منذ تسعينيات القرن الماضي والكاتب المغربي يوسف فاضل يشتغل على مشروعه الروائي المجتمعي الكبير بصبر وأناة قل نظريهما، حيث تمكن خلال هذه السنوات من نسج عوالم روائية بعضها متخيل، والبعض الآخر مستمد من قضايا سياسية ومجتمعية حارقة بالمغرب، من مثل سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، والهجرة السرية، والمتاجرة في الحشيش، والإرهاب، والأوضاع الاجتماعية القاسية والفقر والتهميش، وذلك عبر التركيز على شخصيات من قاع المجتمع المغربي وأشخاص مهمشين لا يلتفت إليهم في الغالب، من أجل منحهم صوتا مميزا في الرواية يعيد إليهم الاعتبار ويسلط الضوء على أوضاعهم الصعبة، فكان الهامش هو مركز السرد في روايته.

وحديثا، وعلى المنوال نفسه من الحفر في تضاريس المجتمع المغربي، وبنفس روائي ممتع ومؤلم وعجيب، تمكن الروائي يوسف فاضل من القبض على الجرح المغربي الغائر والمتواصل إلى الآن، والمتعلق بالريف المغربي ومشاكله وخيبات وآمال سكانه، وذلك في رواية ضخمة من 3 أجزاء صادرة هذا العام عن “منشورات المتوسط” بإيطاليا تحت عنوان “ريفوبليكا”، وهي كلمة مركبة من الريف ومن كلمة الجمهورية باللغة الفرنسية، في دلالة على جمهورية الريف، التي تأسست بشكل رسمي مع المناضل والزعيم الريفي محمد بن عبد الكريم الخطابي عام 1921 شمال المغرب إبان انتصاره على الإسبان في معركة “أنوال”، لتكون قاعدة صلبة في مواجهة الاحتلال المزدوج الفرنسي والإسباني.

“ريفوبليكا” ثلاثية عن الريف وعن المقاومة وعن الحلم بالتغيير، رواية تقع في حوالي ألف صفحة، ورغم ضخامتها فهي تحفة سردية تشد القارئ بأحداثها وشخصياتها المتنوعة والوصف البديع للمنطقة وجغرافيتها وتضاريسها الوعرة، وببنائها السردي غير الخطي، الذي يأخذ القارئ إلى أحداث قريبة تعود إلى عام 2011 وتعديل الدستور بالمغرب وحراك الريف، وإلى أحداث بعيدة تعود إلى عشرينيات القرن الماضي وثورة الريف الشرسة مع الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، والثورة اللاحقة إبان استقلال المغرب عامي 1958 و1959، كل ذلك في محاولة من الكاتب لوضع الأصبع على جوهر المشكل في هذه المنطقة، وعلى التهميش الذي تعرضت له على مدار هذه السنوات، فرغم أن هناك مناطق عديدة بالمغرب تعرضت للتهميش، فإن الريف، كما يقول يوسف فاضل، يعد “مثالا صارخا لهذا التهميش”.

رواية سياسية

التهميش، العزلة، المطاردة، السجن، مصادرة الأراضي، الحب، الزواج، التعليم، المسرح، كلها أشياء تحضر في هذه الرواية ذات الطابع السياسي، ولكن يوسف فاضل، المقل في الحديث عن أعماله لأنه يفضل أن يتحدث عنها القراء والنقاد بدلا عنه، يرفض هذا الوصف، ولا يعتبر أن روايته سياسية، إلا إذا اعتبرنا أن الحديث عن الحرب والثورة وغيرهما يدخل في هذا الإطار.

