شهدت بدايات القرن العشرين أحداثا ملحمية فارقة في كل شيء؛ كان منها قيام دول وإمبراطوريات جديدة على أنقاض أخرى بائدة كانت تحوي بين جنباتها دولاً وأقوامًا وشعوبًا، وكانت هذه الشعوب شاهدة على عصرها المتقلّب.

ومن بين هذه الإمبراطوريات تصدّرت الدولة العثمانية الأحداث الكبرى، ولا سيما بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني وسقوط حكمه عام 1909.

وتصارعت أمم كثيرة على تركة العثمانيين آنذاك، وبزغ منهم الإنجليز والفرنسيون والروس، حيث اتفق ثلاثتهم على شرذمتها وتدميرها من داخلها وخارجها.

وعبثًا حاول العثمانيون أن يقفوا أمام قطار التفتيت والتجزئة، ولكنهم فشلوا لأسباب كثيرة منها الضعف العسكري، والمالي، والانشطار الداخلي؛ وقد عاصر هذه الأحداث ضابط عراقي المنشأ، كُردي العِرق كان شاهدًا على أحداث جسام على الرغم من حداثة سنّه آنذاك.

ذلك هو صدّيق القادري، الجنرال العراقي الذي اشتُهر بخدمته في الجيشين العثماني أولا ثم القيصري الروسي ثانيًا، فقد عاش الرجلُ حياة مليئة بالأحداث والتحديات في فترة تاريخية مضطربة.

الوقوع في أسر القياصرة!

وُلد صديق القادري في عام 1894 بمدينة السليمانية، إحدى المدن الرئيسية في كردستان العراق، لعائلة كردية مرموقة تُسمى “الهموند”. كانت كردستان في تلك الفترة جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، وكان التأثير العثماني عميقًا على الحياة الاجتماعية والسياسية في تلك المنطقة.

وفي أوائل القرن العشرين، قررت عائلته الانتقال إلى العاصمة بغداد ليكمل القادري دراسته الابتدائية والإعدادية، وقد أظهر منذ صغره اهتمامًا بالتعليم والشغف بالشؤون العسكرية، مما دفعه إلى الانخراط في المدارس العسكرية العثمانية حيث تلقى تدريبه في المدرسة الحربية في إسطنبول.

وكان الالتحاق بالمدرسة الحربية العثمانية أمرًا شائعًا لدى أبناء البيوت المعروفة في العراق وسوريا من العرب والأكراد، ولا سيما بعد التشجيع الذي لمسوه في عصر السلطان عبد الحميد الثاني.

وفي عام 1914، تخرج القادري ضابطًا برُتبة ملازم قَبل أيام معدودة من اندلاع الحرب العالمية الأولى، ثم عُيّن في الفوج الأول من اللواء 99 في منطقة وان (فان) في أقصى الشرق الأناضولي على حدود أرمينيا اليوم.

ولكن، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وهجوم القوات الروسية التي أعلنت الحرب على الدولة العثمانية بالتوافق مع الحلفاء بريطانيا وفرنسا، سقط كامل الفوج أسيرًا وكان من جملتهم الضابط صديق.

أُخذ الأسير إلى تبليسي عاصمة جورجيا، وهنالك قدر القياصرة رُتبته العسكرية، ورأى التتارُ المسلمون الاستفادة من خبرته في إعادة تنظيم القوات التتارية المنضوية ضمن الجيش القيصري الروسي، فتقرب منهم صديق وتعرّف عليهم، وأصبح بحلول عام 1917 ضمن تنظيماتهم.

وسرعان ما أكمل العمل على تأسيس أول كتيبة من التتار المسلمين في سيبيريا، وتقوية روابط المسلمين الروس من خلال العمل الاجتماعي المؤسسي.

صديق باشا القادري

الجيش الأبيض في مواجهة الجيش الأحمر!

وفي العام نفسه رُقي عدة مرات نظرًا لمهاراته العسكرية والإدارية، وأصبح يتمتع بكافة الحقوق التي يتمتع بها الضابط الروسي، ثم عُين قائد كتيبة مرابطة في ولاية بيرمي في روسيا.

