في الممرات الهادئة للجامعات، التي لا تُسمع فيها عادةً إلا همهمات السجال الفكري، وأصوات طي صفحات الكتب والمراجع، يظهر تحدٍّ أخلاقي عميق يلخصه السؤال التالي: ما الذي يعنيه أن تكون عالمًا أكاديميًّا في عالم يموج بالصراعات؟ وما هي المسؤولية الأخلاقية التي تقع على عاتق المختصين في العلوم الإنسانية إذا كانت مهمتهم تحليل المجتمعات، وتقديم حلول لمشكلاتها، في وقت يعلو فيه صوت السلاح على صوت العقل والعدل؟

شغلت هذه الأسئلة الأكاديمية الأميركية جودي دين، وهي أستاذة في العلوم السياسية بإحدى جامعات ولاية نيويورك، في الأيام التي تلت الهجوم الذي نفذته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والمسمى “طوفان الأقصى”.

جاءت إجابة جودي في مقال نشرته بعد سبعة أشهر من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، بعنوان “فلسطين تتحدث إلى الجميع”. في مقالها كتبت جودي قائلة: “ومن منا لا يشعر بالبهجة عند رؤية المُضطهَدين وهم يدمرون الأسوار التي تسجنهم؟ بل عند رؤيتهم يطيرون إلى السماء فرحًا بحريتهم؟”.

وعلى الرغم من أن الساحات الأكاديمية هي الموقع الأول الذي يمكن أن تُسأل فيه هذه الأسئلة، لم تَرُق أسئلة جودي دين وإجاباتُها التي خلصت فيها إلى أن المقاومة الفلسطينية مقاومة مشروعة تستحق الاحتفاء، لم ترُق لجامعتها التي أوقفتها عن العمل، ومنعتها من استكمال محاضراتها للفصل الدراسي.

فبعد اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، انتقلت الأسئلة الحدية السهلة من الإعلام والمقاهي لتحتل الجامعاتِ التي يُراد لها أن تكون أكثر تجردًا وموضوعية، وأن تُعلي من قيمة النظرة المتكاملة للأحداث، ومن فهم مقاصد الفاعلين، والمعاني وراء الفعل الاجتماعي، حيث يرتبط السلوك بمعنى ذاتي لدى القائمين به.

ومع انتقال الأسئلة الحدية إلى الجامعات، انتقل معها التحيز إلى المواقف الإسرائيلية، لتُفرض رواية واحدة، وليُدان جميع الذين عارضوا هذه الرؤية أو حاولوا تقديم تفسير وفهم موضوعي لما يحدث.

لم يَطَل هذا التنكيل فقط جودي دين، التي اتُهمت بالتعاطف مع حركة حماس، بل شمل عشرات أو حتى مئات من الأساتذة والأكاديميين الذين رفضوا العدوان الإسرائيلي أو أدانوا حرب الإبادة على غزة.

وصل هذا إلى درجة غير مسبوقة، حيث قالت أنيتا ليفي، وهي مسؤولة في الرابطة الأميركية لأساتذة الجامعات: إن ثمة دلائل قوية على أن الولايات المتحدة في بداية مرحلة “مكارثية” جديدة، حيث كانت كل القضايا التي رفعتها الرابطة في المحاكم الأميركية تمثل دفاعاً عن أساتذة تعرضوا للتنكيل بسبب دعمهم للفلسطينيين، وليس من بينهم من يؤيد إسرائيل؛ الأمر الذي يؤكد وجود انحيازات صريحة وواضحة من المؤسسات الجامعية الأميركية لصالح الموقف الإسرائيلي.