فمثلما اقتحم يوسف فاضل عوالم القصر المغربي في عهد الملك الراحل الحسن الثاني في روايته “قط أبيض جميل يسير معي” عبر تسليط الضوء على معاناة المهرج “بلوط” مؤنس الملك الذي عانى الأمرين بعد الزج بابنه المشارك في الانقلاب بالمغرب في سجن “تازمامارت”، ومواصلته العمل إلى جانب الحاكم، وكانت روايته تلك أول رواية مغربية مباشرة عن العهد السابق، وكشفه عن معاناة المعتقلين من قلب ذلك السجن الرهيب في روايته “طائر أزرق نادر يحلق معي”، فإنه في ثلاثيته “ريفوبليكا” ينتقل إلى الحديث بجرأة كبيرة عن موضوع إشكالي وعصي بالمغرب، لم يسبق لغيره من المبدعين وحتى الريفيين منهم أن تناولوه بالزخم نفسه، فمنهم من سلط الضوء على مرحلة بعينها وعلى قضية واحدة، ولكن يوسف فاضل، غير المتحدر من الريف المغربي، وعبر التسلح بالمعرفة العميقة والضرورية وزياراته المتعددة لاكتشاف المنطقة وسبر أغوارها وتضاريسها، تمكن من إعطائنا رواية بطلها ومحورها الأساسي هو الريف المغربي بجغرافيته القاسية والصعبة، وشموخه وعناد وصلابة ساكنته.

في هذه الرواية اختار يوسف فاضل السرد بضمير الغائب للحديث عن الريف، على عكس مجموعة من رواياته التي كان فيها ضمير المتكلم حاضرا، وهو ما فسره بالنفور في هذا العمل بالتحديد من ضمير المتكلم من دون أن يجد له أي مبرر أو تفسير نظري، مشيرا إلى أنه كتب أجزاء كاملة بضمير المتكلم، ولكنه عندما قرأها لم يجدها مقنعة، ولم تستقم حتى كتبها بضمير الغائب، لأن هناك “ضوءا خفيا” أو “حاسة غامضة” يهتدي بها إلى الأحسن. ولكن الأمر في الحقيقة له تفسير منطقي يعزى إلى صلابة الموضوع، وهو ما كتب عنه أحد أهم رواد الرواية الجديدة الفرنسي ميشال بيتور في تبيانه للفرق بين الكتابة بضمير المتكلم وضمير الغائب أو تداخل الضمائر في الرواية الجديدة، ومركزا على ضمير الغائب باعتباره أساس كل صيغ الحكي.

في رواية “ريفوبليكا” بأجزائها الثلاثة يرسم الكاتب يوسف فاضل مسار الشخصية الرئيسية “بنصالح” الذي شارك في انتفاضة الريف عام 1958 وسعيه إلى استعادة أراضيه التي صادرتها الدولة، وبحثه عن والده “ميسور” المختفي الذي شارك في حرب الريف في عشرينيات القرن الماضي وقصته مع “روازنة”، وغيرها من مسارات الشخصيات الأخرى من الأبناء خاصة “عبد المالك” الصحفي، والأزواج والأصدقاء، ومن خلال هذه المسارات المتداخلة والمتشابكة تحضر في الرواية ذاكرة الريف العصية على النسيان، لأن المنطقة عانت الأمرين من مخلفات الاستعمار الإسباني وعانى سكانها من المجاعة ووباء الكوليرا ومن القصف بالغازات السامة، وأعلنت منطقة عسكرية من قبل المؤسسة الملكية بعد انتفاضة الريف، وتعرضت للتهميش في عهد الملك الراحل الحسن الثاني الذي سبق أن وصف سكانها بـ “الأوباش”.

كما تحضر العديد من الأحداث كمظاهرات شباب 20 فبراير بالريف في 2011 و2016 ومطالبتهم بالتغيير وتحسين الأوضاع وتوقيف سياسة التهميش عن المنطقة، ورفع “الحُكرة” (حالة اليأس القصوى) عنها وعن ساكنتها، خاصة بعد مقتل الشاب بائع السمك محسن فكري سحقا بشاحنة لجمع النفايات في مدينة الحسيمة شمال المغرب بعد مشادة مع عناصر الشرطة، وتأجيج الاحتجاجات التي أدت إلى اعتقال العديد من نشطاء الريف والزج بهم في السجن.

