في قرية سلَمة التي تقع أنقاضها اليوم على مقربة من مدينة يافا انطلقت شرارة المقاومة الفلسطينية بعد إعلان الأمم المتحدة لقرار التقسيم، ذلك القرار الذي صدر في أواخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1947م. وبعده انطلقت العصابات الصهيونية المدججة بأحدث الأسلحة لقتل الفلسطينيين والاستيلاء على قراهم وأراضيهم، وبدأت واحدة من أكبر عمليات التهجير والإبادة في العصر الحديث، وهي التي عُرفت في تاريخنا المعاصر بأحداث النكبة.

لم يقف الفلسطينيون موقف المتفرج أمام تلك الأحداث، بل بدأت الانتفاضات مبكرًا في زمن الاحتلال البريطاني في ثورات 1929 و1936م، فضلا عن الإضرابات الكثيرة والوقفات الاحتجاجية التي لم تكن تنقطع، وأيضا العمل المسلح ضد العصابات الصهيونية التي كانت تتمترس خلف الاحتلال البريطاني كما سنرى.

وعقب إعلان قرار التقسيم أُنشئت اللجنة العسكرية التي انبثقت عن قرار صدر عن الجامعة العربية لتحرير فلسطين، وفي المقابل كان رجال فلسطين قد نظموا أنفسهم في مقاومة الصهاينة وداعميهم، وبزغ في هذه الأحداث العديد من الشخصيات الفلسطينية المهمة التي قادت العمل المسلح ضد العصابات الصهيونية مثل عبد القادر الحسيني والشيخ حسن سلامة وكلاهما استُشهد في معارك 1948م.

قرار التقسيم أعطى اليهود 55% من أرض فلسطين التاريخية

انطلاق المقاومة في سلمة

سلَمة التي سُميت باسم الصحابي سلمة بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي الذي اسُتشهد قريبا منها كانت واحدة من القرى الفلسطينية التي لاقت ما لاقاه الفلسطينيون من العصابات الصهيونية المسلحة.

كانت البلدة محاطة من جهاتها الأربع بعدد من المستوطنات الصهيونية المسلحة؛ فمن الشمال كانت تقع مستوطنات مونتفيوري ورامات غان التي كانت مركزًا لتدريب عصابات الهاغنا التي ارتكبت العديد من الجرائم بحق الفلسطينيين وقتئذ.

وإلى الشرق من بلدة سلمة كانت تقع مستوطنة كفار سركن، وعزرا من الجنوب، ومستوطنة هاتيكفا من الغرب، وكانت هاتيفكا واحدة من أخطر المستوطنات على أمن سلمة واستقرارها، كما كانت تقع تل أبيب إلى الشمال الغربي للبلدة.

وفي ظل هذه الإحاطة الصهيونية الكاملة بسلَمة، كان اليهود دائمي التعرض لها، وحين أُعلن عن إضراب 2 ديسمبر/كانون الأول 1947م كانت نفوس أهل سلَمة ثائرة جراء إجرام الصهاينة، فاشتبكوا مع عصاباتهم في المنطقة وأسقطوا منهم اثنين، وكانت هذه الأحداث بداية العمل العسكري ضد الصهاينة.

أدرك أهالي سلَمة أن العمل المنظّم هو ما يجب أن يكون في ظل هذه الظروف العصيبة، واجتمعوا على إنشاء لجنة للدفاع عن مدينتهم، اشتُهر منها عدد من الشخصيات مثل مفلح علي صالح وموسى أبو حاشية. ومثّل العائلات الكبيرة كل من الحاج نجيب أبو نجم عن آل نجم، وعبد الرحيم حماد من آل حماد، وحسن أبو عيد عن الخطاطرة، وموسى محمود سويدان عن الفلاحين وغيرهم.

استطاعت هذه اللجنة أن تُجنّد في بداية عملها المقاوم 30 من شبابها مزوّدين بـ30 بندقية من البنادق الاعتيادية، ومقدار لا بأس به من العتاد، وكان قائد القطاع الغربي للمقاومة في فلسطين الشيخ حسن سلامة استطاع تزويدهم بالعتاد والسلاح.