ولكن في تلك الفترة اندلعت ثورة البلاشفة الشيوعية في موسكو وسان بطرسبورغ، ومع مرور الوقت تقدم البلاشفة وتوغلوا في كل مؤسسات الدولة بما في ذلك الجيش، حتى إنهم أعلنوا العصيان في كتيبة القادري وعبثًا حاول صدّهم ولكنه فشل وهرب صوب سيبيريا التي كانت قد أصبحت مأوى لفلول المنسحبين المناهضين للشيوعية.

وكما يقول حبيب خالد الراوي في رصده لسيرة القادري، فإن الرجل ظن أنه تخلص من المشكلات والصعاب ونجا من الأخطار ولكن القطار الذي كان يقله توقف في المحطة الواقعة عند الحدود مع الصين ووجد أنه لا يزال في أرض روسيا البلشفية فصعدت مجموعة من الجيش الأحمر -كما كان يُطلق على البلاشفة وقتئذ- وقبضوا عليه وأودعوه عند ناظر المحطة.

ولكن بعد حديث مع ناظر المحطة تعاطف معه، وقرر تهريبه ليلا حتى عبر الحدود إلى منشوريا الصينية.

وقُرب الحدود الصينية الروسية ذهب القادري إلى لقاء الجنرال الروسي جريجوري ميخائيلوفيتش سيميونوف، أحد أبرز القادة العسكريين في منطقة سيبيريا خلال الحرب الأهلية الروسية، وكان قائدًا لما عُرف باسم “الجيش الأبيض” وهي بقايا الجيش الروسي القيصري الذي أصر على المقاومة والبقاء في وجه “الجيش الأحمر”.

عرض القادري ما يثبت أهليته العسكرية وتعاونه مع الجيش القيصري للجنرال سيميونوف وأركان حربه الجنرال ناتسوالوف، فلما تأكدا من خبرته استعانا به في ترتيب المسلمين الروس عسكريا وتأهيلهم لينضموا تحت قيادة جيش الروس القياصرة “الجيش الأبيض” في مواجهة العدو الأحمر.

وفي هذه الفترة رُقي القادري خلال 3 سنوات من رُتبة عقيد إلى رُتبة عميد نظرا لنجاحه في العديد من المهام التي كُلف بها؛ فقد عين مُديرا لشعبة الآلات والأدوات النارية في الجيش الأبيض.

كان القادري مؤمنًا بضرورة توسيع دائرة مشاركة المسلمين الروس في سيبيريا والقوقاز ضمن الجيش الأبيض، والاستفادة من التتار المسلمين، فأقنع قادته بهذه الفكرة، وأُنشئ لواء الجيش الإسلامي المرابط في سيبيريا، وتم تعيينه قائدًا له.

ويفتخر القادري في مذكراته بهذا المنجز الكبير، فوجود التتار المسلمين في روسيا قديم، كما كانت لهم أدوار بارزة بل كانوا المتحكمين في البلاد لعدة قرون قبل أن يأتي الروس في القرن السادس عشر والسابع عشر ويستولوا على مقدرات التتار.

ولهذا السبب يقول القادري “كان هذا اللواء أول قطعة مُسلحة رآها التتار منذ تقلص حُكمهم في التاريخ”، وأصر القادري أن يصمم علم هذا اللواء بنفسه فكتب على أحد وجهيه “لا إله إلا الله الملك الحق المبين – محمد رسول الله الصادق الوعد الأمين”، ونقش على جوانب العَلم الكلمات التالية: محمد، دين، وطن.

وفي عام 1919، عُين القادري في لجنة المشتريات العسكرية التي زارت اليابان للاطلاع على الأسلحة والذخائر التي قد تفيد الجيش الأبيض في معاركه المستمرة ضد الجيش الأحمر السوفياتي، وهنالك ألقى العديد من المحاضرات في النوادي العسكرية باعتباره رجلا شرقيا، وتكلم عن سياسة الدولة العثمانية وأحلافها، الأمر الذي جعل اليابانيين يهتمون بالتقارب مع الباب العالي.

وعادت اللجنة التي كان فيها القادري إلى الأراضي السيبيرية من جديد لاستكمال مشاركتها في الحرب الدائرة.

وقد حرص صديق القادري على إنشاء الجمعية الإسلامية لمسلمي روسيا والصين، وتوسيع فروعها في مدن الشرق الروسي الكبيرة ومنشوريا مثل جيتا -عاصمة الجيش الأبيض- وخاربين وموقدن وشانخاي وخاباروفسك وغيرها من البلدان.

