ووتربيرغ، ناميبيا- تتناثر الظلال المزركشة لأشجار السنط فوق العشب الجاف. نسيم شتوي بارد يتنهد من خلال الفروع، وفي الظل المتناثر، يحمل جفتا نغهيريمو -الناشط طوال حياته في سبيل العدالة التصالحية لشعب الهيريرو- بقايا صدئة لبعض المعدات العسكرية، ومن الصعب الآن معرفة كيف استخدم ذلك العتاد القتالي.

قال الرجل البالغ من العمر 59 عاما بينما يرمي العتاد القديم مرة أخرى على الأرض: “أفكر في كل النساء والأطفال الذين ماتوا هنا”. إنه يقف في مكان معركة ووتربيرغ، حيث قضى الجيش الاستعماري الألماني في 11 أغسطس/آب 1904 على مقاومي الهيريرو الذين كانوا يقاتلون المستعمرين.

الاستعمار الألماني فرض حكمه على البلاد واستولى على جزء كبير من أراضيها، وكانت عمليات القتل جزءا من حملة العقاب الجماعي الألمانية بين عامي 1904 و1908، والتي تُعرف اليوم بأنها أول إبادة جماعية في القرن العشرين.

لكن أسلاف جفتا نغهيريمو لم يكونوا مجرد ضحايا، فهو يرى أن “هذه الحرب كانت أول مقاومة للاستعمار”، كما يقول في هذه القصة الإخبارية التي كتبها هاميلتون ويندي المؤلف والصحفي المقيم في جوهانسبرغ، ونشرها موقع الجزيرة الإنجليزية.

ولد جفتا في قرية أومبويوفاكورا في ناميبيا، ولكنه يعيش الآن في الولايات المتحدة. ذو لحية مخططة باللون الرمادي ويتحدث بهدوء ومدروس. شاعر وشخص روحاني عميق، يؤمن بشغف بالعدالة لشعبه، ولكنه يؤمن أيضا بالمصالحة مع الألمان، الذين ذبحوا عشرات الآلاف من الهيريرو والناما والسان، وهي مجتمعات عرقية أصلية في الدولة التي كانت تُعرف آنذاك بـ”جنوب غرب أفريقيا”.

كتب في عام 2020 “لدي احترام كبير لأجدادي ووالديّ، للجهود غير العادية التي بذلوها لحمايتنا نحن الأطفال من الصدمة المتناقلة عبر الأجيال التي سببتها الإبادة الجماعية.. لن يذكر الرواة الهيريرو الإبادة الجماعية خلال سردهم لحرب 1904.. سيتحدثون فقط عن حرب المقاومة”.

Namibia: The Price of Genocide | People and Power

الاستيلاء الألماني

في عام 1884، بعد مؤتمر برلين الذي قسّم الأراضي الأفريقية بين القوى الأوروبية، كانت ناميبيا من نصيب الألمان. بحلول أوائل القرن العشرين، وصل ما يقرب من 5 آلاف مستوطن ألماني، وحكموا حوالي 250 ألف من السكان الأصليين الأفارقة. مع نمو السيطرة الألمانية، تضاءلت حقوق وحريات الشعوب الأفريقية بسرعة، وتم طرد الهيريرو والمجموعات الأخرى بشكل منهجي من أراضي أجدادهم، وخصص لهم المستعمرون ما سموها بـ”المحميات”.

تعرّض الأفارقة الذين اعتبر الألمان أنهم انتهكوا القانون، للجلد والشنق في بعض الأحيان، وحتى السجلات الرسمية الألمانية تظهر حالات عديدة من المستوطنين البيض صدرت بحقهم أحكام مخففة لارتكابهم جرائم اغتصاب وقتل. هذه الوحشية المستمرة، إلى جانب قضية الأرض، فجّرت غضبا واستياءً واسع النطاق بين السكان المحليين.

