لطالما كان الشّعر العربي على مرّ العصور حاضرا في تأريخ الأحداث المهمة وتخليدها، وكذلك كان حاله في العصر الحديث منذ بداية القرن الـ19 مع انطلاق حركات البعث والتجديد في الشعر العربي وتنوع مدارسه؛ كالمدرسة التقليدية بريادة البارودي وأمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم، التي دعت إلى ضرورة البعث والإحياء في الشعر العربي؛ ومدرسة الديوان التي دعت إلى التجديد في الشعر، وجعلت من الرومانسية وتثمين الوجدان منهجا لها تأثرا بالآداب الغربية، وكانت بريادة العقاد والمازني وشكري، الذين شنوا هجوما عنيفا على أنصار المدرسة التقليدية لأنهم لم يميلوا إلى تبسيط الشعر بما يوائم العصر الحديث وينسجم مع معطياته الجديدة؛ والمدرسة المهجرية بزعامة ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، وهي الوجه الآخر لمدرسة الديوان في الغرب؛ وكذلك مدرسة مطران وأبولو الداعية إلى التجديد بدون صخب الخلافات والمعارك مع المدارس الأخرى، وغيرها من اتجاهات تبنت الشعر الحر وشعر التفعيلة وصولا إلى قصيدة النثر.
ولأن الشاعر مهما كان توجهه وانتماؤه يبقى ابن بيئته يتأثر بها ويؤثر فيها؛ بقي الشعر مرآة فردية تعكس ما في نفس الشاعر، ومجتمعية تترجم آلام أفراد المجتمع وتعكس آمالهم وتصور معاناتهم وخيباتهم وتصف أفراحهم وتخلّد انتصاراتهم. ولا نقصد بتوثيق الأحداث والوقائع شعرا أن يقتصر الشعر على سرد الحدث ووصفه، فتناولُ الشاعر للواقعة شعرا يعني نقلها بصورة تنبض بالحياة وتعج بالمشاعر وتؤثر في الجماهير لخلق فعل واستجابة لديهم أو للتنفيس عنهم. وفيما يلي عرض لبعض الوقائع المهمة الخالدة عبر التاريخ في الشعر العربي الحديث.
تأريخ أحمد شوقي لسقوط مدينة أدرنة شعرا
كانت مدينة أدرنة الواقعة في غرب تركيا حاليا والتابعة للخلافة العثمانية عاصمة للدولة العثمانيّة من عام 1365م إلى فتح القسطنطينية عام 1453م. وفيها كثير من مقابر السلاطين وآثارهم، وعند اندلاع حرب البلقان الأولى في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1912م بين الدولة العثمانية واتحاد دول البلقان خسرت الدولة العثمانية كثيرا من أراضيها في أوروبا، من بينها مدينة أدرنة التي جهزت بحصون منيعة وكان سقوطها صعب المنال لولا الحصار الطويل الذي امتد 5 أشهر فأنهكها. وقد أرخ الشاعر أحمد شوقي لسقوطها شعرا، مخاطبا إياها مستذكرا تداعي المدن والحصون وهزيمة المسلمين في الأندلس، إذ قال:
يا أُختَ أَندَلُسٍ عَلَيكِ سَلام
