تعد رحلة ابن فضلان واحدة من أمهات الرحلات العربية الكبرى، وقد انطلقت في 11 صفر سنة 309هـ (يونيو/حزيران 921م)، فهي من أقدم الرحلات المكتملة التي دوّنت بقلم مؤلفها، ووصلت إلى العصور اللاحقة. وأما سبب هذه الرحلة فقد ارتبط بدافع سياسي، إذ جاءت بأمر من الخليفة العباسي المقتدر للوصول إلى ملك البلغار، أو بلاد الصقالبة كما كانت تسمى قديما، والوفادة عليه لتمثيل الخليفة، فهي من رحلات السفارة والوفادة من ناحية دوافعها.

ولكن ابن فضلان، وإن لم ينس هدفه، وجدها فرصة سانحة لوضع رحلة أدبية ثقافية تصف مسيره منذ الانطلاق وحتى بلوغ الغاية ثم طريق العودة، فقدم صورة دقيقة وأمينة لجزء من العالم الأوروبي في القرن العاشر الميلادي من نواح سياسية وثقافية وجغرافية متشعبة. وقد بدأت هذه الرحلة من بغداد (دار السلام) يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر سنة 309 للهجرة، واستمرت قرابة السنة.

اقرأ أيضا

list of 2 items

list 1 of 2

شهادات يسري الغول على جدران غزة.. الكلمة في مواجهة حرب الإبادة

list 2 of 2

شاهد: فصوص الزمن والمعارف الموريتانية في معرض مخطوطات بكتارا

end of list

اجتاز ابن فضلان والوفد المرافق بلاد فارس، وبلاد الترك وصولا إلى بلاد الصقالبة (البلغار) وصولا إلى روسيا وبعض نواحي أوروبا الشرقية، أي إنها رحلة عربية باتجاه الغرب، ولذلك يمكن أن تمثّل صورة من صور العلاقة مع الغرب في العصر العربي الزاهر، عصر دار السلام المضيء عندما كان الإسلام ملء السمع والبصر.

سلسلة الرحالة.. رسالة أحمد بن فضلان.. الجزء الأول

فها هو ملك الصقالبة، أو البلغار، يبعث إلى الخليفة برسالة يرجوه فيها أن يرسل إليه من يفقّهه وقومه في الدين، ويشكو إليه من بعض جيرانه اليهود وأذاهم الذي لا يتوقف، فتقرر دار الخلافة إرسال وفد فيه كاتب ذكي ومفاوض قوي هو أحمد بن فضلان، ليتحرّى أحوال المسلمين في بلغاريا وما حولها، وليقدّم تقريرا مفصلا عن الرحلة وأحوال البلدان البعيدة.

ولقد أنجز ابن فضلان مهمته، ولكنه تجاوز مجرّد السياسة وترك كتابا أدبيا ثقافيا، تتوافر فيه عناصر المتعة السردية، ويفيض بالملاحظات الحضارية، ووصف أحوال الحياة والناس في أوروبا في القرن العاشر الميلادي، وهي حقبة غائبة، التمس الأوروبيون صورتها عند الكتّاب المسلمين، ولذلك اعتنى الروس برسالة ابن فضلان وعدّوها أهم مصدر عن روسيا وما حولها في القرن العاشر الميلادي، وقد اعتنى بها المستشرق الشهير كراتشكوفيسكي وشرحها ونشرها نشرة روسية منذ عام 1924م منوّها بأهميتها وقيمتها ككتاب حضاري ينتمي للكتب الخالدة الباقية.

وقد طبع هذه الرحلة ونشرها نشرة عربية مميزة المرحوم الدكتور سامي الدهّان (عضو المجمع العلمي العربي بدمشق)، بإلحاح وتوجيه من المفكر السوري الراحل محمد كرد علي، وقد أحسن سامي الدهّان العناية بنصّها تحقيقا وتدقيقا وتفسيرا، رغم أنها عن نسخة خطية واحدة، رديئة الخط بفعل سوء النسخ، كما كتب المحقق مقدمة ضافية تشكل ما يشبه الكتاب في تحليل الرحلة وبيان أهميتها وقيمتها الحضارية، واهتمام الاستشراق والمستشرقين بأمرها منذ وقت مبكر، لما تمثّله من نقطة اللقاء بين العرب والغرب.