بحلول عام 1904، ثار الهيريرو بقيادة زعيمهم صمويل ماهريرو، ضد الغزاة الاستعماريين الألمان. وفي 12 يناير/كانون الثاني، هاجم العديد من مقاتليهم بلدة أوكاهانجا، وقتل أكثر من 120 شخصا معظمهم من الألمان.

سرعان ما نما الصراع، حيث كانت حركة الهيريرو في البداية ناجحة للغاية، إذ اجتاحت المستوطنات الاستعمارية الضعيفة الدفاع، بينما كافح الألمان لتنظيم دفاعهم تحت قيادة حاكمهم ثيودور فون ليوتوين.

ولكن في يونيو/حزيران، أطاح به القيصر من قيادة ساحة المعركة، وعين الجنرال لوثار فون تروثا مكانه، فقام على الفور بتطبيق سياسة عسكرية: لا للتهدئة بل للإبادة، وسرعان ما أربكت الهيريرو.

مع بزوغ فجر يوم 11 أغسطس/آب على هضبة ووتربيرغ، استيقظ حوالي 50 ألفا أو أكثر من رجال ونساء وأطفال الهيريرو على  قصف أكواخهم البسيطة.

اندفع الرجال لقتال الألمان تاركين وراءهم عائلاتهم، فقُتلوا على يد لواء من حوالي 6 آلاف مجند ألماني يدعى “شاتزتروب” (Schutztruppe)، وهو الاسم الرسمي للقوات الألمانية في الأراضي الأفريقية لإمبراطوريتها.

وعلى الرغم من قلة الجنود الألمان مقارنة مع المقاومين، فإنهم كانوا يملكون أسلحة متفوقة، بما في ذلك مدافع مكسيم الآلية، وسرعان ما دمروا دفاعات الهيريرو.

في وقت مبكر من المعركة، اجتاح مقاتلو الهيريرو مواقع المدفعية الألمانية، لكن الجنرال لوثار فون تروثا أمر بتقديم المدافع الرشاشة إلى الأمام، فدفعت نيرانها السريعة الهيريرو إلى الخلف، وقتل الآلاف.

وفرّ الذين نجوا شرقا من خلال فجوة في الدفاعات الألمانية، في صحراء كالاهاري القاسية التي لا تحتوي على مياه، والمعروفة باسم “أوماهيكي”، حيث مات عشرات الآلاف. مات الكثير من العطش، بينما تم القبض على آخرين ونقلهم إلى معسكرات الاعتقال واستخدامهم في السخرة.

يقول جفتا، وهو يتأمل ما حوله، “أخبرتني جدتي عن شعبنا وهروبهم إلى الشرق وكيف هلكوا، وعن تجريدهم من أرضهم وماشيتهم، وعن كل الأشياء الفظيعة التي مروا بها في معسكرات الاعتقال”.

إبادة جماعية

على بعد أكثر من 500 كيلومتر من ووتربيرغ، في بلدة سواكوبموند الساحلية، يجلس أنتون فون فيترشايم -وهو مواطن ألماني من الجيل الثالث- يتحدث بهدوء في منزله الأنيق الذي يشبه المظهر الألماني القديم تقريبا. في غرفة معيشته، تشرق الشمس عبر النافذة الزجاجية الواسعة. يتناول كوبا من الشاي، يشاركه ذكريات عائلته.

“كان سلفي الأول -في ما كان آنذاك جنوب غرب أفريقيا الألمانية- هو عمّ أبي الذي استقر في مزرعة بالقرب من ويندهوك عام 1901. وكان من أوائل المستوطنين الذين تعرضوا للهجوم أثناء انتفاضة هيريرو، وقُتل في اليوم الثاني من الأعمال العدائية في 13 يناير/كانون الثاني 1904”.

ويكمل “أرسلت الإمبراطورية الألمانية تعزيزات فور بدء الحرب، وكان جدي -الذي كان يبلغ من العمر 19 عامًا- من بين أولئك الذين وصلوا في فبراير/شباط 1904. قاتل في معارك ضد الناما والهيريرو، ونجا من الحرب وظل في المستعمرة مزارعا”.