ويوسف فاضل روائي ومسرحي وسيناريست مغربي من مواليد عام 1949 بمدينة الدار البيضاء. يتوزع إنتاجه الأدبي بين الكتابة المسرحية والروائية والسيناريو، تحولت مسرحيته الأولى “حلَّاق درب الفقراء” إلى فيلم أخرجه الراحل محمد الركاب. صدرت له الروايات التالية: “الخنازير” 1983، “أغمات” 1990، “سلستينا” 1992، “ملك اليهود” 1996، “حشيش” 2000 (حاز بها على جائزة الأطلس الكبير للكتاب التي تمنحها السفارة الفرنسية بالمغرب)، “ميترو محال” 2006، “قصة حديقة الحيوان” 2008، “قط أبيض جميل يسير معي” 2011، “طائر أزرق نادر يحلق معي” 2013 (بلغت القائمة القصيرة لجائزة البوكر وجائزة الكتاب بالمغرب)، “فرح” 2016، “مثل ملاك في الظلام” 2018، “حياة الفراشات” 2020، “غبار ونجوم” 2021، ثم ثلاثية “ريفوبليكا” 2024.

في روايته "قط أبيض جميل يسير معي" عبر تسليط الضوء على معاناة المهرج "بلوط" مؤنس الملك الذي عانى الأمرين بعد الزج بابنه المشارك في الانقلاب بالمغرب في سجن "تازمامارت"، ومواصلته العمل إلى جانب الحاكم

فعن ثلاثية الريف وعن كتابة الرواية ومطبخه الداخلي والترجمة والجوائز والمسرح كان هذا الحوار الخاص للجزيرة نت مع الروائي يوسف فاضل.

  • صدرت لك حديثا رواية ضخمة عن “منشورات المتوسط” بإيطاليا بعنوان “ريفوبليكا”، وهي ثلاثية عن الريف، تتناول فيها قضية سياسية ما زالت حساسة بالمغرب، ولم يتم الاقتراب منها على المستوى الروائي إلا من قبل بعض الأقلام من منطقة الريف، فما الذي دفعك إلى تناول هذا الموضوع السياسي الحساس الذي ما زال مطروحا إلى اليوم؟

عادة لا أعرف كيف تأتي الأفكار. عند عطفة شارع أو عند قراءة جملة في كتاب. أو تذكر حدث بعينه. بالنسبة للرواية الأخيرة “ريفوبليكا” أعتقد ان أحداث الريف في 2011 و2016 لعبت دورا في هذا الاختيار. بعد تردد ونسيان وتناسي، هناك أسئلة ملحة ترافق ترددك وتفرض عليك اختياراتك. ما كل فكرة صائبة في حد ذاتها. لا يكتب الكاتب إلا مجيبا عما يختلج بداخله من تساؤلات.

التردد يطال مسألة أخرى مثيرة للقلق. ماذا لو أخطأت وأنا في منتصف الطريق؟ ماذا لو اكتشفت أن الفكرة التي اخترت لن تذهب بك بعيدا؟ نعم، ما كل فكرة تحمل مشروعا روائيا. كتبت رواية “طائر أزرق نادر يحلق معي” بعد أزيد من 20 عاما على الإفراج عن معتقلي تازمامارت. لماذا لم أكتبها من قبل؟ الفكرة موجودة في الأذهان وفي الكتب والجرائد. أحيانا تكفي دردشة مع صديق لتطفو الفكرة على السطح مكتسية لونا جديدا. ربما كانت موجودة في ركن ما من الذاكرة وتتحين الفرصة لتقفز. ثم تأخذ في الحفر حتى تفرض نفسها. للأفكار وسائلها الغامضة للتعبير عن نيتها.

