لم تكن معرفة العرب بالشخصية اليهودية أمرا طارئا، فقد تجاور العرب واليهود في أزمنة وأمكنة متفرقة عبر التاريخ، ولعل هذه المعرفة اكتسبت أبعادا جديدة بعد الإسلام لكنها بالنهاية ظلت معرفة نخبوية في الأغلب، إذ أجاد بعض العرب اللغات التي تحدث بها اليهود واشتركوا أحيانا باللغة العربية، واطلع العرب على تراث اليهود الديني واستوعبوه ونقدوه، وتشكلت في النهاية معرفة مركبة بالقوم فهي معرفة دينية واجتماعية وسياسية في آن واحد.
ويمكن ملاحظة أن كثيرا من الباحثين العرب المتخصصين في اليهودية لم يكتفوا بدراسة الجانب الديني، ولكنهم قاموا بدراسات اجتماعية ونفسية وسياسية حول الشخصية الإسرائيلية، ولعل هذا ما مكنهم من استشراف المستقبل وتوقعوا بعض أحداثه التي تتداول اليوم باعتبارها نبوءات، لكنها ليست من باب الكهانة والرجم بالغيب، بل من باب تقديرات الخبير المطلع على الواقع بشكل جيد.
إحدى هذه الشخصيات العلمية التي درست الواقع الإسرائيلي هو الأكاديمي المصري عالم تاريخ الأديان محمد خليفة حسن، وللرجل كتابات عدة عن اليهودية والصهيونية، لكن ما يعنينا هنا مقالة له وكتاب، أما المقالة فقد نشرها عام 1995 في مجلة دورية محكمة بعنوان “شخصية نتنياهو في الصهيونية المسيحية”، أما الكتاب فهو الذي نشره عام 1998 بعنوان “الشخصية الإسرائيلية”، وكلا العملين صدر عن مركز الدراسات الشرقية بجامعة القاهرة.
“نتنياهو هو الشخصية السياسية المحورية التي سيتعامل معها الفلسطينيون والعالم العربي خلال السنوات القادمة، وربما يكون نتنياهو بداية سيطرة جيل الصابرا على المسرح السياسي في إسرائيل، كما أن سلوك نتنياهو السياسي يعكس الشكل الذي ستصبح عليه السياسة الإسرائيلية خلال العقود الآتية” محمد خليفة حسن عام 1998
وبحسب المعطيات التي توفرت لمحمد خليفة حسن، قرر حينها وبالحرف “أن نتنياهو هو الشخصية السياسية المحورية التي سيتعامل معها الفلسطينيون والعالم العربي خلال السنوات القادمة، وربما يكون نتنياهو بداية سيطرة جيل الصابرا على المسرح السياسي في إسرائيل، كما أن سلوك نتنياهو السياسي يعكس الشكل الذي ستصبح عليه السياسة الإسرائيلية خلال العقود الآتية”.
بنى محمد خليفة حسن استشرافه المستقبلي هذا على عاملين، العامل الأول انتساب نتنياهو إلى جيل الصابرا الذي ستؤول إليه السلطة في إسرائيل، والعامل الثاني يعود إلى شخصية نتنياهو نفسها وما حظيت به.
من المعروف أن العناصر الأساسية المكونة للمجتمع الإسرائيلي تتألف من اليهود الأشكنازيم (يهود الغرب وأميركا وشرق أوربا) واليهود السفارديم (يهود البلاد العربية والإسلامية)، لكن ثمة عنصر تولّد من العنصرين السابقين وبات يعرف باسم الصابرا، وهو لقب يطلق على الإسرائيليين المولودين في فلسطين لتمييزهم عن اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين من مناطق العالم المختلفة.
إذا أخذنا بعين الاعتبار الفترة التي أصدر بها محمد خليفة حسن أعماله -وهي فترة التسعينيات من القرن الماضي- ندرك أن النخبة الإسرائيلية الحاكمة حينها كانت من المهاجرين الذين ولدوا خارج فلسطين مثل بيريز ورابين وبيغن وغولدا مائير وغيرهم، ولم يكن جيل الصابرا مهيمنا على الساحة السياسية الإسرائيلية في تلك الفترة، بل إن نسبته داخل المجتمع الإسرائيلي كانت أقل منها اليوم، وفي تلك الفترة أشار محمد خليفة حسن إلى بعض ميزات جيل الصابرا التي اختلف بها عن الجيل السابق.