ولقد تنبّه المرحوم (الدهان) إلى جودة أسلوبها، وروحها القصصية الغنية، ومما قاله في هذا السبيل:

والعجب أشد العجب في هذه الرسالة يخطّها رجل فقيه فيجيد في الوصف على أروع ما يجود فيه الأدباء!

 

يصوّر ما يجول في نفسه من مشاعر الفرح والغبطة والخوف والفزع، والعجب والدهشة، فيقربنا من المشاهد التي رأى، تقريب أديب أريب، لا فقيه مبشّر!

 

ولولا أنه ذكر مهمته وألحّ على بيانها وأكثر من النصح والنهي لسلكناه في الأدباء والقصاصين فحسب، وذلك لبراعة قلمه وحسن بيانه وجودة عباراته، وشدّة أسْره، وعظيم إيجازه في التعبير، ودقته في اللفظ، وانسيال الجمل على قلمه في سهولة ويسر، وفي تتابع من غير تقطّع ولا استطراد.

 

فلم نقع على تقعّر في المفردات، ولا تكلّف في الإنشاء، فأسلوبه من السهل الممتنع، وبيانه من الإيجاز، بحيث يقع في صدور الكتاب وفي طليعة المنشئين.

 

وأما رسالته من حيث المنهج فهي أشبه بالقصة، تتماسك حلقاتها وأحداثها، كرواية متشابكة متصل أولها بآخرها.

ومن ذلك يتبين لنا أن رسالة ابن فضلان كتاب غني، يجمع خصائص متنوّعة في المضمون والشكل، فهي كتاب حضاري ثقافي يدخل في ما يسمى بعلم الإناسة (الأنثروبولوجيا) من ناحية توصيفه لعادات الناس وتقاليدهم وطرائق معيشتهم وسلوكهم، كما أن فيه ملاحظات جغرافية عندما يتتبع أسماء البلدان والأنهار والمدن التي كان الوفد يجتازها أو يمر بها.

وقد سجل ابن فضلان ملاحظات دقيقة جدا عن أوروبا وشعوبها في القرن العاشر الميلادي من منظور العربي المسلم المنتصر، فهو يمثّل الذات المزهوّة بتميزها وحضارتها، وتبدو شعوب أوروبا سادرة في جهلها وتأخرها، ومن إشاراته الدالة أن الوفد اصطحب معه بعض الأدوية التي طلبها ملك البلغار لعدم وجودها في بلاده!

وللكتاب فاتحة أو مقدمة قصيرة، يشير فيها ابن فضلان إلى سبب الرحلة ومبدأ أمرها، يقول:

لمّا وصل كتاب -ألمش ابن يلْطوار- ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين (المقتدر)، يسأله فيه البعثة إليه ممّن يفقهون في الدين، ويعرّفه شرائع الإسلام، ويبني له مسجدا، وينصب له منبرا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته، ويسأله بناء حصن يتحصّن فيه من الملوك المخالفين له، فأجيب إلى ما سأل من ذلك … فندبت أنا لقراءة الكتاب عليه وتسليم ما أهدي إليه والإشراف على الفقهاء والمعلّمين…

وقد ذكر ابن فضلان أسماء زملائه في الوفد ومهمّة كل واحد منهم على نحو دقيق، يعطينا صورة عن طبيعة الوفود وتقدّمها عند المسلمين في ذلك الزمان.

وقد بدأت الرحلة من بغداد باتجاه بلاد فارس، ويذكر ابن فضلان البلدان التي اجتازوها بالتسميات القديمة كالنهروان وهمذان والريّ وبخارى وخوارزم والجرجانية وغيرها من مدن فارس وبلدانها.