هَوَتِ الخِلافَةُ عَنكِ وَالإِسلامُ
نَزَلَ الهِلالُ عَنِ السَماءِ فَلَيتَها
طُوِيَت وَعَمَّ العالَمينَ ظَلامُ
أَزرى بِهِ وَأَزالَهُ عَن أَوجِهِ
قَدَرٌ يَحُطُّ البَدرَ وَهوَ تَمامُ
جُرحانِ تَمضي الأُمَّتانِ عَلَيهِما
هَذا يَسيلُ وَذاكَ لا يَلتامُ
بِكُما أُصيبَ المُسلِمونَ وَفيكُما
دُفِنَ اليَراعُ وَغُيِّبَ الصَمصامُ
وَاليَومَ حُكمُ اللَهِ في مَقدونِيا
لا نَقضَ فيهِ لَنا وَلا إِبرامُ
كانَت مِنَ الغَربِ البَقِيَّةُ فَاِنقَضَت
فَعَلى بَني عُثمانَ فيهِ سَلامُ
ويكمل مخاطبا المدينة مواسيا أهلها سائلا لهم الصبر، فقد غاب صوت الأذان فيها وغُربت المساجد بمنع إقامة الصلاة وخطب الجمعة بعدما كانت تضج بالمسلمين وتتزين بعباداتهم وشعائرهم، فيقول:
صَبرا أَدِرنَةُ كُلُّ مُلكٍ زائِلٌ
يَوما وَيَبقى المالِكُ العَلّامُ
خَفَت الأَذانُ فَما عَلَيكِ مُوَحِّدٌ
يَسعى وَلا الجُمَعُ الحِسانُ تُقامُ
وَخَبَت مَساجِدُ كُنَّ نورا جامِعا
تَمشي إِلَيهِ الأُسدُ وَالآرامُ
يَدرُجنَ في حَرَمِ الصَلاةِ قَوانِتا
بيضَ الإِزارِ كَأَنَّهُنَّ حَمامُ
وَعَفَت قُبورُ الفاتِحينَ وَفُضَّ عَن
حُفَرِ الخَلائِفِ جَندَلٌ وَرِجامُ
في ذِمَّةِ التاريخِ خَمسَةُ أَشهُرٍ
طالَت عَلَيكِ فَكُلُّ يَومٍ عامُ
تأريخ فاجعة سقوط الخلافة شعرا
وحين سقطت الخلافة العثمانية وحل محلها الحكم الجمهوري أرخ أحمد شوقي للحدث تأريخا أشبه بالرثاء يعبر فيه عن مشاعر الحزن والأسى على تفكك دولة الإسلام وانتهائها ليبدأ بعدها عهد الجمهوريات والقوميات المتعددة، مشبّها الخلافة العثمانية بالعروس التي كُفنت بثوب زفافها وتحول زفافها إلى مأتم تبكيها فيه دول المسلمين التي نُكبت بهذا السقوط؛ إذ قال:
عادَت أَغاني العُرسِ رَجعَ نُواحِ
وَنُعيتِ بَينَ مَعالِمِ الأَفراحِ
كُفِّنتِ في لَيلِ الزَفافِ بِثَوبِهِ
وَدُفِنتِ عِندَ تَبَلُّجِ الإِصباحِ
شُيِّعتِ مِن هَلَعٍ بِعَبرَةِ ضاحِكٍ
في كُلِّ ناحِيَةٍ وَسَكرَةِ صاحِ
ضَجَّت عَلَيكِ مَآذِنٌ وَمَنابِرٌ
وَبَكَت عَلَيك مَمالِكٌ وَنَواحِ
الهِندُ والِهَةٌ وَمِصرُ حَزينَةٌ
تَبكي عَلَيكِ بِمَدمَعٍ سَحّاحِ
وَالشامُ تَسأَلُ وَالعِراقُ وَفارِسٌ
أَمَحا مِنَ الأَرضِ الخِلافَةَ ماحِ
كانت مدينة إسطنبول تعرف في السابق لدى جموع العرب بالأستانا، وكانت تسمى “الفروق” أيضا، وبهذا الاسم خاطبها الشاعر أحمد محرم في قصيدته التي عنونها بـ”الخلافة الإسلامية ونكبة آل عثمان”، وتحدث فيها عن نكبة المسلمين بسقوط الخلافة وتفرق أمرهم من بعدها.