وأردف “لدي فهم كبير للانتفاضة، وقال شقيق عمي الباقي على قيد الحياة إنه لم يكن غريبًا أن الهيريرو كانوا ينتفضون، لأن أرضهم تم الاستيلاء عليها، وكان التجار لا يرحمون. أخذوا الماشية بطريقة غير عادلة. يمكنني أن أفهم لماذا جعلهم ذلك ينتفضون، لكن الحرب تحولت في النهاية إلى مسعى للإبادة الجماعية”.

عندما هُزم الهيريرو بسرعة من قبل قوات فون تروثا، حاولوا إعادة تنظيم قواتهم أثناء فرارهم، وكانوا يأملون في أن يحقق موقفهم الأخير في ووتربيرغ النصر. لكن الألمان خططوا بشكل جيد؛ سمحوا للهيريرو بالفرار إلى “أوماهيكي”، ثم وضع فون تروثا قوات لمنعهم من الهروب خارج الصحراء.

نشأ جفتا وهو لا يعرف المدى الكامل للرعب الذي عانى منه أسلافه إلا عندما سمع قصة جدته ورحلتها عبر الصحراء التي لا ماء فيها، في محاولة للوصول إلى برّ الأمان. يحكي عن تلك القصة بغصة، قائلا “كانت جدتي كبيرة في السن ومتعبة، وقد تُركت.. تركتها الأسرة تحت شجرة لتموت.. لقد ماتت بلا كرامة، وأردت أن أفهم حياتها، اضطرت الأسرة إلى اتخاذ قرار مؤلم: التضحية بحياة الجدة من أجل الحفاظ على حياة الأسرة.. لا يزال ألم هذا الاختيار يتردد عبر الأجيال”.

ناما

أثناء الرحلة عبر الصحراء، أصبحت الحرب الألمانية ضد الهيريرو سياسة تطهير عرقي متعمدة. أمر الجنرال فون تروثا قواته بإنشاء خط من البؤر الاستيطانية بطول مئات الكيلومترات لمنع الهيريرو من العودة إلى مزارعهم وقراهم المهجورة، وأمر الآخرين بمنعهم من استخدام آبار المياه.

في 3 أكتوبر/تشرين الأول 1904، بالقرب من منطقة بئر المياه الصحراوي “أوسومبو زو ويندميبا” (Osombo zo Windimbe) النائية، قرأ الجنرال فون تروثا أمر الإبادة (Vernichtungsbefehl) السيئ السمعة، وقال:

“أنا، الجنرال العظيم للجنود الألمان، أرسل هذه الرسالة إلى الهيريرو. لم يعد الهيريرو رعايا ألمانا… سيتم إطلاق النار على أي هيريرو يتم العثور عليه داخل الحدود الألمانية، بمسدس أو بدون مسدس أو بدون ماشية. لن أقبل بعد الآن النساء والأطفال، سأعيدهم إلى شعبهم أو سأسمح لهم بإطلاق النار عليهم. هذه هي كلماتي لشعب الهيريرو”.

تجول الهيريرو اليائسون على حافة الموت بحثا عن ملاذ وعن آبار مياه، ومات عشرات الآلاف من الناس. أخيرا، أجبر الغضب السياسي في ألمانيا بسبب هذه الوحشية الاستعمارية القيصر على إرسال تلغراف لفون تروثا، لسحب الأمر في 8 ديسمبر/كانون الأول.

بحلول أواخر عام 1904، رأى شعب ناما الذين كان بعضهم متحالفا بشكل ما مع الألمان لحماية أراضيهم، ما يكفي من وحشية الأوروبيين، وخافوا من العداء المتزايد والعنصرية المفتوحة التي يظهرها البيض تجاههم آنذاك. استدعى زعيمهم الكاريزمي هندريك ويتبوي -الذي كان في السبعينيات من عمره- مجلس الشيوخ للاستماع إلى تقارير عن الفظائع.