ومن ملاحظاته عن بخارى وصفه لنقودها:

ورأيت الدراهم ببخارى ألوانا شتى، منها دراهم يقال لها: الغطريفية، وهي نحاس وشبه (نحاس أصفر)، يؤخذ منها عدد بلا وزن، مئة منها بدرهم فضة … وإذا شروطهم في مهور نسائهم: تزوج فلان ابن فلان فلانة بنت فلان على كذا وكذا ألف درهم غطريفية. وكذلك أيضا شراء عقارهم… لا يذكرون غيرها من الدراهم، ولهم دراهم أخر؛ أربعون منها بدانق (الدانق من العملات القديمة). ولهم أيضا دراهم يقال لها السمرقندية (نسبة إلى سمرْقند) ستة منها بدانق.

وهذا الوصف يدل على دقة ابن فضلان وانتباهه إلى أدق التفاصيل حتى وصل إلى المعاملات المالية وأنواع النقود، كما يقدم معلومات دقيقة عن ذلك العصر في مناطق شتى مما تسنى للمؤلف المرور به وتأمّل ضروب حياة سكانه، ومعرفة طبائعهم وسلوكهم.

ففي الجرجانية (من بلاد فارس)، نقف مع مشهد يصف فيه المؤلف ثلج تلك البلاد، ودرجة التجمّد التي لم ير مثلها من قبل، وقد صوّرها تصويرا أدبيا مثيرا:

فأقمنا بالجرجانية أياما، وجمد نهر جيحون من أوله إلى آخره، وكان سمك الجمد سبعة عشرة شبرا. وكانت الخيل والبغال والحمير والعجْل تجتاز عليه، كما تجتاز على الطرق، وهو ثابت لا يتخلخل فأقام على ذلك ثلاثة أشهر. فرأينا بلدا ما ظننا إلا أن بابا من الزمهرير قد فتح علينا منه، ولا يسقط فيه الثلج إلا ومعه ريح عاصف شديدة، وإذا أتحف الرجل صاحبه، وأراد برّه قال له: تعال إليّ حتى نتحدث فإن عندي نارا طيبة… هذا إذا بالغ في برّه وصلته، إلا أن الله تعالى قد لطف بهم في الحطب، وأرخصه عليهم، حمل عجلة من حطب الطانح (الغض) (نوع شجر) بدرهمين من دراهمهم، تكون زهاء ثلاثة آلاف رطل. ورسم سؤالهم أن لا يقف السائل على الباب، بل يدخل إلى دار الواحد منهم، فيقعد ساعة عند ناره ويصطلي، ثم يقول: ﭘﮑﻨﺪ، يعني الخبز، (فإن أعطوه شيئا أخذ وإلا خرج).

ويطول مقام ابن فضلان وصحبه في جرجان بسبب البرد والثلج، ويروي:

بلغني أن رجلين ساقا اثني عشر جملا ليحملا عليها حطبا، فنسيا أن يأخذا معهما قدّاحة وحراقة، وأنهما باتا بغير نار، فأصبحا والجمال موتى لشدة البرد … ولقد كنت أخرج من الحمّام، فإذا دخلت إلى البيت نظرت إلى لحيتي وهي قطعة واحدة من الثلج، حتى كنت أدنيها إلى النار.

فهذه مشاهدات طريفة، تروى بلغة أدبية قصصية تجمع تجارب المؤلّف ومشاهداته والأخبار التي تصله أو تنقل إليه، فابن فضلان وجد في الرحلة محفّزا له على الوصف والسرد، دون أن يكتفي ببلوغ مهمته الرسمية، لأنه أديب مثقف، وليس مجرد موظف أو رسول يؤدي مهمة للخليفة أو للوزير. ولذلك خلّف كتابا خالدا حتى اليوم، يشهد بجودة التأليف، ورقة الأسلوب عند هذا الأديب الذي لا نعرف من نتاجه إلا عمله هذا المسمّى برسالة ابن فضلان.