وكان عشرات الآلاف من الطلاب قد اتجهوا إلى التظاهر والاعتصام في ساحات جامعاتهم، وعندما تضامن الأساتذة مع طلابهم تم تهديد الأساتذة بالفصل، كما اعتدت الشرطة في بعض الجامعات الأميركية على الأساتذة واعتقلت بعضاً منهم، وفضت الاعتصامات بالقوة، رغم أن المئات من الأساتذة في جامعات أميركية وألمانية كتبوا خطابات مفتوحة عبروا فيها أنهم ليسوا بالضرورة متفقين مع جميع مطالب الطلاب، لكنهم متفقون على حماية حقوق طلابهم في حرية التعبير والتظاهر والاعتصام.

لحظة اعتقال أستاذة في جامعة إيموري أثناء فض اعتصام طلابي يدعو لوقف الحـرب على غزة

لقد كان حراكا عالميا هائلا -سيضاف إلى رصيد وتاريخ الحركة الطلابية العالمية- قاده طلاب عدد من الجامعات الغربية التي كانت مركزًا له، وكشف عن زيف قيم الحداثة والديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان التي تدعيها تلك الدول والجماعات السياسية الحاكمة فيها.

علم الاجتماع في المواجهة

في وقت مبكر، شعر العديد من علماء الاجتماع أن ثمة قيودا جديدة ومخيفة تُفرض على حرية النشر والكتابة، خاصة مع إيقاف بعض الأساتذة في العلوم الاجتماعية، حيث تم توسيع رقعة الحظر والقمع والمنع لكل من يرفض القول بأن هجوم 7 أكتوبر كان مذبحة ضد الشعب اليهودي، بل وصار من يعارض إسرائيل أو الصهيونية علنًا؛ معاديًا للسامية بل وداعما لحماس المصنفة إرهابية في الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية.

لكن موقف جودي دين الفردي، يجعلنا نفكر في المؤسسات الأكاديمية الكبرى التي تضم آلاف الأعضاء، وتسعى دومًا لتطوير أفكارها وتوسيع دوائر المستفيدين منها.

فمثلًا، بادرت الجمعية الدولية لعلم الاجتماع بإعلان موقفها في بيان صدر بعد أقل من أسبوعين من انطلاق عملية طوفان الأقصى. ففي 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أصدرت الرابطة بيانًا يندد بالعنف بين الجانبين، وبخطف المدنيين الإسرائيليين، وبالمأساة الإنسانية للمدنيين “من الجانبين”. وذكر البيان أن الجمعية “تُدين المجزرة التي تَعرض لها المدنيون الإسرائيليون والفلسطينيون”.

وعلى الرغم من أن البيان لم يدعُ صراحة إلى وقف إطلاق النار، فإنه دعا إلى “إنهاء المعاناة الإنسانية في غزة والإفراج الفوري عن الرهائن”.

ويمكن القول إن البيان قدم شيئا جديدا عندما حاول الإجابة عن التساؤل عن أسباب العدوان، وتقصّي سبب قيام حماس بعملية 7 أكتوبر، حيث أحال إلى تقرير قسم الدراسات التاريخية والثقافية والتاريخية في جامعة تورنتو، وكانت تلك الإشارة لافتة، بمحاولة استخدام علم الاجتماع في تفسير مشهد “الصراع العربي – الإسرائيلي”، وذلك بالرجوع إلى ذكر ذلك التقرير الذي نصَ على أنه “من الضروري أن يضع العلماء الحرب الحالية في سياقاتها التاريخية الواسعة، بما فيها سياقات الاستعمار الاستيطاني”.

وتلا ذلك البيان محاولاتٌ جادة ومستقلة لعلماء اجتماع من مختلف الجنسيات، لإصدار بيانات تدين صراحةً العدوان الإسرائيلي، وتعمل على تقديم إجابات علم الاجتماع، وبصورة صريحة، لتفسير هجوم طوفان الأقصى.

وكان أكثرها قوة ما أقدم عليه 1700 عالم ومشتغل بعلم الاجتماع بعد أقل من ثلاثة أسابيع على بدء العدوان على غزة، عندما كتبوا خطابا مفتوحا -يتقدمهم أساتذة في علم الاجتماع من أرقى الجامعات الأميركية- تحت عنوان “علماء اجتماع متضامنون مع غزة والشعب الفلسطيني”، وتجاوز عدد الموقعين عليه 2000 شخص.

