صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت رواية “حكي القرايا” للروائي والإعلامي الأردني رمضان الرواشدة، والعمل هو الثامن لمؤلفه الذي كان قد ابتدأ النشر بمجموعته القصصية “انتفاضة وقصص أخرى” عام 1989.

يحيل عنوان الرواية الجديدة إلى أن الحكاية التي سوف نقرؤها تندرج ضمن “حكي القرايا” أي كلام القرى، وهذا العنوان مستل من مثل شعبي أردني يقول “حكي القرايا غير حكي السرايا”، والقرايا تعني القرى والريف، أي الأماكن البعيدة عن مراكز السلطة والحكم. أما السرايا فهي الدواوين الحكومية ومراكز اتخاذ القرار، وفق ما استقر المعنى في الموروث الشعبي. والمعنى العام في إحالة المثل الشائع يشير إلى وجود فرق كبير بين الحديث الذي يتداول في الأماكن الشعبية (القرايا) وبين الحديث والنقاش الذي يدور في مراكز اتخاذ القرار (السرايا).

وهذا أمر يؤكده الكاتب غير مرة في بداية روايته، وذلك دفعا لتشابك المعنى أو اختلاطه، فهو يتكئ على المروي الشفوي في وجدان الجنوب الأردني، لكنه لا يريد لنصه أن يفهم بأنه يؤرخ على نحو رسمي لذلك التاريخ، فيعمد إلى نفيه بشكل موارب مرة، وبشكل صريح مرة أخرى، حيث يثبت في مفتتح الرواية “تنويها ضروريا” يؤكد فيه أنها “لا تؤرخ الأحداث ولا تتناول التاريخ بصورة متسلسلة، لكن بعض أحداثها تتقاطع مع المروي الشفوي في الجنوب الأردني، ومع بعض الوقائع التاريخية المجزوءة، ولا توجد علاقة لها من قريب أو بعيد ببعض الأسماء في تلك المنطقة”.

ثم يؤكد الكاتب الرواشدة على خياره الفني في الإهداء إلى أمه التي كانت أول من استمع “إلى قصصها الغرائبية والعجيبة التي كانت تسردها على شكل حكايات”، وهي أيضا أول من علمته “السرد المبهر المغلف بالتشويق”.

نحن إذن إزاء عمل أدبي تخييلي في شكل حكاية مروية مأخوذة من وحي المرويات الشفوية الجنوبية في الأردن، لكنها في الوقت ذاته تناقش حدثا تاريخيا مفصليا في تاريخ الأردنيين يعود إلى ما قبل تشكل دولتهم الحديثة وصولا إلى بداية نشوء إمارة شرق الأردن.

حملة إبراهيم باشا

تبدأ الرواية عام 1834 الميلادي وتنطلق فاتحتها بحملة القائد المصري إبراهيم باشا على الكرك في جنوبي الأردن، حيث كان هدف الجيش المصري إخضاع عشائر قلعة الشوبك بأي ثمن وأخذ الضرائب وتجنيد الشباب في جيش محمد علي باشا والي مصر حينها ليحاربوا مع جنده في حروبه على العثمانيين، حسب ما يرد في الرواية. وتتّوج الأحداث بعد جيل من ذلك بثورة الشوبك الشهيرة التي اندلعت احتجاجا على محاولة جنود الدولة العثمانية تسخير نساء الشوبك لنقل الماء للجنود.

تغطي “حكي القرايا” في مجمل سيرها حياة أربعة أجيال من أبناء عشائر القلعة في الشوبك، وهي تمتد طيلة قرن ونصف القرن. وثمة خطان دراميان في سير الرواية، الأول خط الصراع مع السلطات العثمانية وتفرعاتها التركية والمصرية والتي غالبا ما تكون سلطة قهرية غاشمة، وخط الصراع الثاني يؤرخ للتجاذب بين العشائر المستقرة في القلعة ومحيطها وبين مجموعات السلب وقطاع الطرق الخارجين على القانون والأعراف العشائرية.