  • منذ عتبة الرواية العنوان “ريفوبليكا” الذي جمعت فيه بين الريف واسم الجمهورية باللغة الفرنسية، والذي تقصد به “جمهورية الريف”، المذكورة في أكثر من موقع ومحطة في أحداث الرواية، تعلن أن هذا العمل الروائي سياسي بامتياز، فما قصة هذا العنوان الذي يحمل أكثر من دلالة؟

أولا لم أعلن عن شيء من هذا القبيل. ثانيا لا أتفق على اعتبار العمل سياسيا بامتياز. تبدأ الرواية بالحديث عن رجل تاه، تتحدث الرواية عن علاقات حب متباينة بين 3 رجال و3 نساء (3 أجيال)، كل في زمانه، وكل واحد يجري وراء حب ضيعه في الطريق. ميسور الذي يبحث عن امرأته وسط الدمار الذي خلفته الحرب الاستعمارية الإسبانية، ثم التحالف الإسباني الفرنسي للقضاء على المقاومة الريفية. بنصالح الذي يريد امرأتين في امرأة واحدة، يعذبه أنه لا يعرف ماذا يختار، والمرأة ماريا التي تعتقد أنها اختارت الرجل المناسب… كل يجر وراءه تاريخه الشخصي، وهذا التاريخ يتقاطع مع الظروف المأساوية التي تمر بها المنطقة. أما السياسي فبالكاد يظهر. هل تتحدث الرواية عن الانتخابات؟ لا. هل تتحدث عن الاستفتاء؟ لا.

لا يظهر السياسي سوى من خلال بعض التواريخ الظرفية (الاستفتاء، الانتخابات) لترسيخ الأحداث في زمن معين وواضح، إلا إذا اعتبرنا الحرب حدثا سياسيا. الحروب وجدت منذ وجود البشرية ولن تنتهي إلا مع انتهاء البشرية. الحرب شرط من شروط الوجود البشري.

أما “الريفوبليكا” فهو اسم قديم سابق على الثورة الريفية، يطلق على فترة تاريخية تمتد ما بين حملة القايد بوشتى البغدادي حتى الجمهورية الريفية (1898-1921)، وهي فترة امتازت بوجود سلطة سياسية جماعية وبدرجة عالية من الاستقلال الذاتي على مستوى القسمة أو الخمس لتجنب الحروب التي كانت سنة الحياة بين القبائل.

  • تغطي رواية “ريفوبليكا” فترة مهمة من تاريخ شمال المغرب تعود إلى عشرينيات القرن الماضي، وتحاول النبش عن أصل مشكل قضية الريف وأحداث 1958 و1959 وأول ثورة في تاريخ المغرب بعد الاستقلال، وتعرض المنطقة للتهميش، وتقف على أحداث قريبة تعود إلى الربيع العربي في عام 2011 وتعديل الدستور بالمغرب، وأحداث 2016، فكيف تمكنت من نسج عوالم هذا العمل الروائي الضخم الذي أخذ منك 3 سنوات من الاشتغال من 2021 إلى 2023؟

3 تواريخ، 3 علامات متباعدة في الزمن. شخصيات آتية من ماضيها البعيد. آتية من حروبها القديمة لتطل على حروبنا الجديدة. العالم تغير دون أن يتغير. لم تغادر الحاضر. مناطق عديدة عاشت التهميش لكن الريف مثال صارخ لهذا التهميش. الريف عاش الظروف نفسها التي عاشتها القبائل في جميع أطراف المغرب في بداية القرن الـ20، إلا أن الثورة التي قادها الأمير عبد الكريم الخطابي وانتصارها على الجيوش الإسبانية حدث استثنائي. حدث فريد في تاريخ المغرب ومنه تنطلق الرواية لا لتنبش عن أصل لمشكلة ما، وإنما لأنه كون ذاكرة جماعية ووحد قبائل وهي تضع نصب عينيها هدفا واحدا، بناء مجتمع جديد على أنقاض مجتمع قبلي يسوده قانون الأخذ بالثأر.