استهل العلماء خطابهم بالقول: “إننا نُدين بلا تحفظ أعمال العنف الأخيرة ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، على يد النظام الإسرائيلي”. واختتم علماء الاجتماع خطابهم بالقول: “لا يمكننا الجلوس مكتوفي الأيدي ونحن نشاهد استمرار هذه الحرب والإبادة الجماعية”. وانتهى الخطاب بجملة غايةٍ في الموضوعية التاريخية، وذلك بالقول “إننا ندعو جميع زملائنا إلى الوقوف تضامنًا مع الفلسطينيين وضد الاستعمار الاستيطاني والإمبريالية والإبادة الجماعية”.

ويعتبر هذا البيان الجماعي الأكثرَ قوة وصراحة وجرأة في تاريخ مسيرة علماء الاجتماع بشأن القضية الفلسطينية.

وغَلب على البيان وجود أساتذة أوروبيين وآخرين من بعض دول أميركا الجنوبية، وطلاب وأساتذة عرب، كما وقعه أستاذان يحملان الجنسية الإسرائيلية وهما الدكتور إيليران أرازي، الأستاذ بالجامعة العبرية في القدس، والدكتور إيليران بار إيل، المحاضر في علم الاجتماع بجامعة يورك بالمملكة المتحدة، علاوة على أستاذ يهودي أميركي هو ديفيد فيلدمان، أستاذ علم الاجتماع في كلية أوبرلين الشهيرة بالولايات المتحدة.

وكان عدد كبير من علماء الاجتماع الإسرائيليين قد كتبوا ردًّا على ذلك الخطاب واستنكارا له، متهمين من وقعوا عليه “بالعمى الأخلاقي”، وقالوا في خطابهم: “نحن كأعضاء في جماعة علماء الاجتماع الإسرائيليين نشعر بالحزن وخيبة الأمل من الرسالة الأخيرة التي تحمل عنوان: علماء اجتماع متضامنون مع غزة والشعب الفلسطيني؛ إننا نشعر بقلق بالغ إزاء الغياب الصارخ للاعتراف بالمذبحة الشنيعة التي ارتكبتها حماس في جنوب إسرائيل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول”.

وعقب ذلك الخطاب، ظهرت مجموعة من علماء الاجتماع المقيمين في المملكة المتحدة ممن وقعوا على الخطاب السابق، وأطلقوا على أنفسهم اسم “علماء اجتماع متضامنون مع الفلسطينيين”، وأعلنوا عن أنفسهم في بيان لهم يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بالقول “نحن مجموعة من علماء الاجتماع المقيمين في بريطانيا، ونشعر بقلق عميق إزاء الإبادة الجماعية المستمرة للشعب الفلسطيني في غزة.

هذا البيان هو ردنا على صمت تخصصنا وعلماء الاجتماع، والمنظمات المهنية البريطانية التي تمثلنا، والتردد في إدانة أعمال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية”.

الرد جاء سريعًا من وسائل الإعلام الإسرائيلية التي اتهمت المجموعة بمساندة حركات طلابية عنيفة، كما اتهمتها بمساندة حركة حماس، والدعوة إلى محو إسرائيل من الوجود، ومعاداة السامية.

غير أن بعض الأصوات اليهودية -من علماء الاجتماع الأميركيين- رفضت ذلك النقد، بل وساهم عدد منهم مع آخرين من الكُتاب والأدباء والأساتذة اليهود؛ في إرسال خطاب مفتوح وقّع عليه 1800 فنان وأديب وناشط وأستاذ يهودي أميركي، قالوا فيه:

“نحن كُتاب وفنانون وناشطون يهود نرفض الرواية السائدة بأن أي انتقاد لإسرائيل هو معادٍ للسامية بطبيعته”.

