التعقيدات التي يضج بها المشهد في السودان منذ سنوات مضت جعلت بعض المواقف صعبة الإدراك، كما أنتجت اختلافا في المواقف رغم الاتفاق في المسلمات والبدهيات، ولعل ما قاله الروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن في ساحة الحرية بباريس وما تلاه من ردود أفعال بين المثقفين السودانيين دليل على ذلك.
بركة ساكن في ساحة الحرية
أثار حديث بركة ساكن عن الحرب في بلاده أحاديث كثيرة، بين رفض وقبول، ففي كلمة أمام الحاضرين قال ساكن في ما قال “إن الحرب الحالية التي تدور في السودان ليست بين الكيزان (لقب يطلقه الخصوم على الإسلاميين في السودان) والجنجويد (فصيل مسلح في دارفور كان مواليا للحكومة ويقول منتقدو قوات الدعم السريع إنها وريثته)”.
وتوقف الروائي السوداني عند الجيش السوداني ساردًا تاريخا طويلا له، منه ما يتهم به من قتل الناس في جبال النوبة ودارفور، لكنه رغم ذلك يقول “إذا انتصر الجنجويد على الجيش فلن تبقى هناك دولة في السودان”، على حد وصفه.
وسرد ساكن تاريخ التسليح الحكومي لفصائل خارج القوات المسلحة، وقال إنه ضد قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ووصفه بأنه “الأب الشرعي للجنجويد”، لكنه استدرك بالقول “إذا انتصر الجنجويد (في إشارة إلى قوات الدعم السريع) على الجيش فلن تقوم دولة في السودان”.
ووضح تعقيد الموقف بالقول “حاليا لدينا خياران أحلاهما مر، نحن ضد البرهان وضد الكيزان لكن لسنا ضد جيشنا الذي فيه أولادنا”، وتابع “هذا ليس كلامًا عاطفيا، الجيش فيه أولاد عمتي وأولاد خالتي وأولاد أختك.. إلخ، وليسوا من الكيزان”.
واستدرك “صحيح أن هناك كيزانيين يقودونه لكن في النهاية ينبغي أن يتكون جيش واحد للسودان.. جيش عقيدته القتالية وطنية، لا عقيدة جبهة إسلامية ولا أي اتجاهات أخرى”.
وأضاف “نريد أن تنتهي الحرب وأن يكون لدينا جيش سوداني وطني موحد حر يدافع عن حدود البلد ولا يقتل المواطنين، وهذا ليس سهلا بل يحتاج منا وقفة”، وختم “هذه اللحظة التي ينبغي أن نتوحد فيها نحن السودانيين من أي مكان في السودان”.
ساكن بمنظارين
الشاعرة والمترجمة السودانية إشراقة مصطفى المقيمة في فيينا تساءلت بعد مشاهدتها المقطع المتداول، قائلة “أي جيش يقصده الروائي بركة ساكن؟ الجيش الذي ولد من رحِمه الدعم السريع كما قال البرهان؟ الجيش الذي تم إفراغه من قيمته الوطنية خلال 30 عاما من الخرائب وتمت أدلجته؟”.
وواصلت طرح استفهامها: “الجيش الذي فوض حميدتي ودعمه السريع بقتل المتظاهرين والمتظاهرات في انتفاضة سبتمبر/أيلول 2013؟”، وتابعت “اختلفت المصالح بين مجرمين، وغدًا سوف يتفاوضون من جديد وفقا لأجندة السياسة الدولية لتقوى البورصة العالمية ويسيل لعابها أمام ثروات السودان”.
وكما نال حديث ساكن انتقادًا كثيفا من مثقفين سودانيين، وجد كثيرا من الدعم والمساندة والاحتفاء من آخرين؛ فالباحث والأكاديمي الدكتور عمرو صالح يس كتب على صفحته الشخصية في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ووصف بركة ساكن “بالمثقف العضوي”، مؤكدا أن “المثقف العضوي مهما انتقد الجيش فلن يتيه عن الدرب”.
وقال صالح يس “الزول (الشخص) الواعي لا يساوم على الدولة ويقف على الحياد في معركة بين جيش قومي، مهما كان سيئا، ومليشيا قبلية متمردة مخابراتية متجاوزة للسيادة وتقوم عقيدتها على السلب والنهب والاغتصاب والارتزاق!”.
ورغم أن المختلفين مع ساكن والمتفقين معه بعضهم تحدث بموضوعية مع اختلاف زوايا النظر، فقد سبح آخرون في تيارات التخوين و”إلصاق التهم المعلبة”.
لا للحرب
الناقد والأكاديمي هاشم ميرغني أشار -في إفادة للجزيرة نت- إلى ضرورة إثبات رفض الحرب، قائلا “في البداية يجب تثبيت الموقف البدهي والطبيعي وهو: لا بكل قوة لهذه الحرب العبثية الخاسرة التي جرّتنا إليها أيادٍ داخلية وخارجية”، معددًا الأيادي الداخلية، وأولاها -حسب رأيه- من سماهم بفلول النظام السابق، وطرفي القتال في السودان، مشيرا إلى أنهم “فتحوا الباب أمام تدخلات خارجية”.
سألنا هاشم عما يتبنّاه طيف من السودانيين من وصفهم للحرب بأنها لا تعنيهم، فقال إن “الإشكال الأخلاقي في هذه الحرب أنها تصادر موقفنا المبدئي من الانحياز إلى أحد طرفيها بعد أن أضحت واقعا، لأنها تدور بين جيش مختطَف من مهامه الوطنية العظيمة ومتورّط في قتل المدنيين من ميدان الاعتصام إلى أرض دارفور، ومليشيات ليس لها حق الوجود لحظةً على هذه الأرض”.