هذه الفترة من تاريخ المغرب عرفت استياء عاما. كثير من المناطق عرفت التهميش بعد الاستقلال، ولهذا ظهرت عدة ثورات في الآن ذاته. أحداث تافيلالت 1957 بقيادة العامل عدي وبيهي، أحداث والماس 1958 بزعامة بن الميلودي، ثم أحداث الريف 1958-1959 التي قادها الحاج أمزيان. وهذا شيء مهم بالنسبة للرواية، إذ تتحدث عن الريف وفي الوقت نفسه عن أحداث تتعدى الريف. الواحد الذي يدل على الكل. وكذلك الأمر بالنسبة لأحداث 2011.

  • وهل اعتمدت في هذه الرواية على ما كتب عن المنطقة وأحداثها؟ وهل زرتها لغاية الكتابة لأن ما تتضمنه من وصف دقيق للأماكن والأحياء والشوارع والقرى والمداشر لا يتأتى إلا لأبناء المنطقة؟

لا يمكن الكتابة عن منطقة بهذا الغنى التاريخي والزخم الاجتماعي دون الاطلاع عبر كل الوسائل الممكنة للغوص في أعماق هذا المجتمع القريب مني والبعيد عني في الآن ذاته. عبر الكتب السابقة عن الخطابي، وكتابات محمد أمزيان. الكتاب الضخم المهم الذي كتبه دايفيد مونتغومري عن أيث ورياغر في ترجمة لمحمد أونيا وعبد المجيد عزوزي وعبد الحميد الرايس. أو أميركي في الريف… بالإضافة إلى الدراسات التي أنجزها أبناء المنطقة حول الشعر الريفي والتقاليد الريفية وغيرها. والحديث المتبادل بين أصدقاء من المنطقة والزيارات طبعا. ه

ذا أساسي ولكن ليس هو الأهم، لأن كل الفترة التي قضيتها في الكتابة تمت في البيت وبين الجدران. ما علاقة ما كتبت بين الجدران والأخبار التي جمعت؟ هل ما كتبت حدث في الواقع؟ أعتقد أنني انطلاقا من الواقع الذي سمعت عنه كتبت عن واقع آخر. هل المستشفى الذي كتبت عنه موجود كما وصفته؟ المستشفى والشوارع والمنازل والجبال وألوان الصباح والمساء هي في خيالي أكثر منها في الواقع. الرواية دائما واقع آخر.

  • من خلال مسار الشخصية الرئيسية للرواية “بنصالح” الذي شارك في انتفاضة الريف عام 1958 وسعيه إلى استعادة أراضيه التي صادرتها الدولة، وبحثه عن والده “ميسور” المختفي الذي شارك في حرب الريف في عشرينيات القرن الماضي وقصته مع “زوازنة”، وغيرها من مسارات الشخصيات الأخرى من الأبناء والأزواج والأصدقاء، تحضر في الرواية ذاكرة الريف العصية على النسيان، لأن المنطقة عانت الأمرين من مخلفات الاستعمار الإسباني وعانى سكانها من المجاعة ووباء الكوليرا ومن القصف بالغازات السامة، وأعلنت منطقة عسكرية من قبل المؤسسة الملكية بعد انتفاضة الريف، وتعرضت للتهميش في عهد الملك الراحل الحسن الثاني الذي سبق أن وصف سكانها بـ “الأوباش”. كل هذا تحمله الرواية في قالب إبداعي يجمع بين السياسي والاجتماعي والإنساني من دون أن تلجأ فيها إلى بناء خطي للأحداث. فلم اخترت هذا البناء الروائي لأحداث سياسية ساخنة؟