واعتمد في قصيدته أسلوب الخطاب والسؤال مستنكرا ما حدث، وهو بذلك يذكرنا بقصيدة أبي البقاء الرندي أيضا في رثاء مدن الأندلس، فقد قال أحمد محرم مخاطبا مدينة إسطنبول:
أعن خطبِ الخلافةِ تسألينا
أجيبي يا (فَروقُ) فتىً حزينا
هَوىَ العرشُ الذي استعصمتِ منه
بِرُكنِ الدَّهرِ واسْتعليتِ حينا
فأين البأسُ يقتحمُ المنايا
ويلتهمُ الكتائبَ والحصونا
وأين الجاهُ يَغمرُ كلَّ جاهٍ
وإن جَعَلَ السِّماك له سفينا
مَضى الخُلفاءُ عنكِ فأينَ حَلُّوا
وكيفَ بَقيتِ وحدكِ خبّرينا
ثم يخاطب قصر يلدز الشهير متعجبا مما حلَّ به بعد ما كان يزهو على غيره من بدائع العمران الفريدة بجمال ورفعة وسؤدد ومجد:
أيلدزُ ما دهاك وأيُّ رامٍ
رماك فهدَّ سؤدُدَك المكينا
خَفضت له الجناحَ وكنت قِدما
حِمَى الخلفاءِ يأبى أن يدينا
ويتابع خطاب الأستانا حزينا على ما أصابها، مشبها إياها بالشعلة التي خفت نورها، والضياء الذي تبدد في الظلام، ويخاطب خلفاء بني عثمان معزيا مذكرا إياهم بضرورة الصبر والتحلي بالإيمان، والتفكير بواجب المرحلة، فالخلافة فقدت مكانتها وأهميتها وجلالها ونخرها الفاسدون من الداخل وتناهبها الطامعون؛ إذ يقول:
وجلَّلكِ الظّلامُ وكنتِ نورا
يَفيضُ على شُعوبِ المُسلِمينا
تزاورتِ الكواكبُ عنكِ وَلْهَى
تُقلِّبُ في جَوانِبكِ العُيونا
تحيَّر فيكِ هذا الدّهرُ حتّى
لقد ظنّتْ حوادثُه الظُّنونا
فصبرا إن أردتِ أو التياعاً
وسَلْوَى عن قطنيكِ أو حنينا
بني عثمانَ إنْ جَزَعا فَحقٌّ
وإن صبرا فخيرُ الصّابرينا
أَعِدُّوا للنّوائبِ ما استطعتم
من الإيمانِ وادَّرِعُوا اليقينا
وما نَفْعُ الخلافةِ حين تُمسِي
حديثَ خُرافةٍ للهازلينا
ثَوتْ تَتجرَّعُ الآلامَ شتَّى
على أيدي الدُّهاةِ الماكرينا
تأريخ مذبحة دنشواي شعرا
لم يغفل شعراء العصر الحديث عن التكلم على معاناة الناس في البلاد والمدن التي ينتمون إليها ويعشون فيها، ففي مصر في قرية دنشواي بالتحديد، وهي قرية تابعة لمحافظة المنوفية، حدثت مجزرة بشعة على أيدي الإنكليز آنذاك، وكان سببها خروج ضباط إنكليز لصيد الحمام، فاندلع حريق بسبب البارود المتطاير في موسم حصاد القمح وقتلت امرأة مصرية بالرصاص خطأ، فثار الأهالي ولاحقوا الضباط الإنكليز ليقتصوا منهم، فأطلق الضباط النار على الأهالي عشوائيا فأصابوا شيخ الخفر الذي جاء لتهدئة الناس.
وتذكر الأخبار التي وثقت الحادثة أن ضابطا إنكليزيا مات بضربة شمس في تلك الأثناء انفعالا وتأثرا بشدة الحرارة، وقد أكد الأطباء الإنكليز ذلك، غير أن اللورد الإنكليزي كرومر لم يصدق أو لم يقبل هذه الرواية، فأمر بالقبض على عدد كبير من الأهالي وحاكمهم في محاكمة يحفظها التاريخ بوصفها من أغرب المحاكمات على الإطلاق.
فقد نصبت المشانق قبل المحاكمة وصدور الحكم، وانتهت بإعدام 4 من الأهالي، كان أحدهم قد تجاوز الـ75 من عمره، والحكم بالجلد والسجن والأعمال الشاقة على الآخرين، وكان عددهم كبيرا ونفذت الأحكام أمام أعين الناس وعائلات المحكومين وأطفالهم إمعانا في الانتقام والقهر والذل والتخويف.
وارتفعت أصوات الأحرار في بقاع الأرض تنديدا بهذه الجريمة البشعة، ومنهم الأديب الإنجليزي جورج برنارد شو الذي قال: “إذا كانت الإمبراطورية البريطانية تريد أن تحكم العالم كما فعلت في دنشواي فلن يكون على وجه الأرض واجب سياسي مقدس وأكثر إلحاحا من تقويض هذه الإمبراطورية وقمعها وإلحاق الهزيمة بها”.