وفي الوقت نفسه انتشر أعضاء اللجنة وشبابها المقاوم في القرى المجاورة يبحثون عن مزيد من السلاح والعتاد، بل أرسلوا أمين سر هذه اللجنة إلى القاهرة ليجلب مزيدا من السلاح، فعاد يحمل 60 صندوقًا من الذخيرة و30 بندقية من السلاح الإنجليزي والألماني.

حينئذ تجمّع لدى لجنة المقاومة في سلمة عدد لا بأس من البنادق ورشاشان ومدفع ألماني من طراز هوشكش ومدفع مورتر، وما إن أُعلن قرار التقسيم في 29 نوفمبر/تشرين الأول سنة 1947م حتى أطلق رجال مدينة سلمة القريبة من يافا أسلحتهم ومقاومتهم الباسلة التي استمرت قرابة 5 أشهر بهذا السلاح القليل والدعم المنعدم.

وكما يقول عارف العارف مؤرخ فلسطين في كتابه “نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود بين عامي 1947-1949” إنه ما كان ينقضي يوم واحد منذ صدور قرار التقسيم إلا وكان الفريقان يصطدمان، وكان الرصاص ينهمر عليهما مثل المطر، وصمد أبناء سلمة الصناديد في وجه خصومهم، فكانوا أمامهم كالحديد، لم يتزحزحوا عن مواضعهم، ولم يرحلوا عن منازلهم؛ كانوا يعدّون الفرار عارًا.

رجال سلمة في داخل تل أبيب!

برزت بطولة المقاومة في سلَمة حين أنذروا قادة الجيش البريطاني ألا يسمحوا لجنودهم بالمرور من البلدة في طريقهم إلى مطار اللد وإلى تل لتفنسكي القريب حيث يوجد معسكر القوات البريطانية، وكانوا قد اعتادوا المرور من سلمة ليلا ونهارًا للوصول إلى المطار والمعسكر.

وكان أهل سلمة قد أنذروا البريطانيين بمنع المرور؛ لعلمهم أن العصابات الصهيونية في أثناء حروب النكبة كانت تتزيّا بزي الإنجليز، وتقوم بعمليات هجوم مباغتة على المقاومة الفلسطينية وتوقع منها الرجال، ولكن الإنجليز لم ينصاعوا لطلب أهالي سلَمة رغم وجاهته.

وبعد يومين في 20 ديسمبر/كانون الأول 1947م مرت سيارة عسكرية بريطانية فقرر المقاومون مهاجمتها، وأحرقوها وجرحوا سائقها واستولوا على بندقيته، فقرر قادة المنطقة البريطانيون مهاجمة سلمة بـ30 دبابة و10 سيارات كبيرة ممتلئة بالجنود، وأنذروا أهل البلدة بإرجاع البندقية ودفع مبلغ كبير تعويضًا عن السيارة التي أُحرقت، ولكن لم ينصع له رجال المقاومة حتى بعد اعتقال عدد كبير منهم، وفي نهاية المطاف قرر البريطانيون سدّ الطريق في سلمة التي كانت تصل يافا بمطار اللد.

وكان إغلاق هذه الطريق ضربة كبرى للمقاومة في البلدة؛ لأنها الطريق الوحيدة التي كانت مفتوحة ومتصلة بالقرى العربية القريبة مثل اللد والعباسية، ومنها كان يأتي المدد والدعم، واستغل اليهود هذا التطور حتى قاموا بالهجوم على سلمة من ناحية مستوطنة هاتيكفا، وكانوا مزودين بالأسلحة الرشاشة السريعة، فصدهم المجاهدون ببطولة كبيرة رغم فارق العتاد والرجال.

ولكن اليهود كانوا يقصدون من وراء هذا الهجوم تشتيت انتباه المقاومين؛ ففي الوقت ذاته تجمعت عصابات الأرغون وغيرهم في مستوطنة رامات غان القريبة ليهجموا على سلمة من الناحية الأخرى البعيدة عن الطريق، ولكن مجاهدي البلدة كانوا قد استعدوا لهذا المكر الصهيوني وأمّنوا ظهورهم، ولما بدأت طلائع قوات الإرغون في التقدم ظهروا لهم وقاوموهم ثم تغلّبوا عليهم بصورة أدهشت اليهود أنفسهم.