الاختلافات التي تميز بها جيل الصابرا
أولى تلك الميزات هي الثقة الزائدة بالنفس وبالإمكانيات والقدرات العسكرية والقتالية، وهي ثقة تصل حد الغرور، ولعل ذلك عائد إلى كونهم ولدوا بعد نجاح الصهيونية في إقامة إسرائيل كأمر واقع، وقد يكون من معززات تلك الثقة أو ذلك الغرور هي الخيبات العربية التي لم تنجح بإعاقة الخطط الصهيونية.
ومن صفات جيل الصابرا أنه نشأ على اللغة العبرية ودرس بها ويفكر عبرها، ولغة المرء جزء من بيئته ومن تفكيره، ولذلك يميل هذا الجيل إلى الواقعية ولا يحب مثالية الآباء المتشكلة في بلاد مختلفة، والتي تحث على التجييش والعمل اليدوي، فهو جيل ولد بعد تحديات لم يعد يرى ضرورة التوجس منها.
كما أنه جيل مادي لا تعنيه القيم الروحية والأيديولجية كالجيل السابق، وهذه الفكرة عبر عنها بعض علماء الاجتماع الإسرائيليين مثل جوزيف ديفيد وسيمون هرمان، فهم يرون أن الصابرا الذي نشأ بعد تحقيق أهداف الصهيونية لم يعد متمسكا بالمثالية التي دخلت مرحلة انحلال بعد قيام إسرائيل، فعلى الرغم من إعجاب جيل الصابرا بجهود آبائه فإنه يرى نفسه مستقلا عنهم، فهو جيل إسرائيلي خالص تربى داخل فلسطين ولم يمر بالتجارب التي مر بها جيل المؤسسين، وتخلصت شخصيته تقريبا من العقد والخبرات التي اكتسبها الجيل المؤسس.
ومن صفات جيل الصابرا أن صلتهم بالدين ضعيفة على وجه العموم، لكن تشبعهم بالقومية الإسرائيلية قوي جدا، ولذلك فعلاقتهم بيهود الخارج هشة، فهم إسرائيليون واليهودية عندهم ذات بعد قومي أكثر منها ديني، كما يشيع بين عدد منهم الارتباط بالحركة الكنعانية، وهي مجموعة من الإسرائيليين تتخذ مما يسمى أرض كنعان قاعدة أيديولوجية لهم، وبذلك يكون انتماؤهم لفترة سابقة على عصر إبراهيم عليه السلام وهجرته من بلاد الكلدانيين إلى فلسطين، كما أنهم متأثرون بالاكتشافات الأثرية التي تثبت وجود مجتمع في فلسطين سابق على اليهود الذين خرجوا إلى مصر ثم عادوا منها إلى فلسطين.
ومن ميزات جيل الصابرا أنه غير منشغل بإنشاء مجتمع مثالي، وإنما يهتم بالعمل والانشغال في الوظائف والعيش حياة عادية خالية من مثاليات الماضي، ولذلك فهم أقل ثقافة وأدنى من المتمسكين بقيم الجيل السابق، وبذلك فالاتجاه الفردي أقوى في هذا الجيل من الاتجاه الجماعي
يرى محمد خليفة حسن أن جيل الصابرا سيكون هو الممثل للشخصية الإسرائيلية، لأنه البوتقة التي سينصهر بها الأشكناز والسفارديم وستختفي مع الوقت الازدواجية في الشخصية الإسرائيلية، لأن الصابرا ولدوا في فلسطين ولذلك فإن الرابطة الإسرائيلية الوطنية ستجمعهم بدل روابط الجيل السابق.
ويعتبر أنه مع أول قدوم لنتنياهو إلى السلطة في إسرائيل بدأ يظهر الشكل الذي ستصبح عليه السياسة الإسرائيلية لعقود قادمة، فنتنياهو يتصف بكثير من صفات جيل الصابرا
يرى محمد خليفة حسن أن جيل الصابرا سيكون هو الممثل للشخصية الإسرائيلية، لأنه البوتقة التي سينصهر بها الأشكناز والسفارديم وستختفي مع الوقت الازدواجية في الشخصية الإسرائيلية، لأن الصابرا ولدوا في فلسطين ولذلك فإن الرابطة الإسرائيلية الوطنية ستجمعهم بدل روابط الجيل السابق.