وتابع هاشم “هذا ما يعلل شعور كثيرين بأن هذه حرب لا تخصّهم، كما يعلل حالات الفرار الجماعي من أرضها، بل لأن من يؤيّد يتحمل وزر القتلى والجرحى والنازحين والمتضررين والمنهوبين ووزر هذا الخراب الجماعي دون أن ينقص من وزر الطرفين المتقاتلين شيء”.
ويرى هاشم أن الحل هو “الرفض المطلق لهذه الحرب؛ إذ لا حلّ سوى السعي الدؤوب لإيقافها، والعمل بعد كنس آثارها المريرة على جرجرة الطرفين مرة أخرى إلى مائدة الهيكلة والدمج والتسريح تمهيدًا لقيام دولة مدنية طال انتظارُها لنا وفي رحابة فضائها فقط يمكن جرد قائمة الحساب الطويلة”.
ماذا بعد؟.. مخاوف مشروعة
على أرض الواقع، تحصد الحرب الأرواح والممتلكات، والمؤكد أن الخرطوم لن تكون خرطوم ما قبل 15 أبريل/نيسان 2023 (تاريخ اندلاع الحرب)، فالمخاوف مشروعة وتشغل بال الجميع.
الروائي حمور زيادة يخشى انزلاق الحرب نحو مربع كارثي، لذلك كتب على صفحته على فيسبوك منبها “الآن، هناك واقع جديد يتشكّل. إنها حرب كاملة، وهي حرب تفتح الباب للاقتتال الأهلي في بلد هش منذ عقود”.
ليس هذا وحده ما يخشاه الروائي حمور زيادة فهناك سلوك المنتصر كما يقول، إذ “المنتصر في الحرب سيحكم وفق شرعية انتصاره. لن تكون شرعيته هي الثورة أو ما يريده الناس، سيكون قائدًا وصل إلى الحكم عبر طريق وعر من الدماء والمعارك، وسيكون انتصاره هو عنوان حكمه. هذا سيجعل أي حديث عن الديمقراطية أو الدولة المدنية أشد صعوبة”.
وعلى فظاعة تلك المخاوف، فإن هناك سيناريوهات أخرى مرعبة منها تدويل الحرب المندلعة في الخرطوم، وهذا ما أشار إليه عمرو صالح يس ذاكرًا ما يمنع التدويل بحسب وجهة نظره؛ فكتب على فيسبوك “ما يمنع التدويل قولا واحدا اصطفاف القوى المدنية مع طرف واحد في الصراع!”، داعيا الطرفين إلى التفكير والتأمل.
ويفرق يس في كثير من مقالاته المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي بين “لا للحرب موقفا أخلاقيا مبدئيا”، وبين كونها “موقفا سياسيا”. ففي المنشور السابق يصف قول “لا للحرب” إن كانت “موقفا سياسيا من غير سحب الشرعية من الدعم السريع” بأنها “أكبر خازوق”، مردِفًا بأن “الحرب لا توقفها الأمنيات والتدويل لا يمنعه الحياد، والواقع السياسي لا يحتمل الرومانسيات”.
ساكن يوضح
“الجزيرة نت” طلبت إفادة من الروائي عبد العزيز بركة ساكن تبين الموقف الذي أشكل فهمه على بعض المتلقين، فقال “أولا أنا مع شعار (العسكر للثكنات والجنجويد ينحل)، وهو شعار معظم السودانيين وشعار المرحلة، وأيضًا ضد الحرب ومع الوقف الفوري لهذه المأساة، والتفكير الإستراتيجي لما بعد الحرب”.
وأضاف “من المنطقي أيضًا أن نحافظ على الجيش السوداني، نعم، بكل سوءاته، وهو جيش تاريخه وسمعته في السودان ليست حسنة، فقد أدار الحروب في كل بقاع السودان، وارتكب كثيرًا من المجازر في الجنوب ودارفور وجبال النوبة، ولكنه رغم ذلك يظل المؤسسة العسكرية التي يجب أن نبني عليها في المستقبل جيشًا عقيدته القتالية وطنية، جيشًا غير مؤدلج وبعيدا عن السياسة والانقلابات، وموقعه هو الثكنات وليس غرف الوزارات والعمل في التجارة وإدارة المعارك السياسية والانحيازات”.
وتابع “إذا فرطنا في هذا الجيش لمصلحة مليشيات الجنجويد ذات التكوين القبلي فإننا سنفرط في دولة المستقبل، فالمليشيات لا يمكنها أن تصبح جيشًا وطنيا ولا نواة لجيش وطني، نسبة لتكوينها القبلي المعقد. إذن، يجب أن تتوقف الحرب الآن، وتسلم السلطة لجماهير الشعب، ويُكّون جيش واحد يضم كل جنود الحركات المسلحة، وأيضا مليشيات الجنجويد، ويتم تأهيل الجميع بعقيدة قتالية وطنية من أجل جيش المستقبل”.
وأكمل “لا حياد في المعارك الوطنية الفاصلة، فالمحايد مع القتلة، وأنا لست محايدا، أنا مع جماهير الشعب السوداني، وهم الطرف الثالث والأقوى في هذا الصراع، وهم الذين عبر نضالهم الطويل سيرثون هذه البلاد، أقصد الثوار”.
ورغم اختلاف وجهات النظر بين المثقفين السودانيين الذين لا تسمع أصواتهم كثيرا وسط ضجيج الحرب، فمن المؤكد أنهم جميعا يأملون في صباح جديد يكشف ظلمة هذا الليل الطويل.