ومن بلاد فارس ينتقل ابن فضلان وجماعته إلى بلاد الترك (تركيا)، وفي القسم التركي يصف لنا جماعة يسمون بالغزّية، قال:

أفضينا إلى قبيلة من الأتراك يعرفون بالغزية، وإذا هم بادية، لهم بيوت شعْر، يحلّون ويرتحلون، ترى منهم الأبيات في مكان، ومثلها في مكان آخر، على عمل البادية وتنقلهم، وإذا هم في شقاء، وهم مع ذلك… لا يدينون لله بدين، ولا يرجعون إلى عقل، ولا يعبدون شيئا، بل يسمون كبراءهم أربابا، فإذا استشار أحدهم رئيسه في شيء قال له: “يا رب إيش أعمل في كذا وكذا”، غير أنهم متى اتفقوا على شيء وعزموا عليه، جاء أرذلهم وأخسّهم فنقض ما قد أجمعوا عليه.

وعلى الرغم من قسوته في التماس هذه التفاصيل، وفي إبراز عيوب القوم، وكثير منها يعود إلى ما لاحظه من مخالفتهم ما اعتاده في بغداد وديار الإسلام، على الرغم من ذلك نجده يتقصد الموضوعية في إبراز وفائهم لمن يمرّ بهم من المسلمين، وخصوصا التجار الذين كانوا يصاحبونهم ويحافظون على أموالهم، حتى إذا مات واحدهم، حافظ صاحبه التركي على ماله وأرسله مع أحد التجار الآخرين إلى بلاد المسلمين أو إلى أهل المتوفى.

وقد سجل ابن فضلان فصلا صالحا من أخلاق الترك وعاداتهم ومظهر رجالهم ونسائهم يتباين بين السلب والإيجاب، وفق منظور المؤلّف الذي ينطلق من قاعدة متينة هي قاعدة الإسلام القوي، والثقافة العربية المزهوّة بانتصارها وتميزها وتحضّرها. فلقد كان العالم الأوروبي في عصر ظلماته، بينما كان العرب في لحظة مهمة من لحظات التحضر والتقدم علما وحضارة وسلوكا، وهذا بعض ما ينبئ عنه صاحبنا ابن فضلان في رسالته.

ويسمي ابن فضلان قبائل وشعوبا أخرى: البجناك، والباشغرد من قبائل الأتراك وجماعتهم، ويميّزهم عن الغزية، فابن فضلان لا يأخذ الأمور على وجه التعميم وإنما يدقق في سلوك الجماعات البشرية ويميّز بينها بأسلوب الباحث الحضاري، والأديب صاحب الملاحظة والدقة، مركزا على ما هو طريف وممتع، وذلك ممّا يعطي نص الرحلة سمات أدبية وحضارية تجعل منها نصا يستحق القراءة والتأمل، لما يقدمه من فوائد في ثقافات الشعوب، ومن متع في دروب السرد وألوانه المختلفة. وكل هذا يزيد من بهاء هذا النص، ويقرّبه من نفوسنا، لأنه نص من نصوص الحياة.

وفـي موضع آخر يصل ابن فضلان وجماعته إلى الصقالبة (البلغار)، فيستقبلون استقبالا حافلا:

فلما كنا من ملك الصقالبة -وهو الذي قصدنا له- على مسيرة يوم وليلة وجّه لاستقبالنا الملوك الأربعة الذين تحت يده وإخوته وأولاده، فاستقبلونا ومعهم الخبز واللحم … وساروا معنا، فلما صرنا منه على فرسخين التقانا هو بنفسه، فلما رآنا نزل فخرّ ساجدا لله، عزّ وجلّ، وكان في كمّه دراهم، فنثرها علينا، ونصب لنا قبابا فنـزلناها.

وختاما، فإن هذه الرحلة رحلة قصصية، يختلط فيها السرد بالملاحظات الحضارية، ورصد أحوال الشعوب، فضلا عن أنها ترصد لنا معجما للأماكن والأقوام والأنهار والنواحي الاقتصادية والمالية وغير ذلك مما وثقه ابن فضلان في كتابه السردي الحضاري.

شاركها.
Exit mobile version