ويضيف القادري في مذكراته “وربطنا الجميع بمجلس الشورى الأعلى للإدارة الوطنية الإسلامية في جيتا، ولم يتوقف الروس الذين شاهدوا حُسن خدمات اللواء الإسلامي لهم وأعماله الباهرة عن الاعتراف بهذه المطالب والتأسيسات، ولم يتردد القائد العام من أن يتبرع لأول وهلة بـ10 آلاف ليرة روسية ذهبًا في سبيل تقوية هذه التأسيسات وربطها ببعضها ربطًا مُحكمًا”.

وفي الجانب الآخر كان البلاشفةُ يحققون نجاحات كبيرة، ويواصلون الزحف لاحتلال سيبيريا، وأخيرا استطاعوا في فبراير/شباط عام 1920 أن يُسقطوا حُكم الأمير كولشاك الذي كان يحكم هذه المنطقة باسم القيصرية، بل وقبضوا عليه وأعدموه، وعند هذه اللحظة بدأ الجيش الأبيض في تلقي ضربات كبيرة، وتعرض للتفكك تدريجيا، بل وألقى قسم كبير منه السلاح.

وعن هذه الأحداث يقول القادري في مذكراته: “انتُخب المارشال سيميونوف خلفًا للأميرال كولشاك وأُعلنت رياسته الشرعية، وبادر بتأليف وزارة مسؤولة في ما وراء منطقة بايكال (الروسية) واتخذ مدينة جيتا عاصمة لحكومته، وأخذ يُعد العدد المقتضية لإيقاف الحركات البلشفية بكل قوة”.

المحطات الأخيرة للقادري

وأمام هذه اللحظة العصيبة أوفد قادة الجيش الأبيض العميد “كولونيل” القادري إلى المنطقة العربية لجلب الدعم منها، ولإطلاعها على خطورة الجيش السوفياتي الأحمر ودعايته، وكشف أفكاره التي تتبنى الشيوعية ومحاربة الأديان على خلاف النظرة القيصرية التي تصالحت مع الوجود الإسلامي في البلاد.

وبالفعل سافر القادري في مايو/أيار 1920 إلى الجزيرة العربية ليلتقي أهم زعمائها في ذلك الحين وهو الشريف حسين الذي كان يُلقّب بملك العرب وقتئذ، لا سيما بعد الانهيارات الضحمة التي تعرضت لها الدولة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى.

وكانت مهمة القادري عرض ما يحدث في روسيا من حرب أهلية بين بقايا الجيش القيصري والبلاشفة، وخطورة هؤلاء الشيوعيين، ووجوب استصدار فتوى تحذر من خطرهم ليتم إعلانها من قِبَل قادة الجيش الأبيض على عموم المسلمين الروس.

وبالفعل انطلق القادري من سيبيريا إلى كوريا ومنها إلى اليابان ثم ركب سفينة إلى العراق التي زار فيها أهله ثم عرج إلى جدّة التي وصلها في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1920، وهنالك التقى الشريف حسين وعرض عليه كافة التفاصيل، واستطاع أن يحصل منه على فتوى ومنشور بدعم موقف الجيش الأبيض، بل أهداه الشريف بعض قطع من كسوة الكعبة وستار الضريح النبوي.

ثم عاد حتى وصل إلى أوائل عام 1921، وهنالك اتضح له أن الحكومة اليابانية قررت عدم التدخل في الشؤون الداخلية الروسية، وكان هذا الإعلان ضربة للجيش الأبيض والدعم الكبير الذي كان يحصل عليه من اليابانيين وقتئذ.

وأمام هذه التطورات المؤسفة ترك الكثير من القادة العسكريين الروس مناصبهم في الجيش الأبيض وطلبوا اللجوء في العديد من الدول الخارجية، ولم تتبق إلا الفرقة العسكرية الإسلامية التي كان قد أسسها القادري، فأُرسلت لإسناد الجيش المتراجع، وقد اصطدمت بجيوش البلاشفة، وما فتئت أن تَلقّت ضربة قاصمة ومُحيت عن آخرها.

