الاحتفاء الدائم وإظهار شعائر المحبة، والفرح بميلاد سيد الأنبياء.
وكما حدث الاختلاف في الزمان وقع أيضا في المكان، فكثير من المسلمين يعتقدون أنه ولد في المكان الذي يوجد فيه حاليا مبنى مكتبة مكة المكرمة الواقع في الجهة الشرقية من ساحة المسجد الحرام.
ولئن كان الاختلاف قائما حول دقة المعلومات التي تؤكد أن مكتبة مكة المكرمة هي مكان مولده صلى الله عليه، فإن الثابت أنه ولد صلى الله عليه وسلم بتلك الناحية التي كانت تسمى شعب بني هاشم، كما تؤكد ذلك المصادر التاريخية.
محبة جامعة وجدل دائم
لا يختلف المسلمون على محبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبحكم المحبة يختلفون منذ مدة بشأن الاحتفال بذكرى المولد الشريف، وهل يمكن أن يسمى عيدا؟ فبدافع المحبة يحتفل أغلب المسلمين منذ قرون في أنحاء العالم بذكرى المولد، وبدافع المحبة أيضا وضرورة تجنب الابتداع يرفض آخرون الاحتفال، وخصوصا من التيارات السلفية المعاصرة، معتبرين أنه بدعة لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه.
وتذكر كتب التاريخ الإسلامي أن أول من فعل ذلك صاحب “إربل” الملك المُظَفَّر أبو سعيد كُوكبَري بن زين الدين عليّ ابن بُكْتُكِين أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد، وكان له آثار حسنة، وهو الذي عَمَّر الجامع المظفَّريّ بسفح قاسيون، كما قال السيوطي.
ويفصل ابن كثير في قصة احتفال هذا الملك بالمولد قائلا “كان يعمل المَوْلِد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالًا هائلا، وقد صَنَّف له الشيخ أبو الخطاب بن دِحية مجلدًا في الموْلد النبويّ سمَّاه “التنوير في مَولِد البشير النذير” فأجازه على ذلك بألف دينار”.
أما الحافظ بن حجر فينسب عمل المولد إلى البدعة، غير أنه يتبع الفعل القصد والنية حين يقول “أصل عمل الموْلد بدعة لم تُنْقَل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، الصحابة والتابعين وتابع التابعين، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسنَ وضدها، فمن تَحرّى في عملها المحاسن وتجنّب ضدّها كان بدعةً حسنة وإلا فلا”.
وبين الاحتفاء والبدعة الحسنة سار المسلمون قرونا من الزمن دون أن يكون للخلاف بشأن الثاني عشر من ربيع الأول تأثير كبير، قبل أن يتوسع لاحقا مع القرن الماضي في معارك فكرية وفقهية لا تنتهي.
ومن المعاصرين، يذهب رئيس مركز العلماء في موريتانيا الشيخ محمد الحسن ولد الددو إلى موقف مركب بشأن الميلاد الشريف حيث يؤسس رأيه على:
- أن الميلاد النبوي ذكرى للفرح بالنبي صلى الله عليه وسلم، والفرح به وبمولده صلى الله عليه وسلم جزء من توقيره وتعزيزه، أما اعتباره عيدا وتخصيصه بعبادة معلومة فهو بدعة.
- أن تكرار ذكرى المولد حاجة تربوية لتذكير المسلمين بالنبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن خفت في النفوس حرارة الحب والأشواق التي امتاز بها الرعيل الأول من التابعين بعد الصحابة الكرام.
- أن يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يوافق حسابيا يوم الثاني عشر من ربيع الأول سنة 10 للهجرة، وهو ما ينفي عن المحتفلين بذكرى الميلاد شبهة الاحتفال بيوم وفاة النبي المعظم صلى الله عليه وسلم.
مهرجان المديح العابر للقرون
رفد المولد النبوي الكريم ديوان الأدب العربي واللهجي في العالم الإسلامي كله بنضير الشعر وجميل الألحان، وكان للأغنية والموال المولدي تأثير خالد عابر للأزمان.
ويمكن القول إن ما كتب عن النبي الكريم بكل لغات العالم الإسلامي هي دواوين محبة وأشواق نبوية، ويمثل الإمام البوصيري عنوان المديح النبوي الأول خصوصا قصيدتيه الهمزية والبردة اللتين مثلتا الدرجة الأعلى التي نسج الشعراء من بعدُ على منوالهما.
كَـيْــفَ تَــرْقَــى رُقِــيَّــكَ الأَنْـبِـيَــاءُ… يَـا سَـمَـاءً مَـــا طَاوَلَـتْـهَـا ســمَــاءُ
حَــبَّــذَا عِــقْــدُ سُــــؤْدَدٍ وَفَــخَــارٍ… أَنْـــتَ فِـيــهِ الْيَتِـيـمَـةُ الْـعَـصْـمَـاءُ
وَمُحَيّـاً كَالشَّمْـسِ مِـنْـكَ مُـضِـيءٌ… أَسْــفَــرَتْ عَــنْــهُ لَـيْـلَــةٌ غَـــــرَّاءُ
لَيْـلَـةُ الْمَـوْلِـدِ الــذِي كَــانَ لِـلـدِّينِ… سُـــــرُورٌ بِـيَــوْمِــهِ وَازْدِهَـــــاءُ
وَتَوَالَـتْ بُشْـرَى الْهَـوَاتِـفِ أَنْ قَــدْ… وُلِدَ الْمُصْـطَـفَـى وَحَــــقَّ الْـهَـنَــاءُ
وَتَـدَاعَـى إِيــوَانُ كِـسْـرَى وَلَـــولاَ… آيَـــةٌ مِـنْــكَ مَـــا تَـدَاعَــى الْـبِـنَـاءُ
وَغَـــدَا كُـــلُّ بَـيْــتِ نَــــارٍ وَفِــيــهِ… كُــرْبَــةٌ مِــــنْ خُـمُـودِهَــا وَبَــــلاَءُ
أما الشاعر التركي سليمان جلبي فقد جعل من المولد محور قصيدته الطويلة التي زادت على 800 بيت، وحملت اسم سفينة النجاة، وتحولت عند الأتراك إلى أيقونة للمديح، تعطر بها جلسات الموالد وحلق المديح التي كانت من أبرز الأسوار التي حمت هوية تركيا في وجه عواصف العلمانية العاتية.
أمه يا حبذا من أنجبت… درة من جوف يمٍّ أخرجت
زوج عبد الله وهي آمنة.. حملها استوفى مرور الأزمنة
قد رآه من رآه بالبصر… وعلى من لم يروا قصّوا الخبر
اصطفاه ربه نعم الحبيب… أيما داء له أمسى الطبيب
يا لسعد أي سعد بعده… من رأى يا ليت شعري نده
بقضاء الله قد أضحى المكمل… وعلى كل الورى كان المفضل
وبين الأشواق العاطرة والاحتفاء الخالد، تبقى ذكرى المولد النبوي الشريف عنوان الفرح الإسلامي الأعظم، والعروة الوثقى التي تجمع جميع المسلمين وبلدانهم وشعوبهم وطوائفهم على محبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولئن اختلفوا بشأن الاحتفال بذكراه، فإنهم يجمعون على أنه منطلق الإسلام والرحمة “قل فبفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون”.