ومع اتساع الانتهاكات الإسرائيلية وتصاعد وتيرة العدوان على غزة، بدأت الروابط والتنظيمات الخاصة بعلماء الاجتماع في كتابة ونشر خطابات مفتوحة للتعبير عن موقفها الرافض للعدوان الإسرائيلي. ففي 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أصدرت الجمعية البريطانية لعلم الاجتماع بيانا تحت عنوان “خطاب علماء الاجتماع حول غزة”.

ورغم غياب عبارات الشجب والنقد المباشر للعدوان الإسرائيلي؛ حيث اعتبر البيان أن الرد الإسرائيلي لم يكن متناسبا مع هجوم حماس، فإن أهم ما ورد في البيان كان محاولة تاريخية لفهم جذور المشكلة، وجاء فيه: “إننا نرى هذه الأحداث باعتبارها جزءًا من النكبة المستمرة التي بدأت في عام 1948، بل وقبل ذلك منذ إعلان بلفور عام 1917 الذي تعهد فيه بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.. لا بد من الاعتراف بأن ما حدث كان نتيجة لكارثة أوروبية مستمرة”.

علماء اجتماع في خدمة الإبادة

كان غائبًا عن المشهد أهمُ رابطة لعلماء الاجتماع في العالم، وهي الجمعية الأميركية لعلماء الاجتماع.

ومن المهم في هذا السياق أن نعيَ الولاءَ المعياري لعلم الاجتماع الأميركي للقواعد الأخلاقية والمعرفية الليبرالية، وما يرتبط بذلك من تشكيل رؤية الباحثين في علم الاجتماع في البلدان النامية، حيث يرتبط العمل في علم الاجتماع الأميركي بصناديق ومؤسسات وحكوماتٍ تمول أجندة البحوث في علم الاجتماع، الأمر الذي يلقي بظلاله على مواقف المشتغلين بعلم الاجتماع وتحيزاتهم.

لكن موقف الجمعية الأميركية لم يكن دومًا صامتًا، فقد صوتت قبل عامين ضد الاحتلال الروسي للأراضي الأوكرانية، لكنها ظلت شهورًا طويلة غير قادرة على اتخاذ قرار للمطالبة بوقف الحرب على غزة.

ففي 22 ديسمبر/كانون الأول الماضي أرسل 125 من علماء الاجتماع الأميركيين -بينهم 6 رؤساء سابقين للجمعية- خطابًا إلى مجلس الجمعية، طالبوا فيه باتخاذ قرار يطالب بوقف إطلاق النار في غزة، وضمان الحرية الأكاديمية لمن ينتقدون السياسات الإسرائيلية.

لم تستجب الجمعية لهذا الخطاب، واكتفت بإصدار بيان في فبراير/شباط الماضي، أعربت فيه عن “القلق العميق والانزعاج إزاء فقدان أرواح المدنيين في سياق العنف المستمر في غزة وإسرائيل، فضلا عن سياقات أخرى من الصراع والمعاناة التي تتكشف في جميع أنحاء العالم”.

ورغم المطالبات الكثيرة باتخاذ موقف صريح ضد حملة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، رفضت الجمعية مقترح المطالبة بوقف إطلاق النار أو طرحه للتصويت بين الأعضاء. وكان أستاذ علم الاجتماع في معهد ماساتشوستس للتقنية، عزرا سيفان، من أبرز المعارضين للمطالبة بوقف إطلاق النار، حيث قاد حملة لإبطال أي محاولة لإدانة إسرائيل.

اعتبر سيفان، أن القرار المقترح ينكر “بشكل مُخزٍ حقيقة معاداة السامية من خلال تصويرها فقط كسلاح يستخدم لإسكات منتقدي إسرائيل؛ الأمر الذي يقوض المكانة الأخلاقية لعلم الاجتماع بين اليهود”. كما رفض بشدة مساواة الصهيونية بالاستعمار الاستيطاني، علاوة على “تجاهل المقترح إنسانية الإسرائيليين من خلال تجاهل الفظائع التي ارتكبتها حماس ضد المدنيين الإسرائيليين”.