ولم يتوقف المقاومون في سلَمة عند هذا الحد، بل طوّروا دفاعهم إلى الهجوم المضاد على مستوطنة هاتيكفا، واستطاعوا التغلب على سكان المستوطنة من العصابات اليهودية المسلحة وطردوهم منها وأشعلوا النار بها، ومن اللافت -كما يقول المؤرخ الفلسطيني عارف العارف– أن نساء سلمة اشتركن في هذا الهجوم وكنّ يشجّعن الرجال على القتال.

ومن الأخلاق العالية التي ظهرت في هجوم رجال سلمة ونسائها على المستوطنة أن اليهود من رعبهم هربوا وتركوا من خلفهم أبناءهم، فلم يتعرض لهم المجاهدون بسوء، وكان عدد الأطفال اليهود 26 طفلا، سلّموهم إلى القوات البريطانية التي سلّمتهم بدورها إلى أحد المستشفيات في تل أبيب.

وعلى وقع اندحار القوات اليهودية وانتشار خبر انتصار مقاومي سلمة راح المناضلون الفلسطينيون من اللد والعباسية القريبة يأتون مددًا لإخوانهم، وبدأ الجميع في الانتشار حول المستوطنات الأخرى المجاورة حتى تمكنوا من بلوغ تل أبيب يلقون الرعب في أفئدة سكانها، وأشعلوا النار في عدد من منازل مستوطنة شابيرو التي تعد اليوم حيّا من أحياء تل أبيب.

وأمام هذا الاندحار الكبير الذي تعرض له اليهود، تدخل البريطانيون لإنقاذهم ونجدة تل أبيب، وأصدروا أوامرهم للمقاومة الفلسطينية من رجال سلمة واللد والعباسية أن يخرجوا من تل أبيب وإلا تعرضوا للقصف بالطيران والهجوم العسكري البريطاني، واضطر رجال المقاومة إلى الانسحاب للفارق الكبير في العتاد والسلاح، واستُشهد في هذه المعارك 14 مجاهدًا فلسطينيا وامرأتان بينما سقط من اليهود 100.

وهكذا وبحجة فصل العرب عن اليهود استطاع البريطانيون إنقاذ تل أبيب من السقوط في أيدي المقاومة الفلسطينية بقيادة رجال سلمة، ولو حدث هذا لتغيرت كثير من معادلات النكبة، خاصة معارك يافا والشمال الغربي الفلسطيني وقتئذ.

نهاية سلمة

ولكن ورغم هذا الدعم البريطاني وقتئذ، الذي يذكرنا اليوم بالدعم الأميركي اللامتناهي لإسرائيل، لم يكن يمضي يوم دون قتال بين المقاومة في البلدة والعصابات الصهيونية، ومن أهم المعارك التي وقعت حينئذٍ ما جرى في أيام 18 ديسمبر/كانون الأول 1947 والأول والـ28 من فبراير/شباط 1948.

ففي المعركة الأولى سقط من اليهود عدد كبير، واستُشهد اثنان من المقاومين، واستُدرج عدد من مقاتلي اليهود إلى عمارة في البلدة كان المقاومون قد فخخوها من قبل، فلما دخلها الجنود الصهاينة فجروها وسقطت على كل من كان فيها، وهو التكتيك ذاته الذي لا نزال نراه في غزة حتى يومنا هذا.

وفي معركة الأول من فبراير/شباط 1948م هجم اليهود هجومًا مفاجئًا على سلمة من ناحية مستوطنة هاتيكفا، وفي هذه المعركة استُشهد من العرب اثنان.