بعد فترة وجيزة، دعا ويتبوي جميع الناما لمحاربة الألمان. استجاب العديد من العشائر، بما في ذلك تلك التي ينتمي إليها زعيم مشهور آخر هو جاكوب (يعقوب) مورينجا، وانضمت إلى حرب ضد المستعمرين، وقتلوا رجالا بارزين، ولكن تجنبوا النساء والأطفال.

كافح الجنود الألمان ضد الحرارة والعطش والإجهاد المستمر لغارات ناما الصاعقة. كانت هناك حوالي 200 غارة ومناوشة قبل إصابة ويتبوي بجروح قاتلة في أواخر عام 1905 بشظية في إحدى هجماته. توفي بعد 3 أيام، وانهار تحالف الناما. بعد فترة وجيزة، استسلم المشردون منهم، وأحيط بالناما، إلى جانب آخر بقايا الهيريرو الهزيلة المتبقين على قيد الحياة، وتم إرسالهم إلى معسكرات الاعتقال.

تحمل عائلة إيدا هوفمان -وهي ناشطة في حركة ناما قتل الألمان سلفها-  قصة مروعة عبر الأجيال. تقول إيدا “قتل الألمان أيضا ابنة جدي الأكبر، سارة سنو”.

وتضيف “بحسب التاريخ الشفوي الذي تم نقله لأجيال. كانت سارة حاملا وقت مقتلها، فشق الألمان جسدها وأخذوا الطفل وقتلوه بدم بارد”. ولا تزال العائلة تكرّم ذكراها في قبر بالصحراء حيث دفنت.

“مات الناس هنا”

يتذكر جفتا قصة جدته الأخرى (جدته لوالدته) التي “تم القبض عليها في أوماهيكي بعد سحب أمر الإبادة وإرسالها إلى معسكر الاعتقال بجزيرة شَارْك في بلدة لوديريتز، حيث عملوا عبيدا. مات معظم الناس، لكنها كانت من القلائل الذين نجوا”. وتوقف متمعنا، ثم قال “لهذا السبب أنا هنا اليوم”.

و”شارك” (القرش)، شبه جزيرة ضيقة في ميناء بلدة لوديريتز الساحلية الصغيرة، وهي مستوطنة من بقايا الاستعمار الألماني، كانت واحدة من 5 معسكرات اعتقال أقيمت في البلاد، لكنها الأكثر شهرة.

هناك، عانى شعب الناما والهيريرو من ظروف مروعة. أقاموا ملاجئ مؤقتة من البطانيات والخرق والأخشاب الطافية، لمحاولة حماية أنفسهم من الرياح المتجمدة والضباب الذي ضرب جنوب المحيط الأطلسي.

تم إعطاؤهم بضع مئات من الغرامات فقط من الطعام، ولم تكن هناك مرافق صحية، مما أدى إلى تفشي الأمراض، خاصة بين الأطفال، وتعرضت النساء للاغتصاب، يقول جفتا “لم يتم التغاضي عن الاستغلال الجنسي للمرأة الأفريقية فحسب، بل تم تسجيله بحماس”.

تم تحويل العديد من الصور (الجنسية) العارية للنساء إلى بطاقات بريدية، وأرسلت إلى ألمانيا. أولئك الذين كانوا أقوياء بما فيه الكفاية نُقلوا للقيام بأعمال السخرة في الميناء والسكك الحديدية المجاورة.

لا أحد يعرف العدد الدقيق لمن تم سجنهم في المعسكرات. السجلات التي توثق ذلك عشوائية أو غير موجودة، لكنها تظهر الآلاف من حالات الوفاة من الهيريرو والناما، أيا ما كان مكان حفظها.

في زيارة لجزيرة القرش مع جفتا، تهب الرياح باردة وشديدة عبر الصخور القاحلة التي تضم موقعا للمخيم ومناطق للغسيل فارغة في ذلك اليوم، لكن من الواضح أنها تنتظر قدوم السياح إلى المخيم، ممن سيكونون غافلين عن التاريخ الحقيقي للموقع.