تعد رواية “حكي القرايا” مدماكا جديدا في المشروع الروائي للرواشدة، وهي تنسج خيوطًا متينة بين التاريخ الشفوي والخيال الأدبي، وتستكشف عمق الهوية الأردنية وتاريخها، حيث تعود إلى مرحلة نشوء المجتمع الأردني السابق لنشوء الدولة الحديثة بنحو قرن من الزمان، وذلك عبر تمازج البنيتين القبليتين في كل من الكرك والشوبك الجنوبيتين في إطار مجتمعي متجانس توحده مصاعب السياسة وتحديات الاجتماع في ذلك العصر.

اللغة والأسلوب السردي

تميزت رواية “حكي القرايا” بلغة سلسة وواضحة تنهل من الموروث الشفوي بمنطوقه وخياله وأشعاره المحكية، فتصل هذه اللغة إلى القارئ بسهولة وتمكنه من الانغماس في عالم الرواية، مستعيدة ألق المجتمعات الرعوية والزراعية البكر. وقد استطاع الرواشدة أن يجمع بين البساطة والعمق، حيث استخدم لغة يومية قريبة من اللهجات المحلية في الجنوب الأردني، مما أضفى على الرواية طابعًا واقعيا وحيا. كما استخدم الروائي الوصف بدقة، مما ساعد القارئ على تخيل الشخصيات والأماكن والأحداث بوضوح.

من أبرز سمات الأسلوب في هذه الرواية هي تعدد تقنيات السرد، فمن جهة تولى الراوي العليم مهمة بناء الرواية في المجمل، لكن الرواشدة من جهة أخرى انتقل من أسلوب سردي تقليدي إلى أسلوب أكثر تجريبًا، عبر استخدام اللوحات الروائية، وكذلك تقنيات الاستذكار (الفلاش باك) والتداعي الحر، فكانت هذه الأدوات من المحركات الأساسية في السرد وكاشفة عن شخصيات الرواية وأفكارها. وقد أضفى هذا الأسلوب على الرواية طابعا دراميا وحركة مستمرة.

رمضان الرواشدة جنوني

ولعل أبرز ما يميز رواية “حكي القرايا” هو التركيز على بعد حكايا المنطوق الشعبي أي التاريخ بعيون الناس، حيث استعان الرواشدة بالروايات الشفوية والحكايات الشعبية في الجنوب الأردني لبناء روايته. وهذا يمثل تحولًا مهمًا في أسلوب الرواشدة، حيث انتقل من الانشغال بالقضايا المعاصرة إلى استكشاف الجذور التاريخية للهوية الأردنية.

تقنيات الحبكة

استخدم الرواشدة عدة تقنيات في بناء حبكته من أهمها التداخل الزمني، وظهر ذلك من خلال الاستذكار لربط الأحداث المختلفة بين أزمنة الأبناء والآباء، مما ساهم في تقديم خلفيات الشخصيات بشكل أعمق، وعزز فهم القارئ للسياق.

ومن تقنيات الحبكة أيضا استخدام التشويق المتدرج، إذ يبدأ الرواشدة بتقديم عناصر تشويق تدريجية، مما يجذب القارئ لمتابعة الأحداث. وكذلك استخدام الصراعات والحوارات الداخلية، فيركز الكاتب على الصراعات بين الشخصيات من جهة، والحوارات الداخلية من جهة أخرى والتي تضيء شخوص العمل داخليا، مما يقود إلى بناء معمار مشوق، ويضيف عمقًا دراميًا للعمل الروائي.

لقاء المؤلف

في حديث مع الجزيرة نت، قال الرواشدة إن روايته تتقاطع مع بعض الأحداث والروايات، لكنه لم يكتب في رواياته أي جانب من جوانب التاريخ الرسمي. ويؤكد أن “حكي القرايا” تبدو للقراء أقرب إلى الرواية التاريخية، لكنها ليست تأريخًا رسميًا، بل تعتمد على سردية تتناول بعض الأحداث في الجنوب الأردني في أواخر الدولة العثمانية، وفق تعبيره.