وفي 28 فبراير/شباط سقط من اليهود 15 جنديا واستطاع مقاومو سلمة أن يسحبوا جثث 6 منهم إلى البلدة، كما استولوا على 4 مدافع من طرازات مختلفة، وبندقية ولاسلكي ولغم أرضي وعدد من القنابل، واستُشهد في هذه المعركة 3 من المقاومين من أبناء سلمة وممن جاء لدعمهم من جيش الإنقاذ العربي الذي شكّلته الجامعة العربية في ديسمبر/كانون الأول 1947.

وبسبب ضخامة هذه المعارك ونفاد كثير من أسلحة المقاومة، بعثوا من قبلهم يستنجدون برجال الهيئة العربية العليا في القاهرة، التي كانت قد شُكلت لنجدة أهالي فلسطين. ولكن كما يقول المؤرخ عارف العارف، لأن الجامعة العربية آنذاك كانت تؤثر عليهم جيش الإنقاذ المنبثق عنها فلم تعطهم السلاح ولم تسمع لهم، ولم يكن هذا خاصّا بأهل سلمة فقط بل سرى على معظم المقاومة الفلسطينية.

وهذا ما جعل القائد عبد القادر الحسيني يستشيط غضبا من قادة جيش الإنقاذ في دمشق والقاهرة، ويرجع إلى القدس ويلقى ربه شهيدًا في معركة القسطل بسبب هذه الفجوة الكبيرة في السلاح بين الطرفين. ومع هذه الصعوبات تمكن رجال سلمة من الحصول على 3 من المدافع المضادة للمصفحات و10 بنادق و40 صندوقًا من الذخيرة و3 مدافع رشاشة من النوع المعروف بالبرن، وشرعوا من جديد في مقاومة الصهاينة، ومن أجل استمرار هذه المقاومة باعت نساء القرية حليّهن ومعظم أمتعتهن المنقولة ليشترين السلاح.

وفي تلك الأثناء تعرضت سلمة في منتصف شهر أبريل/نيسان 1948م وعلى مدار 3 أيام لهجوم قوي من اليهود، أبلى المقاومون في البلدة بسالة كبيرة لصد هذا الهجوم الغادر، بل راحوا يضربون مستوطنة هاتيكفا القريبة بالهاون، ولكن بسبب انتهاء المال وقلة الداعم والمعين نفد السلاح والرصاص والعتاد ولم يبق معهم ما يصد الهجمات اليهودية المتتالية.

وتزامن هذا الوضع الداخلي للمقاومة في سلمة مع أحداث مريرة تعرضت لها القرى العربية المجاورة، بل إن الضربة الكبرى كانت في سقوط مدينة يافا في 25 أبريل/نيسان 1948م في يد الصهاينة، إذ أثّر ذلك الحدث في معنويات جميع القرى والبلدات العربية القريبة منها ومن جملتها سلمة. وخوفا من المذابح اليهودية التي ارتُكبت في يافا وغيرها، لم يجد سكان سلمة ومقاوموها أمامهم سوى الانسحاب وترك وطنهم وأراضيهم.

وفي آخر أيام شهر أبريل/نيسان 1948 غادر سكان سلمة بلدتهم بلا عودة، ودخلها اليهود بعد بضعة أيام خوفًا من المقاومة، وتحسّبا لأي كمين بها، ولكن أبطال سلمة لم يقنطوا واشتركوا في المعارك التي وقعت فيما بعد في العباسية واللد والرملة ومعركة رأس العين التي استُشهد فيها شيخ المقاومين في هذه المنطقة الشيخ حسن سلامة قائد القطاع الغربي.

وحين سقط هذا القطاع كله في يد الصهاينة فيما بعد، تشتت أبناء سلمة في رام الله وقراها ونابلس وقلقيلية وأريحا وغزة وعمّان والزرقاء ومأدبا وإربد بل إن بعضهم اتجه إلى العراق!

وهكذا سطّرت بلدة سلمة التي كانت تحتضن في نهاية عصر الانتداب البريطاني نحو 12 ألف نسمة واحدة من أهم ملاحم المقاومة في أثناء حروب النكبة وبعد قرار التقسيم، ورأينا كيف تمكنوا من بلوغ تل أبيب واحتلال أحد أحيائها قبل أن يضطرهم الإنجليز إلى الانسحاب.

شاركها.
Exit mobile version