هذا يعود بنا إلى السؤال الأول. فكرة الرواية لا تكتمل إلا باكتمال شروطها. والشرط الأهم بالنسبة لي هو البناء الروائي. الشكل أو الوعاء الذي سيحضّر فيه الطباخ وجبته. العثور على الوعاء المناسب. وهو ليس شيئا سابقا على الرواية، كما أنه لا يأتي دفعة واحدة. تكتب عشرات الصفحات، وأنت لا تفعل سوى تلمس الطريق نحو هذا الشيء الذي سيأتي في الوقت المناسب، الشكل أو البناء. القبض على الشكل هو الإمساك بروح الرواية، وما زلت لحد الآن أتعجب كيف أنني انتقلت من رواية بحجم الروايات السابقة إلى الحجم الذي صارت عليه. لا أجد جوابا. وفرة المادة وغناها وشساعة المساحة التي تغطيها. ولعي برحابة الفضاءات وجمالها. ربما كل هذا مجتمعا. لو فكرت في شكلها النهائي منذ البداية لا أعتقد أنني كنت سأجرؤ على كتابة رواية بهذا الطول.

  • وفي الرواية أيضا نجد هيمنة للسرد بضمير الغائب، الذي يعد أساس كل صيغ الحكي، واستبعادا للحوار بين الشخصيات اللهم ما نقل على لسان السارد نفسه، فهل موضوع الرواية هو الذي فرض عليكم اختيار ضمير الغائب حتى تحافظوا على صلابتها؟

نقاد ومنظرون كتبوا حول أنواع السرد ودلالاتها. لا نظرية لدي في هذا الصدد. هناك أجزاء كاملة كتبتها بضمير المتكلم. عندما قرأتها لم أجدها مقنعة. شيء ما ينقص. سبق لي أن كتبت عدة روايات بضمير المتكلم ولم تثر نفوري. وجدتها تطابق ما أرغب في سرده. أما هذه المرة فلم أكن راضيا. لم تستقم حتى كتبتها بضمير الغائب. وهذه أشياء لا أفهمها في الحقيقة. هناك ضوء خفي يقود الكاتب ويقول له “هاذي مزيانة هاذي قبيحة”. انا أثق في هذه الحاسة الغامضة وعلى ضوئها أهتدي.

  • بقدر ما يحضر التاريخ والذاكرة في هذه الرواية يحضر الرومانيسك والجانب التخييلي، وهو ما منح الرواية حساسية خاصة وجعلها تنبش في مناطق خفية، وفي ذوات شخصيات مكسورة يسكنها حلم “جمهورية الريف” أو حلم التغيير وتحقيق العدالة الاجتماعية وتوقيف سياسة التهميش عن المنطقة. فكيف تمكنت من الجمع بين التاريخ والتخييل في هذا العمل الروائي الضخم وجعلت من الريف بطلا في هذه الرواية بزخمه التاريخي والجغرافي والسياسي والاجتماعي والثقافي والإنساني؟

تسير في خلاء قاحل، حلقك جاف شفتاك مشققتان، وفجأة تسقط على رأسك قطرة مطر. هكذا تأتي الفكرة. ثم يمضي الكاتب أوقاتا طويلة في نسج شخصياته ورسم جغرافياتها الخاصة والتفكير في رغباتها وأهوائها والطموحات التي تقودها أو تعصف بها. وهي أوقات مشحونة بالتوتر، ممتعة في بعض الأحيان. وبقدر ما تبدو هذه الفترات غنية بانفعالات شتى بقدر ما تكون الأوقات الأولى التي يقضيها الكاتب في تجميع مادته أوقاتا مقلقة وجافة وصعبة لأنه لا يعرف إلى ما سيفضي كل هذا الركام من المعلومات التي تراكمت على مكتبه التي لا رابط يجمعها.

  • تنضاف ثلاثية “ريفوبليكا” إلى سجلك الروائي المتميز الذي قدمت فيه أعمالا روائية انتصرت فيها للهامش والمهمشين، وسلطت الضوء على قضايا مجتمعية وسياسية حارقة بالمغرب كالهجرة السرية والفقر والتهميش وسنوات الجمر والرصاص والإرهاب والتطرف والجماعات الإسلامية وغيرها، فما الملفات أو القضايا التي تسكنك وتشتغل عليها ضمن مشروعك الروائي الكبير عن المغرب؟