يبدو جفتا مستاء بشكل واضح ويجد صعوبة في الكلام، “هذا هو المكان الذي كان فيه أسلافي، ويطلق عليه المؤرخون معسكر الموت. بطريقة ما نجت جدتي، لكن معظم الناس ماتوا من الجوع”.

ويضيف “هذا هو أوشفيتز الخاص بنا، داخاو الخاص بنا، (أوشفيتز وداخاو من معسكرات الاعتقال النازية)، هل يوجد موقع تخييم في تلك الأماكن؟.. لا”. ويقول “هذا مكان مقدس. مات الناس هنا وأُجريت عليهم تجارب طبية. كان خوفهم الأكبر هو الذهاب إلى المركز الطبي القريب من هنا، لأنهم كانوا يعلمون أنهم لن يعودوا أحياء. اعتادوا غلي رؤوس البشر، وأجبرت النساء على تقشير الجلد وكشط اللحم بالزجاج”.

كانت هناك تجارب أخرى غير إنسانية. عانى العديد من السجناء من الإسقربوط (مرض عوز فيتامين سي)، وقام الأطباء بحقنهم بالأفيون والزرنيخ ومواد أخرى ليروا كيف يمكن أن يؤثروا على مرض ناتج عن نقص الطعام الطازج. قاموا بفتح جثث الذين ماتوا نتيجة لذلك من أجل رؤية آثار هذه التجارب.

تم إرسال الجماجم وغيرها من الرفات البشري إلى ألمانيا، حيث تمت دراسته سعيا وراء علم تحسين النسل العنصري. انتهى المطاف بالعديد منهم في معهد القيصر فيلهلم، حيث درس جوزيف مينجيل الذي أجرى لاحقا تجارب طبية مميتة على السجناء في أوشفيتز، في أوائل الأربعينيات.

الأرض والذاكرة

ما حدث للشعوب الأفريقية في ناميبيا كان نذيرا وحشيا، وكاد أن يُنسى بمحرقة النازيين ضد اليهود والجماعات الأخرى في الحرب العالمية الثانية.

لكن ذكرى هذه الأحداث موضع خلاف في ناميبيا نفسها. كان أول توثيق حقيقي للإبادة الجماعية في “الكتاب الأزرق” الشهير الذي جرى تأليفه وإنتاجه بواسطة سلطات جنوب أفريقيا عام 1918، بعد هزيمة الألمان في الحرب العالمية الأولى.

غزا اتحاد جنوب أفريقيا -الذي كان مستعمرة بريطانية في ذلك الوقت- المستعمرة الألمانية “جنوب غرب أفريقيا” عام 1915، بعد هزيمة مبكرة في بداية الحرب، واجتاح الاتحاد بسرعة القوات الألمانية التي استسلمت في يوليو/تموز من العام نفسه.

ويقدر أن حوالي 65 ألفا من الهيريرو من أصل 80 ألفا ماتوا، في حين أن حوالي 10 آلاف من الناما (حوالي نصف السكان) لقوا حتفهم.

يزعم البعض أن هذه الإحصائيات مبالغ فيها، بينما يعتقد جفتا وغيره من نشطاء الهيريرو أن الأرقام كانت أكبر بكثير، ويتساءل “لكن ما أهمية الأرقام الفعلية؟”، مقررا: “كانت الأفعال بحد ذاتها إبادة جماعية”.

بعد ما يقرب من 120 عاما، لا تزال المصالحة بين الألمان وبين الهيريرو والناما بعيدة المنال، ولا تزال الغالبية العظمى من الشعوب الأفريقية تعيش في فقر.

على مشارف مدينة سواكوبموند السياحية الشهيرة، يأخذنا جفتا لمقابلة لورانز ندورا في مستوطنة متهدمة تُعرف باسم “دي آر سي” (DRC).

صفوف وصفوف من البيوت البسيطة، جنبًا إلى جنب مع الأكواخ، تملأ المساحات الصحراوية. لا تكاد توجد أي نباتات، والرياح تحمل الرمال عبر الشوارع العارية. يرتدي لورانز قميصا أحمر اللون، في ذكرى الأيام الأكثر ازدهارا عندما كان يعمل بدوام كامل رجل إطفاء في منجم.