وبحسب محمد خليفة حسن، فإنه مع أول قدوم لنتنياهو إلى السلطة في إسرائيل بدأ يظهر الشكل الذي ستصبح عليه السياسة الإسرائيلية لعقود قادمة، فنتنياهو يتصف بكثير من صفات جيل الصابرا، فهو:
يتمحور في سياسته حول الذات الإسرائيلية والقدرة على الاحتفاظ بهذه الذاتية داخل محيط الشرق الأوسط، وهذه من أهم صفات الصابرا الذين لا يكتفون بتمييز أنفسهم عن العالم المحيط بهم، بل هم يميزون أنفسهم على بقية فئات المجتمع الإسرائيلي بصفتهم إسرائيليين، أي مولودين في إسرائيل وتربوا في إسرائيل ولهم ثقافتهم الإسرائيلية.
يشعر نتنياهو بأهمية القوة في العلاقات مع العرب ويميل إلى استخدام القوة لإجبار العرب على قبول فكره السياسي، ومفهوم القوة عنده لا يقف عند حدود القوة العسكرية، بل هو مفهوم شامل يتضمن القوة السياسية والاقتصادية واعتبار القوة العامل الحاسم في الصراع من أجل البقاء، وهذه من صفات جيل الصابرا، فهو يؤمن بالقوة العسكرية.
تتصف شخصيته نتنياهو بروح الاستعلاء وعدم المبالاة بالغير والانغلاق على الذات، ووصفته بعض الكتابات الإسرائيلية بأنه مصاب بجنون العظمة ويعتقد أنه إمبراطور على رأس دولة عظمى، كما أن شخصيته مستفزة ومغرورة إلى حد كبير ولديها قدرة فائقة على تحدي الحقائق واختلاق الأكاذيب والتمرد على المعاهدات، ولا يؤمن بالشرعية وهي صفات متوفرة في شخصية الصابرا، فضلا عن البرود في المشاعر والغلظة في المعاملة وعدم الإحساس بالذنب.
لا يؤمن نتنياهو بأهمية السلام انطلاقا من مفهوم القوة الشامل عنده، والذي على أساسه تحول بإسرائيل من إستراتيجية السلام التي قادها بيريز إلى إستراتيجية الحرب اعتمادا على إحساس عظيم بالقوة، وهو يتحكم في قوة إسرائيل العسكرية، وهذا الإحساس الزائد بالقوة يدفعه إلى التمادي في التهديد باستخدام القوة العسكرية والدخول في الحرب.
يؤمن نتنياهو بالأيدويولوجية الصهيونية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بالعرب، فهو يؤيد الدعاوى الصهيونية في الحقوق التاريخية فيما تسمى صهيونيا “أرض إسرائيل”، ويتهم اليسار الإسرائيلي بخيانة الأهداف الصهيونية، ويعتقد أن تقدم الصهيونية مرتبط باضطهاد العرب وعدم التنازل عن الأراضي المحتلة وتعزيز المستوطنات والاستيلاء على الأراضي واستخدام القوة لتحقيق ذلك، ويسيطر على سياسة نتنياهو بعد أيديولوجي صهيوني قوي.
الدعم الإنجيلي
لقد اجتمعت في نتنياهو -بحسب محمد خليفة حسن- تركيبة جمعت بين شخصية الصابرا الإسرائيلية وبين مواصفات الشخصية الأميركية، فقد عاش في الولايات المتحدة لفترة طويلة وارتبط بالحياة الأميركية، ولهذا لم يرتبط بالمؤسسات السياسية والعسكرية في إسرائيل.
وقد استفاد نتنياهو من الظروف التاريخية التي مر بها المجتمع الإسرائيلي بعد اغتيال رابين ومن بعض الأخطاء التي وقع فيها حزب العمل، وتحققت لنتنياهو بعض الاختلافات عن قيادات إسرائيل التاريخية وصفات الجيل المؤسس، فهو ليس ابنا للعسكرية الإسرائيلية رغم إيمانه الشديد بمبدأ القوة، وليس ابنا شرعيا للدبلوماسية الإسرائيلية وليس ابنا للأحزاب السياسية الإسرائيلية، وأتى إلى رئاسة الحكومة بدون خلفية سياسية أو تاریخ سیاسي.