وأوضح الرواشدة “عندما يكتب الكاتب رواية فإنه، شاء أو أبى، سيتقاطع مع بعض الأحداث والروايات، ولم يسبق لي أن كتبت في رواياتي أي جانب من جوانب التاريخ الرسمي، بل كانت رواياتي أقرب إلى التجارب التي عاشها أبطال الروايات مثل عودة ابن قرية راكين الكركية في رواية (المهطوان). أما رواية (حكي القرايا) ورغم أنها تبدو للقرّاء أقرب إلى الرواية التاريخية، فإنها لم تكن تأريخا ولا تاريخا، وابتعدت في سرديتها التي تناولت وصورت بعض الأحداث في الجنوب الأردني في أواخر الدولة العثمانية، عن الرواية التي كتبها الرسميون”.

وفي سؤال حول ما حجم الحقيقة وما حجم المتخيل الأدبي فيما كتب بـ”حكي القرايا”، يقول الرواشدة إن هذه الفترة الممتدة لأكثر من مئة عام تحتاج إلى رواية بحجم كبير قد يتجاوز 500 صفحة تقريبا إذا كُتبت بالسرد الروائي الكلاسيكي، ولكنه وكعادته في باقي الروايات الخمس السابقة، يكتب “لوحات في فصول منفصلة، تنتقل وتتداخل من حيث الزمان والمكان، وربما هذا هو الأسلوب الذي وجدتني أكتب به وهو أقرب إلى نفسي من باقي أساليب الكتابة الروائية”.

ويضيف “رواية (حكي القرايا)، في مجملها، عملٌ متخيل باستثناء قصتين من المرويّات الشفوية تم توظيفهما والبناء عليهما من وقع الخيال من أجل التشويق الروائي، إضافة إلى بعض الأحداث التاريخية مثل ثورة الشوبك ضد الحكومة التركية، والتي تمت، أيضا، إضافة وقائع متخيلة إليها لتخدم العمل الروائي، وحتى الشخصيات التي صورتها في هذه الثورة ليست هي الشخصيات الحقيقية”.

حفر معرفي

وعن دور “حكي القرايا” في مواجهة صلادة الواقع وتعقيدات السياسة، قال الرواشدة “لا يمكن للمتخيل أن ينقذنا من صلادة الواقع وتعقيداته المختلفة. كتابة الرواية، كفعل تخييل، هي حفر معرفي يسعى للتغيير وربما التوازن مع الذات”.

أما عن الفصل الأخير من الرواية الذي يعتمد على توثيق الرواية الرسمية في تأسيس البلاد، فقال الرواشدة “هناك تقاطع كبير بين الروايات الشفوية والرواية الرسمية فيما يتعلق بتأسيس الدولة الأردنية في العام 1921. لكنني استندت إلى المروي الشفوي في مسألة سير العمليات والأحداث، وابتعدت عن الرواية الرسمية حتى لا تقع الرواية في التأريخ أو السردية التقريرية”.

يذكر أن رمضان الرواشدة روائي وكاتب سياسي وقيادي إعلامي ترأس عدة مؤسسات إعلامية وصحفية أردنية بارزة، أهمها مجلس إدارة المؤسسة الصحفية الأردنية، ومؤسسة الإذاعة والتلفزيون، ووكالة الأنباء الأردنية (بترا).

وتنوعت أعماله بين الروايات والقصص القصيرة والمسرح، فجاءت كالتالي: رواية “المهطوان” ومسرحية بالاسم نفسه (2022)، ورواية “جنوبي” (2019)، ورواية “أغنية الرعاة” (1988)، ورواية “النهر لن يفصلني عنك” (2006)، ومجموعة قصص قصيرة “تلك الليلة” (1995)، ورواية “الحمراوي” (1992)، و”انتفاضة وقصص أخرى” (1989).

وحاز الرواشدة على جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية عام 1994، التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة في مصر، عن رواية “الحمراوي”. وفاز المسلسل الإذاعي المأخوذ عن رواية “الحمراوي” بجائزة أفضل نص وإخراج في مهرجان الإذاعات العربية، الذي أقيم في تونس في سبتمبر/أيلول 2005 بمشاركة 13 دولة عربية.

شاركها.
Exit mobile version