كما اعترضت أستاذة علم الاجتماع بجامعة إلينوي في شيكاغو، باربرا ريسمان، على لغة القرار بشأن الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي، وقالت إنه “يمكن قراءته على أنه يعني أن إسرائيل ليس لها الحق في الوجود”. بل إن بعض الأصوات التي دعمت طرح القرار للتصويت، طالبت بالموافقة عليه فقط بعد تعديلات يتم فيها إلغاء أي إدانة للاحتلال.

لذلك، فشلت الجمعية الأميركية في اتخاذ قرار بشأن العدوان على غزة، حيث رفض مجلس الجمعية في مارس/آذار الماضي عرض المقترح للتصويت، وعزا ذلك إلى “الاتجاهات المتنوعة والمختلفة لوجهات النظر بين أعضاء الجمعية، ومن ثم تسعى الجمعية إلى أن تعكس كل وجهات النظر بدون تحيز”. وقد اتفقت وجهة نظر المجلس مع العديد من الأعضاء الذين قالوا إن قرار الدعوة إلى وقف إطلاق النار مسيء لليهود والإسرائيليين.

وقادت مجموعة “علماء اجتماع من أجل فلسطين” حملة واسعة لجمع التوقيعات الموافِقة على مقترح الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وأسفرت الحملة عن جمع توقيعات 581 عضوًا من أعضاء الجمعية، بما يتجاوز النصاب القانوني البالغ 300 توقيع لطرح المقترح للتصويت.

ورغم ذلك، أبلغت رئيسة الجمعية جامعي التوقيعات أن المجلس لن يوافق على طرح المقترح للتصويت، وهو ما يشكل مظهرًا للاستبداد وغياب الديمقراطية داخل أكبر رابطة علمية لعلماء الاجتماع في العالم.

لكن محاولات الضغط الجادة من طرف مجموعة “علماء اجتماع من أجل فلسطين” تسببت في تراجع مجلس الجمعية. وعُقد تصويت إلكتروني للأعضاء الدائمين في الجمعية، والبالغ عددهم 8000 عضو، وكانت النتيجة تصويت 59% لصالح القرار الذي مثّل انتصارًا مهمًّا لنضالات الحركات المساندة لحقوق الشعب الفلسطيني، فقد نصّ على أن “الجمعية تدعو إلى وقف فوري مستدام لإطلاق النار في غزة”، وأنها “تساند أعضاءها في ممارسة الحق في الحرية الأكاديمية، بما في ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، حرية معارضة الاحتلال الإسرائيلي”.

 

إفلاس التنوير

رغم اتساع نطاق الدعم والحراك المؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني، خرج بعض أعلام ورموز علم الاجتماع ليعلنوا انحيازهم التام إلى إسرائيل. فلم يكن أحد يتوقع أن يخرج يورغان هابرماس، آخر من تبقى من كبار مُنظري مدرسة فرانكفورت، أو مدرسة النقد الاجتماعي الراديكالي، ليعلن في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تضامنه مع إسرائيل.

لكن السقوط الأخلاقي الكبير تَمثل في قوله إنه “يتفهم ما تقوم به إسرائيل”، فقد جاء في الخطاب الذي وجهه هابرماس بمشاركة ثلاثة أكاديميين ألمان تحت عنوان “مبادئ التضامن” أن “المذبحة التي ارتكبتها حماس مع النية المعلنة بالقضاء على اليهودية بشكل عام، دفعت إسرائيل إلى الرد.. ولا تنضبط معايير تقييم تلك الأحداث عندما تُنسب نوايا الإبادة الجماعية إلى تصرفات إسرائيل”.

لم يحاول البيان أن يفهم أو يتطرق إلى جذور الصراع ومسائل الاحتلال والاستيطان والتهويد وإبادة وتهجير الشعب الفلسطيني، ولم يشر إليها من قريب أو بعيد، وذلك في الوقت الذي يتأثر فيه بتراث مدرسة فرانكفورت الذي يعتبر المحرقة النازية، أو الهولوكوست، نقطة فارقة في التحليل الاجتماعي.