ولم يغب ذكر هذه الجريمة والمأساة الكبيرة عن شعراء مصر الكبار الذي أرخوا للواقعة واصفين فداحة المشهد ومعاناة الناس آنذاك، فلننظر إلى ما قاله حافظ إبراهيم في أبياته الآتية واصفا تلك المذبحة مخاطبا السلطات مستنكرا تسوية البشر لديهم بالحمام من جهة، وإعلاء شأن الضابط الإنكليزي مقابل الأهالي المواطنين الأصليين الذين استعبدوا واستغلوا ردحا طويلا من الزمن من جهة ثانية، وكان القصاص منهم انتقاما في حقيقته وترويعا لهم ولغيرهم؛ فقد قال:
أَيُّها القائِمونَ بِالأَمرِ فينا
هَل نَسَيتُم وَلاءَنا وَالوِدادا
خَفِّضوا جَيشَكُم وَناموا هَنيئا
وَاِبتَغوا صَيدَكُم وَجوبوا البِلادا
وَإِذا أَعوَزَتكُمُ ذاتُ طَوقٍ
بَينَ تِلكَ الرُبا فَصيدوا العِبادا
إِنَّما نَحنُ وَالحَمامُ سَواءٌ
لَم تُغادِر أَطواقُنا الأَجيادا
لا تُقيدوا مِن أُمَّةٍ بِقَتيلٍ
صادَتِ الشَمسُ نَفسَهُ حينَ صادا
أَحسِنوا القَتلَ إِن ضَنِنتُم بِعَفوٍ
أَقِصاصا أَرَدتُمُ أَم كِيادا
لَيتَ شِعري أَتِلكَ مَحكَمَةُ التَفـ
ـتيشِ عادَت أَم عَهدُ نيرونَ عادا
كَيفَ يَحلو مِنَ القَوِيِّ التَشَفّي
مِن ضَعيفٍ أَلقى إِلَيهِ القِيادا
إِنَّها مُثلَةٌ تَشُفُّ عَن الغَيـ
ـظِ وَلَسنا لِغَيظِكُم أَندادا
وكذلك أرّخ الشاعر أحمد شوقي للمذبحة نفسها شعرا مصورا حجم الحزن والأسى الذي لحق مصر برمتها عقب ما جرى من ظلم وقهر وإهانة للأهالي وترويع للناس على مرأى من المسؤولين المحليين آنذاك، فقال:
يا دِنشِوايَ عَلى رُباكِ سَلامُ
ذَهَبَت بِأُنسِ رُبوعِكِ الأَيّامُ
يا لَيتَ شِعري في البُروجِ حَمائِمٌ
أَم في البُروجِ مَنِيَّةٌ وحِمامُ
نَيرونُ لَو أَدرَكتَ عَهدَ كرومرٍ
لَعَرَفتَ كَيفَ تُنَفَّذُ الأَحكامُ
نوحي حَمائِمَ دِنشِوايَ وَرَوِّعي
شَعباً بِوادي النيلِ لَيسَ يَنامُ
إِن نامَتِ الأَحياءُ حالَت بَينَهُ
سَحراً وَبَينَ فِراشِهِ الأَحلامُ
مُتَوَجِّعٌ يَتَمَثَّلُ اليَومَ الَّذي
ضَجَّت لِشِدَّةِ هَولِهِ الأَقدامُ
السوطُ يَعمَلُ وَالمَشانِقُ أَربَعٌ
مُتَوَحِّداتٌ وَالجُنودُ قِيامُ
وَالمُستَشارُ إِلى الفَظائِعِ ناظِرٌ
تَدمى جُلودٌ حَولَهُ وَعِظامُ
وَعَلى وُجوهِ الثاكِلينَ كَآبَةٌ
وَعَلى وُجوهِ الثاكِلاتِ رغامُ
تأريخ وعد بلفور المشؤوم شعرا
وعلى الصعيد الفلسطيني، وجع الأمة وقضيتها الممتدة عبر الزمن، صور لنا الشاعر إبراهيم طوقان أوجاع الأمة التي ألمت بها بعد وعد بلفور المشؤوم الذي شرّعت فيه بريطانيا لليهود الصهاينة قيام وطن خاص بهم عام 1917م.