أجبر الجفاف والجوع لورانز على إحضار عائلته إلى هنا منذ 10 سنوات، لكن لم تصلهم أي أموال من أي اتفاق مفترض. “كان جدي الأكبر في جزيرة شارك. يتعين على الألمان أن يدفعوا ثمن ما فعلوه، لأن هذا هو الجرح الذي ظل معنا لفترة طويلة جدا”، كما يقول بشكل محسوب لكن بحزم.

“المال هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحدث التغييرات، يمكننا شراء الأراضي والحيوانات “. وهو يشير إلى الكوخ المؤقت الذي يعد المنزل الوحيد الذي يمكّنه من إعالة أسرته، ويضيف “نحن نعيش هنا كما لو كنا في معسكر اعتقال”.

الأرض والذاكرة هما التوأمان اللذان لا يزالان متشابكين بشدة حتى يومنا هذا، بالنسبة لشعبي الهيريرو والناما، والناميبيين الألمان.

يجتمع جفتا مع جيرد وولبلينغ، وهو مزارع ألماني ناميبي معتدل القامة يمتلك مزرعة شاسعة تبلغ مساحتها حوالي 15 ألف هكتار (37 ألف فدان)، بالقرب من موقع معركة ووتربيرغ.

تمتلك عائلته المزرعة منذ عام 1907، ونشأ جيرد وسط شعب الهيريرو، وهو يتحدث لغة “أوتشي هيريرو” (Otjiherero) بطلاقة. لقد كان لجده 3 أطفال من امرأة من الهيريرو، وقال “ما زلنا نتمتع بعلاقة وثيقة”.

ومع ذلك، فإن قضية الأرض ومعنى تاريخ البلاد المعذب يقفان جدارا بينه وبين جفتا. يسأل جيرد: “أي الماضي أكثر أهمية؟”، ويضيف “التاريخ شعب يحل محل الآخر. قبل 100 عام من عام 1907، لم يكن الهيريرو يسكنون هذه الأرض. لا يمكننا تصحيح الأمور عن طريق إعادة الأرض”.

يستمع جفتا بعناية، ولا يجادل في ادعاء جيرد بشأن أراضي أجداده، حيث يمشون معا عبر حظيرة الماشية وعبر حقل من العشب الشتوي الباهت، فيسأل وهما يقفان مستريحين من الشمس تحت شجرة مظللة: “هل تنكر حدوث إبادة جماعية؟”.

جيرد يرفع يديه ليشرح: “أنا لا أشكك في الضرر الذي لحق بشعب الهيريرو. لقد فقدوا الكثير من أراضيهم، ومعظم ماشيتهم، ولنقل نصف سكانهم”. ومع ذلك، فإنه ينفي وقوع إبادة جماعية: “لم تكن هناك تلك النية، والعلاقة مع الهولوكوست، بالنسبة لي، هذا بعيد المنال”.

لكن في عام 1985، صنف “تقرير ويتاكر” الصادر عن الأمم المتحدة ما حدث لشعبي الهيريرو والناما على أنه إبادة جماعية. بينما في مايو/أيار 2021، اعترفت الحكومة الألمانية نفسها رسميًا بما حدث على أنه إبادة جماعية.

في إعلان مشترك مع ناميبيا، تعهد الألمان بدفع 1.1 مليار يورو (أكثر من 1 مليار دولار) للحكومة الناميبية مساعدة خلال أكثر من 30 عامًا، ونص الاتفاق على ضرورة إنفاقها في المناطق التي يعيش فيها الآن أحفاد ضحايا الفظائع.

يقول جفتا “في يوم ما سنعيد أراضينا”. هو وإيدا وكثيرون آخرون غير راضين أبدا عن هذا الاتفاق. تقول إيدا “المفاوضات شبه الأحادية الجانب التي تجريها الحكومة الناميبية مع الحكومة الألمانية غير مقبولة”.