الكاتب حسب ما أعتقد لا يملك لائحة مواضيع. ثم إن المواضيع ليست سوى مشجب عليه ينشر الكاتب أسئلة تشغله. نفس الأسئلة دائما. تختلف زوايا النظر إليها باختلاف المواضيع التي يستدعيها الكاتب. يحدث أحيانا أن يحكي لي صديق قصة ما، وهي مثيرة في حد ذاتها ومشوقة، ويختم قوله هذا موضوع روائي بامتياز. قد يكون الأمر كذلك، وقد يجد كاتب آخر في قصته مادة مثيرة تنسجم مع ميولاته الروائية، ولكن القصة التي استعرض فصولها أمامي لا تستوعب أسئلتي.

  • رغم مرور سنة تقريبا على صدور ثلاثية الريف إلا أنها لم تحظ كما هي العادة مع مجموع أعمالك الروائية السابقة، باهتمام كبير من النقاد، ولم ينشر عنها أي شيء في حدود علمي، إلا بعض الأخبار التي تتحدث عن صدور العمل، فهل الأمر برأيك يعود لضخامة العمل الذي يناهز ألف صفحة بأجزائه الثلاثة، أم لحساسية موضوع الريف الذي ما زال لم يحسم بعد في المغرب؟

لا أعتقد أن الأمر يتعلق بحساسية من أي نوع. ربما أن الأمر يتطلب بعض الوقت، ثم إنني لست المعني بهذا السؤال، لأن عملي ينتهي مع نهاية العمل. وما سيأتي بعد ذلك لا يمكن معرفته. ومحاولة التكهن بمستقبل الرواية مضيعة للوقت. الكاتب ينتهي عمله مع صدور العمل. يتمنى دائما أن يلتفت النقاد والقراء إلى عمله. ما عدا التمني ماذا يستطيع؟ يحسن به أن يفكر في مستقبله وينسى كتابه لأن الرواية كيفما كان الحال صارت لها حياة خاصة بها. فلتجرب حظها في العالم الذي سقطت فيه.

  • يلجأ الكاتب إلى الرواية، لأنها تسمح بطرح العديد من الأفكار وتفكيك العديد من المسلمات، كما سبق أن قلت في تصريح لك، وفي الوقت نفسه ليتخلص من هذه الأفكار التي تسمم حياته، لأنها المتنفس الوحيد الذي بقي له، فهل ما زالت الرواية هي ملجأك؟

الحياة عمل شاق، والكاتب شخص محظوظ لأنه يجد كل صباح شيئا يكتبه. لقد أمضى جزءا من الليل يقلب الأفكار حتى نام. ثم ها هو خلف مكتبه لعدة ساعات. وما تبقى من النهار يقول أستأهل هذا النهار لأني قمت بعمل أحبه. أليس هذا شيئا رائعا؟ أليس هذا كافيا؟ مع العلم أنها فرصة غير متاحة للجميع.

  • عدت إلى المسرح عشقك الأول في الفترة الأخيرة وكتبت مسرحية “الحافة” التي أخرجها المخرج المسرحي عبد المجيد الهواس مع فرقة “أفروديت”، تستلهم فيها حادثة سقوط الطفل ريان في البئر، وتسلط الضوء فيها من خلال سقوط وهمي لأحد عمال شركة البناء في الحفرة، على واقع العمال المهمشين وأوضاعهم الاجتماعية وحالاتهم النفسية وتناقضاتهم وآلامهم وأوجاعهم وآمالهم. فهل نأمل في عودة كبيرة لك إلى الكتابة المسرحية التي تفتقر صراحة لنصوص قوية؟

في الحقيقة أعجبني الحال -كما نقول نحن المغاربة- عندما أنهيت هذا العمل بعد مدة ابتعدت فيها عن الكتابة المسرحية. في الحقيقة دون أن أبتعد عنه. لأنه موجود في رواياتي بشكل من الأشكال. خصوصا بالطريقة التي تستعرض فيها الشخصيات ذواتها. أتصورها دائما على خشبة مسرح ما. المسرح لا يضاهيه فن آخر. لا شيء يضاهي أمام جديرة بهذا الاسم.