ووصف المشهد الكئيب في قصيدة عظيمة يتحدث فيها عن الإضراب الذي عمَّ أرجاء فلسطين كلها؛ فقال:
لَهفي عَلى البَلَد الكئيــب تَعطَلت أَسواقُهُ
عارٍ كَما اعرورى الخريف تَساقَطَت أَوراقه
خَفقت جَوانحه أَسىً وَتَقرّحت آماقه
صَبرا فَإِن الصَبر قَد يَحلو بِفيك مَذاقه
هَذا عَدوّك لا يَرعك وَهَذِهِ أَخلاقُهُ
***
بلفور كَأسك مِن دَم الشّهداء لا ماء العنَب
لا يَخدعنّك أَنها راقت وَكلّلها الحَبَب
فَحبابها الأَرواح قَد وَثبت إِلَيك كَما وَثَب
فَانظُر لِوَجهك إِنَّهُ في الكَأس لوّحه الغضب
وَاِنظُر عمِيت فَإِنَّهُ مِن صَرخة الحَق التهب
***
بلفور يَومك في السَماء عَلَيك صاعِقَة السَماء
ما أَنَت إِلا الذئب قَد صوّرت مِن طين الشَقاء
اخسأ بِوعدك إِن وَعدك دونه رَب القَضاء
وَإِلى جَهَنَم أَنتُما حطب لَها طول البَقاء
التأريخ لاستشهاد الشيخ عزّ الدين القسّام
كان محمد عز الدين القسام مناضلا شرسا ضد الاحتلال الفرنسي والإنكليزي لبلاد الشام، أصله من الساحل السوري من مدينة جبلة لكنه اشتهر بنضاله في الأراضي الفلسطينية بعد هروبه من ملاحقة الفرنسيين له، فاستقر في حيفا ثم انتقل إلى جنين، وأسس فرقة نضالية قوية، وبقي شوكة في حلق المحتل حتى تمكنوا منه تمكّن الجبان.
وكان لاستشهاده عام 1936م أثر كبير في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى التي تعد نقطة تحول عظيمة في حركة النضال الوطنية الفلسطينية. وقد رثاه كثير من الشعراء الذي عاصروا الحدث وما بعده من تبعات، فأرخوا بذلك لاستشهاده، كالشاعر فؤاد الخطيب الذي قال:
أقسمتُ أنكَ روضةٌ وجنان
والروح فيك يرف والريحان
عرفت فلسطين الشهيد ولم تكن
لينام عنه ضميرها اليقظان
هبت تودع منه أكرم راحل
خسئ التخرص عنه والبهتان
واليوم أنت بما فعلت وما جنوا
عظةٌ تجدد ذكرها الأزمان
أولت عمامتك العمائم كلها
شرفا تقصر عندها التيجان
حافظ إبراهيم يؤرخ تفاصيل ثورة 1919م في مصر وأول مظاهرة للنساء
لم تكن النساء العربيات بمنأى عن حركة النضال والجهاد في تاريخنا المليء بالمآسي والفجائع وفظائع الاحتلال، ومن جميل ما حملته إحدى قصائد الشاعر حافظ إبراهيم حديثه عن النساء اللواتي شاركن في إحدى المظاهرات في أحداث ثورة 1919م في مصر.
وقيل إنها كانت أول مظاهرة للسيدات آنذاك، فوصفهن وصفا بديعا يؤكد فيه حضور المرأة في ساحات النضال ومدى تأثيرها، وقد تظاهرن احتجاجا على تعسف الإنكليز ومعاملتهم الرعناء مع الشباب الذين تظاهروا من قبل منددين بجرائم الاحتلال وفظائعه، فما كان من الإنكليز إلا أن تعاملوا بالقسوة نفسها مع السيدات المتظاهرات، فشنّ حافظ إبراهيم عليهم حملة لاذعة في قصيدته وعرّى وجوههم أمام المشهد العام؛ فقال:
خَرَجَ الغَواني يَحتَجِجــنَ وَرُحتُ أَرقُبُ جَمعَهُنَّه
فَإِذا بِهِنَّ تَخِذنَ مِن سودِ الثِيابِ شِعارَهُنَّه
فَطَلَعنَ مِثلَ كَواكِبٍ يَسطَعنَ في وَسَطِ الدّجنَّه
وَإِذا بِجَيشٍ مُقبِلٍ وَالخَيلُ مُطلَقَةُ الأَعِنَّه
وَإِذا الجُنودُ سُيوفُها قَد صُوِّبَت لِنُحورِهِنَّه
وَإِذا المَدافِعُ وَالبَنادِقُ وَالصَوارِمُ وَالأَسِنَّه
وَالخَيلُ وَالفُرسانُ قَد ضَرَبَت نِطاقا حَولَهُنَّه
وَالوَردُ وَالرَيحانُ في ذاكَ النَهارِ سِلاحُهُنَّه
فَتَطاحَنَ الجَيشانِ ساعاتٍ تَشيبُ لَها الأَجِنَّه
فَتَضَعضَعَ النِسوانُ وَالــنِسوانُ لَيسَ لَهُنَّ مُنَّه
ثُمَّ اِنهَزَمنَ مُشَتَّتاتِ الشَملِ نَحوَ قُصورِهِنَّه
فَليَهنَأ الجَيشُ الفَخورُ بِنَصرِهِ وَبِكَسرِهِنَّه
أحمد شوقي يؤرخ لإعدام المجاهد عمر المختار
ومن منا لم يسمع بحكاية المجاهد الليبي عمر المختار وتفاصيل إعدامه! فقد نفذ فيه حكم الإعدام شنقا في عام 1931م في جنوب مدينة بنغازي، وهو المعروف بشيخ المجاهدين وأسد الجبل الأخضر، وكان إعدامه وسام شرف على صدره ما يزال براقا لامعا في سماء الكرامة العربية.