كان هناك الكثير من الاستياء في ناميبيا بشأن الاتفاق المشترك بين الحكومتين الناميبية والألمانية، إلى جانب مطالب من نشطاء الناما والهيريرو بإعادة التفاوض بشأن الاتفاقية، وتوفير المزيد من الأموال للمجتمعات المتضررة وإشراكهم مباشرة في المناقشات.

في الواقع، لم توقع أي من الحكومتين على الاتفاقية حتى الآن. وأشارت الحكومة الناميبية إلى رغبتها في مزيد من المفاوضات، بينما رفض البرلمان الألماني إجراء المزيد من المحادثات.

لا توجد مؤشرات على أن المأزق يجري حله بسرعة. يقول جفتا: “يبدو أن الحكومة (الناميبية) تشارك مرة أخرى في مفاوضات سرية، بينما أعرب الناس علنًا عن ضرورة إشراك قادة المجتمعات المتضررة”.

يشعر العديد من الهيريرو والناما أن حزب الأغلبية الحكومي، “المنظمة الشعبية لجنوب غرب أفريقيا” (سوابو)، لا يمثلهم ولا يمثل شعوبهم بشكل كاف، لأن أقوى دعم للحزب الحاكم  يأتي من شعب أوفامبو في النصف الشمالي من البلاد. موقف الحكومة هو أنهم يمثلون جميع الناميبيين وأن الاتفاقية لا يمكن تقييدها بموافقة الهيريرو والناما فقط.

يقول فانويل كاباما، أحد كبار المفاوضين في الحكومة الناميبية، للجزيرة، إنه في الوقت الحالي هناك “عملية مشاورات داخلية، لبناء توافق في الآراء”.

ويؤكد المبعوث الخاص للحكومة الألمانية، روبريخت بولينز، في رسالة بالبريد الإلكتروني أن “الإعلان المشترك تمت مناقشته في ناميبيا منذ مايو/أيار 2021، وغالبا ما يُنظر إليه على أنه مثير للجدل. الحكومة الاتحادية تراقب هذا النقاش وتنتظر النتيجة”.

في ووتربيرغ، ركع جفتا لالتقاط حفنة من الرمال. وضع بعضا منه في فمه ليباركه، بحسب التقليد الذي علمته جدته إياه، ورمى الباقي بعيدًا. لفترة، كان صامتًا، قبل أن يقف ببطء ويقول: “إنني أعرب عن التقدير والإجلال، أعلم أن أسلافي موجودون هنا، وهذه الأماكن ستبقى في الأذهان والذاكرة دائمًا”.

تملأ الدموع عينيه. يصمت وهو ينظر إلى المناظر الطبيعية التي بدأت تتلألأ في شمس الصباح المتأخرة. رويدًا رويدًا بدأ يتكلم مرة أخرى بصوت شاعري عميق.

“من الصعب مواجهة مصير التاريخ. الألمان الذين هزمونا يمتلكون هذه المساحة. اشتروا الأرض ولكن ممّن؟ سنناضل من أجل الاستعادة والتعويضات والكرامة. لقد هزمنا لكننا ما زلنا أقوياء. في يوم من الأيام سنستعيد أرضنا، يجب تقاسم أراضي أجدادنا معنا”.

ويضيف “هذه الأرض والأشجار تتحدث إليّ الآن. أشعر أثناء حركة الريح، بأن الأرواح تتحدث إليّ قائلة: اروِ القصة. أشعر بطاقة أولئك الذين لقوا حتفهم، وأشعر برياح تحمل غبار الذين لم يدفنوا، وأشعر برياح المقاومة.. والطيور تغرد، وتقول لي شيئا إذا استمعت باهتمام”.

ويختم جفتا “لا أشعر بالغضب الشديد، لكني أشعر بأن روحي مرتبطة بروحهم. لا فائدة ترجى من الغضب، أشعر بالفخر للتحدث معهم”.

شاركها.
Exit mobile version