  • قبل إصدارك ثلاثية الريف “ريفوبليكا” أعدت طبع روايتك “سلستينا” التي سبق لك إصدارها عام 1992، فهل هي إعادة اشتغال على عمل سابق أم رغبة في التعريف بعمل لم يأخذ حقه ربما؟

هي رغبة لدي ولدى الناشر في إعادة طبعه، وذلك لسببين على الأقل. أولاً لأنها كما قلت تقريبا رواية مجهولة صدرت قبل 30 عاما، ولم تحظ بحقها في أن يتعرف عليها القراء. وثانيا بدت لي أن رغبة الناشر أهم ما دام أنه رأى أن إمكانية نشرها متاحة. وقد قرأها صديق لي وقال إنها صمدت أمام سطو الزمن، ولم تغطها طحالب وطفيليات جريان الأيام. وهي أسباب كافية للمغامرة بإعادة نشرها.

  • حظيت أعمالك الروائية بالترجمة الواسعة إلى مختلف اللغات وخاصة باللغتين الإنجليزية والفرنسية، حيث توجت روايتك “فرح” التي ترجمها إلى اللغة الفرنسية فيليب فيغرو عام 2022 بجائزة “كاميليون” للرواية المغربية المترجمة إلى اللغة الفرنسية التي تمنحها جامعة ليون الثالثة بفرنسا، وخصص لك وللمترجم لقاء مع أعضاء لجنة التحكيم قبل تسلمها، فكيف كان هذا اللقاء؟ وما تقييمك لتلقي روايتك من طرف القارئ الأجنبي؟

لتلك الجائزة المسماة “كاميليون” سمة خاصة، وهي أن اللجنة مكونة من 100 طالب، بالإضافة إلى لجنة من الأساتذة. بعد قراءة الروايات المتبارية يعمد إلى الاقتراع السري لاختيار نص من النصوص. وهي ميزة فريدة في هذا المجال حسب ما أعلم. اختيار اسم “كاميليون” عائد إلى أن الجامعة تختار كل سنة بلدا معينا. فبعد المغرب في 2023 كان دور اليابان في 2024. وفيما يخص القارئ الأجنبي أذكر حادثة أثارت استغرابي، هي أنني وقعت نسخا كثيرة للترجمة الإنجليزية لرواياتي في لقاء أدبي عقد بنيروبي في العام الماضي، وقد سرني الأمر كثيرا.

  • وما حظ رواياتك من الجوائز العربية التي وصلت فيها بعض أعمالك إلى القائمة القصيرة؟ وهل تؤمن بمنطق الجوائز؟

الروايات العربية لم يتم الإقبال عليها بشراهة إلا منذ ظهور هذه الجوائز. وانتعاش نشر الروايات يدخل في هذا المضمار، أليس هذا شيئا جيدا؟

  • وهل يمكن أن تطلعنا على مشروعك الروائي المقبل، لأننا نعرف أن الكتابة لديك تمرين يومي لا يمكن لك الفكاك منه؟

هناك عدة أفكار لا تزال تتربص بي. تغريني العودة إلى زمن قديم. القرن الـ14 مثلا. رجال يرتدون سراويل قصيرة ونعال مرتقة. على وجوههم سعادة تخفي تعاسة كبرى. بعيدا عنهم فتيات صغيرات يستسقين ماء ليس من ساقية متداعية أو عين جارية. يحفرن الثلج بأصابعهن المحمرة ليعثرن على الماء. لمن إذن يرتدين دفينات زاهية الألوان، لا مباليات، عيونهن مكحلة وعلى رؤوسهن سبنيات ترسل أهدابها على جباه مص دمها الصقيع.

  • هل هذا كاف لكتابة رواية؟

نعم. هكذا تبدأ الأشياء، وسوف نرى.

شاركها.
Exit mobile version