ويقال إنه قد حضر إعدامه نحو 20 ألف شخص مرغمين من قبل الاحتلال الإيطالي الغاصب، وقد صور الشاعر أحمد شوقي هذه الحادثة تصويرا تختلط فيه مرارة الألم بالشعور بالفخر بهذا المجاهد العظيم الذي أعيا وأصحابه الاحتلال ردحا من الزمن. وقد سطر لنا شوقي قصيدة بديعة تعرف بقصيدة الحرية الحمراء، يقول فيها:
رَكَزوا رُفاتَكَ في الرِمالِ لِواء
يَستَنهِضُ الوادي صَباحَ مَساء
يا وَيحَهُم نَصَبوا مَنارا مِن دَمٍ
توحي إِلى جيلِ الغَدِ البَغضاءَ
ما ضَرَّ لَو جَعَلوا العَلاقَةَ في غَدٍ
بَينَ الشُعوبِ مَوَدَّةً وَإِخاءَ
جُرحٌ يَصيحُ عَلى المَدى وَضَحِيَّةٌ
تَتَلَمَّسُ الحُرِّيَةَ الحَمراءَ
يا أَيُّها السَيفُ المُجَرَّدُ بِالفَلا
يَكسو السُيوفَ عَلى الزَمانِ مَضاءَ
خُيِّرتَ فَاختَرتَ المَبيتَ عَلى الطَوى
لَم تَبنِ جاها أَو تَلُمَّ ثَراءَ
إِنَّ البُطولَةَ أَن تَموتَ مِن الظَما
لَيسَ البُطولَةُ أَن تَعُبَّ الماءَ
في ذِمَّةِ اللَهِ الكَريمِ وَحِفظِهِ
جَسَدٌ بِبُرقَةَ وُسِّدَ الصَحراءَ
لَم تُبقِ مِنهُ رَحى الوَقائِعِ أَعظُما
تَبلى وَلَم تُبقِ الرِماحُ دِماءَ
كَرُفاتِ نَسرٍ أَو بَقِيَّةِ ضَيغَمٍ
باتا وَراءَ السافِياتِ هَباءَ
بَطَلُ البَداوَةِ لَم يَكُن يَغزو عَلى
تَنَكٍ وَلَم يَكُ يَركَبُ الأَجواءَ
لَكِن أَخو خَيلٍ حَمى صَهَواتِها
وَأَدارَ مِن أَعرافِها الهَيجاءَ
لَبّى قَضاءَ الأَرضِ أَمسِ بِمُهجَةٍ
لَم تَخشَ إِلّا لِلسَماءِ قَضاءَ
وافاهُ مَرفوعَ الجَبينِ كَأَنَّهُ
سُقراطُ جَرَّ إِلى القُضاةِ رِداءَ
شَيخٌ تَمالَكَ سِنَّهُ لَم يَنفَجِر
كَالطِفلِ مِن خَوفِ العِقابِ بُكاءَ
دَفَعوا إِلى الجَلّادِ أَغلَبَ ماجِدا
يَأسو الجِراحَ وَيُعَتِقُ الأُسَراءَ
وَيُشاطِرُ الأَقرانَ ذُخرَ سِلاحِهِ
وَيَصُفُّ حَولَ خِوانِهِ الأَعداءَ
وَتَخَيَّروا الحَبلَ المَهينَ مَنِيَّةً
لِلَّيثِ يَلفِظُ حَولَهُ الحَوباءَ
يا أَيُّها الشَعبُ القَريبُ أَسامِعٌ
فَأَصوغُ في عُمَرَ الشَهيدِ رِثاءَ
الشاعر شفيق جبري يؤرخ لجلاء الفرنسيين عن سوريا 1946م
لم يكتب لبلادنا أن تهدأ وتهنأ باستقلالها طويلا، فنظرة إلى التاريخ القريب تجعلنا ندرك أنه لم يمر على جلاء المستعمر الفرنسي عن سوريا الحبيبة سوى ما يقرب من 80 عاما، وما تزال تتراماها الأحداث والوقائع والثورات، غير أن التاريخ يحدثنا عن نيل استقلالها عام 1946م من المحتل الفرنسي.