وهنا يمكن الإشارة للأسباب الخارجية التي توفرت لنتنياهو، فنتنياهو وصل إلى الحكم بفضل الإنجيليين أصلا، فقد عرفه الإنجيليون حين كان سفيرا لإسرائيل في الأمم المتحدة عبر “سي إن إن”، كما شارك في أنشطة الجماعات الإنجيلية تحت اسم “أصوات متحدة من أجل إسرائيل”.
والإنجيليون يقولون بفكرة مبنية على اعتقاد مسيحي تربط شرط القدوم الثاني للمسيح بجمع الشتات اليهودي في فلسطين، وهو ما يعرف باسم “الصهيونية المسيحية”، وتسيطر هذه الفكرة على عشرات ملايين المسيحيين الأميركيين من أتباع الطائفة الإنجيلية، بالإضافة إلى عشرات الملايين من أتباع الطائفة في البلاد الأوربية التي ينتشر فيها أتباع المذهب الإنجيلي، وهو أحد فروع المسيحية البروتستانتية، وللمسيحية الإنجيلية أثر كبير في السياسة الأميركية والبريطانية المتعلقة بالشرق الأوسط.
لقد حظيت شخصية نتنياهو بين الإنجيليين بمزيد من المكانة منذ بدايات اقتحامه العمل السياسي، إذ بات ينظر له من طرف بعض المسيحيين الإنجيليين على أنه المبعوث الإلهي والرسول المبعوث لتحقيق الخلاص وتتويج عيسى المسيح ملكا.
ويستشهد محمد خليفة حسن باجتماع عقدته السفارة المسيحية الدولية في القدس وحضره مئات الإنجيليين من بلاد شتى وكانت تصريحاتهم شديدة التقديس لنتنياهو، فإحدى المشاركات من طائفة الإنجيليين فسرت اسمه، فقالت إن بنيامين يعني ابن اليد اليمنى لله، ونتنياهو يعني أن المعطى من الله أو هبة الله.
على الرغم من اختلاف النتائج النهائية للصهيونية اليهودية عن الصهيونية المسيحية فإن الصهيونيتين اتفقتا في مسألة جمع الشتات اليهودي في فلسطين ودعمه
النفعية في العلاقة مع الإنجيليين
على الرغم من اختلاف النتائج النهائية للصهيونية اليهودية عن الصهيونية المسيحية فإن الصهيونيتين اتفقتا في مسألة جمع الشتات اليهودي في فلسطين ودعمه.
والحقيقة أن اليهود يفهمون جيدا عقيدة الإنجيليين، فهم يرون أنها تنضوي على جزء إيجابي وآخر سلبي، أما الجزء الإيجابي فهو المساعدة في جمع الشتات اليهودي في فلسطين وتقديم كل الدعم الممكن له، وأما السلبي فهو اعتقاد الإنجيليين أن نزول المسيح سينتج عنه تحول اليهود للمسيحية أو قتل من لم يتنصّر منهم وحينها يتوج يسوع المسيح ملكا على العالم.
ولأن نتنياهو ينتمي إلى جيل الصابرا الذي يعلي من قيمة المنفعة فهو يرى ضرورة الاستفادة من معتقد الإنجيليين، يقول ديفيد برايلان المستشار الإعلامي لرئيس الحكومة والمسؤول عن العلاقات مع الإنجيليين حينها إن نتنياهو يعلم أن هؤلاء المسيحيين يؤيدونه بحماس شديد، والرجل السياسي يفكر في المنفعة السياسية، ولا سيما أن الإنجيليين مؤثرون في السياسة الأميركية، فتأييد الكونغرس الأميركي إسرائيل راجع إلى نشاط هذه الجماعة الإنجيلية، فالتأييد العظيم لإسرائيل لم يكن إلا بفضل اللوبي اليهودي وهيمنة الإنجيليين.
هذه الأسباب مجتمعة جعلت محمد خليفة حسن يتوقع -قبل ربع قرن أو يزيد- أن نتنياهو سيتصدر المشهد الإسرائيلي، وأنه سيكون الشخصية الأبرز التي سينشغل معها الفلسطينيون والعرب في يوم من الأيام، فهل جسد نتنياهو حقا أفكار جيل الصابرا؟ وهل لما يزال الدعم الإنجيلي له اليوم كما كان من قبل؟ وهل بالإمكان الإفادة من الدراسات الاستشرافية؟