فمثلا، يقول الفيلسوف تيودور أدورنو، أحد أهم أقطاب هذه المدرسة، إنه “لا شِعر بعد أوشفيتز”، ويعني بذلك أنه لا يمكن لأحد أن يكتب، أو يستمتع بالاستماع، أو قراءة الشعر، بعد المحرقة. ومن هنا جاء نقد أصحاب الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت للعقلانية والتنوير. المفارقة أن هابرماس كان قد رفض جائزة إماراتية عام 2021 بدعوى أنها ضد مشروعه للتنوير، في الوقت الذي يؤيد فيه العدوان الإسرائيلي ويجده مبررًا.

لقد أغرى خطاب هابرماس العديد من علماء الاجتماع الذين يؤيدون إسرائيل، فقد وجدوا في الخطاب وثِقل وزن صاحبه وسيلةً لتأكيد دعواهم حول نفي حدوث الإبادة الجماعية.

وحتى بعض أساتذة علم الاجتماع الذين يدركون حجم المعاناة والانتهاكات غير المسبوقة للفلسطينيين في غزة؛ لا يبالون بالجذور التاريخية للصراع، وهو ما أكده أستاذ علم الاجتماع في جامعة ميريلاند الأميركية، فيليب كوهين، عندما قال “لا أحب أن أضع تاريخ إسرائيل وفلسطين في إطار سياسي باعتباره صراعًا بين الاستعمار والسكان الأصليين”.

ولعل صحوة الآلاف من علماء وباحثي علم الاجتماع المستقلين تكون علامةً مضيئة في تاريخ العلم رغم التكلفة والتضحية الكبيرة، وهو ما كان رائد الدراسات النقدية في سبعينيات القرن العشرين، ألفن غولدنر، يسعى لتحقيقه عندما قال إن على عالم الاجتماع “ألا يسأل نفسه عن الجانب الذي ينتمي إليه، بل عن القيم الأخلاقية التي يدافع عنها”.

ولعل هذه الصحوة تنطبق على عالم الاجتماع البريطاني الشهير، ميشيل بوراوي، الذي شغل منصب رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع (2010-2014)، عندما سأل بجرأة واضحة: “هل نستطيع أن نقارن بين معاناة اليهود الإسرائيليين ومعاناة الفلسطينيين؟ وهل قتلُ 1200 يهودي وأسر أكثر من 200 رهينة يعادل المذبحة العشوائية لأكثر من 35 ألف فلسطيني، واحتجازهم في غزة، والتهجير التراكمي الذي بدأ في عام 1917 حتى عام 1948؟ وهل يبرر ذكرى محرقة واحدة والخوف من محرقة أخرى إبادة عرق آخر؟ وإذا كان علماء الاجتماع يدينون المحرقة، فكيف لا يدينون النكبة التي استمرت 75 عاما؟”.

يبدو السؤال عصيًا على الإجابة، فقد أدان علماء الاجتماع كل مآسي عالمنا الحديث، بداية من المحرقة النازية، والعنصرية ضد السود، وحرب فيتنام، والعنف ضد المرأة، ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وليس انتهاءً باحتجاجات هونغ كونغ عام 2019، أو مظاهرات إيران عام 2022. أما في غزة، فيبدو العديد من علماء الاجتماع مستعدين لتبرير الانتهاكات الإسرائيلية هناك بلا تردد، وهذا ما يقودنا إلى سؤال آخر: هل يحمل علم الاجتماع قيمة أخلاقية في ذاته؟ أم أنه سلاح -كغيره- يطوّعه المستبدون ومؤيدو الإبادة، ورعاة العنصرية، لتحقيق أهدافهم بلا إراقة مباشرة للدماء؟

شاركها.
Exit mobile version