وفي غضون أشهر قليلة استولى الجيش الأحمر على كامل الأراضي الروسية بما في ذلك سيبيريا شرقي البلاد، وبهذا انتهت حقبة القيصرية بصورة نهائية.

كان آخر ما تحصّل عليه القادري من رُتبة عسكرية هي لواء “جنرال”، وقد منحه إياها القائد العام للجيش الأبيض سيميونوف، ولكن بعد فوات الأوان، وخسارة الجيش الأبيض الفادحة.

وبهذه المناسبة، قال له في أثناء التقليد “بناء على خدمتكم الصادقة والممتازة، ونظرًا لما أظهرتموه من الشجاعة والإقدام أنتم وفرقتكم فإن المجلس الوطني قد أنعم عليكم بتاريخ 15 يونيو/حزيران 1920 بإسناد رُتبة لواء مكافأة لما قُمتم به من الأعمال، فأهنئكم يا قادري وأعزيكم في وقت واحد؛ أهنئكم لهذه الرتبة السامية التي يندرُ أن يحوزها غيركم في مثل هذه الحادثة، ولا أجد مناصًا من تعزية رُتبة لواء دون جيش!”.

وهكذا تقلّد القادري رُتبة الجنرال وهو ابن 26 عامًا، شاهدَ في خلالها أحداثًا كبرى على الساحتين العثمانية والروسية!

كان القادري في تلك الأثناء على تواصل بحكم منصبه العسكري في الجيش الروسي القيصري المنهزم، مع البريطانيين. وقد نصحه بعض قناصلهم ألا يعود إلى العراق أو تركيا نظرًا لأن الحرب العالمية الأولى لم تنتهِ بعدُ، وحين انتهت الحرب العالمية والحرب الأهلية الروسية لم يكن له من بدّ سوى العودة إلى دياره.

وفي تلك الأثناء، كان العراق قد انتفض وأعلن الثورة على الإنجليز وأعقبت هذه الثورة نتائج كان منها إعلان الملكية في العراق بتعيين فيصل بن الحسين ملكًا، وإنشاء حكومة للبلاد، وتواري الإنجليز إلى الخلف.

وكان المندوب السامي البريطاني في العراق في تلك الفترة هو السير برسي كوكس الذي حرص على إرسال رسالة للجنرال القادري يسمح له فيها بالعودة للعراق، وبعد مجيئه واستقراره تم تعيينه في شهر سبتمبر/أيلول 1922 مفتّشًا بالإدارة الجديدة في مدينته السليمانية شمال العراق، ولكنه قدم استقالته بعد 3 أشهر وقرر المغادرة والاستقرار في العاصمة بغداد.

وحرص على تدوين تجربته وذكرياته التي مرّ بها منذ تم أسره في جنوب القوقاز والمراحل التي عاشها في روسيا وشهادته على العصر التي اتهم فيه اليهود بإشعال الثورة البلشفية وتدمير روسيا، وشرعت الصحف العراقية في نشر هذه المذكرات في الفترة ما بين عامي 1922 و1924، وفي ذلك العام بالتحديد صدرت المذكرات بعنوان “مذكرات القادري.. بيان الثورة الروسية وإيضاح غوامضها”.

شكّلت المذكرات التي كتبها القادري صدمة ليهود العراق، وشرع بعضهم في انتقاده والرد عليه في صفحات الصحف العراقية يدافع عن بني دينه، وأنهم أبرياء من تهمة إشعال ثورة البلاشفة الشيوعيين، ودعمهم لهدم القيصرية الروسية.

ولما وجد القادري هذه الحملة الشعواء من يهود العراق ضده، خرج يعد بإعلان العلاقة الوثيقة بين يهود العراق وفلسطين ويهود روسيا، وكيف أن الجميع اتحد على هدف إسقاط القيصرية لتوسيع دائرة الصهيونية، وتسريع هجرة اليهود الروس إلى فلسطين.

ولا ندري كثيرا عن السنوات الثلاثين الأخيرة من عُمر الجنرال القادري في العراق الملكي والجمهوري، فقد توفي في أوائل ستينيات القرن العشرين، وقد طُبعت مذكراته وتم نشرها إلكترونيا أخيرا، وهي بحاجة إلى إعادة بعث وتحقيق، فضلا عن أعماله الأخرى التي بحاجة إلى كشف الستار عنها.

شاركها.
Exit mobile version