ويؤرخ الشعراء لهذا الاستقلال بأبدع القصائد وأحلاها، فها هو شفيق جبري يسطر الاستقلال شعرا ويصف حال الشام وأهلها وهم في حبور وسعادة بعد ما قدموه من تضحيات كبيرة في سبيل جلاء المستمر عن بلادهم، فيقول:
حُلم على جنبات الشـــــــــام أَم عيد؟
لا الهمُّ همٌّ ولا التسهيد تســــــــهيدُ
أتكذبُ العينُ والرايــــــــــاتُ خافقةٌ
أَمْ تكذب الأذن والدّنيا أغاريـــــــدُ؟
كـأَنَّ كلَّ فـؤادٍ في جـــــــــــــــلائِهمُ
نشــــــــــوان، قد لعبت فيه العـناقيدُ
ملء العيون دمــــوع من هنـــاءتها
فالدّمــــع درٌّ على الخـدين منضودُ
على النواقيــس أَنغامٌ مُســــــــــبِّحة
وفي المـآذن تســــــــبيحٌ وتحـميدُ
ليت العيونَ، صـلاح الدين، ناظرةٌ
إلى العــدوّ الذي ترمي به البيــــــدُ
اضرب بعينــــــك هل تلقى له أَثرا
كأنه شــــــــــبح في اللـيل مطـرودُ
ما نامت الشـــــــــــام عن ثأر تُبَيّتُه
هيهاتَ ما نومُـها في الثأر معهــــودُ
يا فتيةَ الشــــــــــــام للعلياء ثورتُكم
وما يضـيع مع العـلياء مجـــــــهودُ
جُدتم فسالت على الثورات أنفســكم
علمتم الناس في الثورات ما الجــــود؟
أما الشاعر عمر أبو ريشة فسطر قصيدة بديعة عن جلاء الفرنسيين عن سوريا وأنشدها في الحفل الذي أقيم في حلب احتفالا بالجلاء، وهي قصيدة معروفة لدى عموم السوريين بـ”عروس المجد”، يقول فيها:
يا عروس المجد تيهي واسحبي
فـي مـغانينا ذيـول الـشهب
لـن تـري حـفنة رمل فوقها
لـم تـعطر بدما حـر أبـيّ
درج الـبـغي عـليها حـقبة
وهــوى دون بـلوغ الأرب
لا يـموت الـحق مهما لطمت
عـارضيه قـبضة المغتصب
يـا عروسَ المجد طالَ الملتقى
بـعدما طـال جوى المغترب
سـكرت أجـيالنا فـي زهوها
وغـفت عـن كـيد دهر قُلّبِ
وصـحـونا فــإذا أعـناقنا
مـثـقلات بـقيود الأجـنبي
وأرقـنـاها دمــاء حــرة
فاغرفي ما شئت منها واشربي
وامـسحي دمع اليتامى وابسمي
والمسي جرح الحزانى واطربي
كـم لـنا مـن ميسلون نفضت
عـن جـناحيها غـبار التعب
شرف الوثبة أن ترضي العلى
غُـلِبَ الـواثبُ أم لـم يُغْلَبِ
هذه تربتُنا، لـن تزدهـي
بسوانا مـن حُماةٍ نُـدُبِ
وقفَ التاريـخُ في محرابها
وقفةَ المرتجـفِ المضطـربِ
لم يتأخر الشّعر الحديث عن تأريخ الوقائع والأحداث المهمّة في تاريخنا وأيامنا، فرسم انتصاراتنا نجوما وأفراحا تتلألأ في سماء النصر والفخار، وسطر معاناتنا ووصف آلامنا وصور الجراح العميقة تصويرا خالدا يذكّر الأجيال بأهمية اتخاذ الموقف و تحديد المسار ومعرفة العدو من الصديق، فخلق لنا الشعراء بذلك روابط جديدة مع تاريخنا القريب بلغة سلسلة عذبة قريبة إلى الأفهام والأيام التي نعيشها.