بيزنس الثلاثاء 12:25 م

هذا لقاء تأخرت كتابته لشهور. كان فيه من الوجع فوق ما يحتمله العمل الصحفي، ومن القتامة ما تضيع فيه أضواء الصنعة، ومن العبثيّة ما تضل فيه بوصلة الهادي. ناولني محمد برو الرجل الستيني، الذي دخل السجن قبل أن يودع الطفولة، وخرج منه وقد عانق الثلاثين، ناولني كتابه الذي يحوي مذكراته في سجن تدمر، فأخذته بيميني وأودعته مكتبتي بشمالي، دون أن ألتفت إليه.

لسبب ما غير مفهوم، انجذبت لقراءة أدب السجون في سنوات الجامعة، وقرأت منها عددًا صالحًا، لكن ما لم أحتمله هذه المرة أن أقرأ عذاباتِ صديق قريب أسمرُ معه كل مرة أزور فيها إسطنبول. حينها يكون الوجع شخصيًا لا مجرّدًا.

طلبت منه أن نلتقي لأسمع منه قصته بصيغة ملطفة، دون قصص الهول، والرعب التي تشي بها قصة مراهق قرر سجانوه أنه أصغر من أن يٌقتل، وأكبر من أن يخلّى سبيله، فأقاموه في العذاب الأليم لأكثر من عقد من الزمان. سجلتُ اللقاء صوتيًا، ثم تشاغلتُ عن تفريغه، وتحريره، لفرط قسوته، وبشاعة فحواه. وهذا تحذير للقارئ الذي تزعجه الكلمات الداميّة، عليك بالتوقف هنا.

أجلس اليوم في بهو فندق الشيراتون بمدينتك حلب لأرقن على جهازي هذه المادة على مقربة من مكان اعتقالك. دون أن ألتفت خلفي، خوفًا من ضباط الأمن والمخبرين؛ لقد انتهى البعث، مات حافظ الأسد، وفرّ بشار. وأنا أجلس اليوم بجانب “باب الفرج” لأكتب قصتك. هذا نمط من العدالة الشعرية يغري بالتوثيق، وقد صار الألم محتملًا لحكاية قطعة من العذاب بعد الحصول على نهاية سعيدة.

 

“كل السجون في العالم مكان للحبس يطل على الحياة، إلا سجون الأسد فهي نوافذ على الجحيم”

 

في ساعة متأخرة من الليل من شهر أغسطس/آب الساخن عام 1980، في قلب صحراء تدمر، تقف سيارة نقل السجناء الذين تكدسوا في صندوقها كما يُرص سمك السردين. رائحة العرق والدماء والخوف تزكم أنف الفتى المدفون بين أجساد السجناء، والذي لم يكمل مرحلة الثانوية بعد. نقلتهم صيحات الجنود وشتائمهم وعصيّهم بسرعة إلى مدخل السجن الذي وصفته منظمة العفو الدولية في تقرير صدر عنها في عام2001 بأنه “مصمم لإنزال أكبر قدر من المعاناة والإذلال والخوف بالنزلاء.”

ارتدّ ضوء السيارة على لوحة في مدخل السجن غلبت صفرة الغبار على بياضها وكتب عليها بخط رديء “الداخل مفقود والخارج مولود”. كانوا يمارسون قتل الروح بكل وسيلة متاحة، حتى عبر اللوحات الإرشادية!

أحاط السجّانون بالفوج القادم؛ مئة نفس من شتى الأعمار؛ بين من ثنى الزمن طوله، ومن انتصب ولمّا تقوّسه الأيام بعد، بين شيخ ستيني، وطفل لم يتجاوز السادسة عشر بعد، وقفوا ينتظرون عذابهم..

رفع أحد السجّانين يده بكابل حديدي وهوى به بكل قوّته على جسد شاب طويل مفتول العضلات، فرأى السجانون في حركته إشارة لبدء حفلة التعذيب، فانهمرت العصيّ والكابلات والسياط على الضيوف الجدد. كان خلدون زميلًا لبرو في الثانوية وأكبر منه عمرًا، وقد أغرت ضخامة جسمه ولمعة التحدي في عينه أحد الجلّادين بأن يخصه بقسط وافر من العذاب. خطرت فكرة جنونيّة بذهن خلدون؛ حيث قرر ألا يصرخ وألا يطلب الرحمة من جلّاده وألا يظهر له ضعفًا كما جرت العادة، وكان تصرفه هذا كقطعة قماش حمراء حُركت لثور هائج. أخذ الجلّاد يضرب بجنون، مستفرغًا كل طاقته، حتى حين توقفت سياط الجنود عن المجموعة، ظل مستمرًا ممعنًا في الإيلام، ومع تهتك جسد الشاب العنيد، وجريان دمه بغزارة وانتثار قطع من لحمه على الأرض، لم يفلح السجان في كسره. فجأة صدرت صيحة هائلة لكنها لم تكن من خلدون بل من جلّاده الذي اشتعل غيظا وأخذ ينزل بالكابل على وجه خلدون ويكرر كل مفردات البذاءة والكفر، حتى ارتخى جسد الشاب وفارقته الروح.

سكنت الساحة فجأة إلا من الأنين المكتوم والنفس الصاعد إعياء من الجلّادين، حين دخل مدير السجن ورأى المشهد، فصاح الضابط في الجنود.

“من قتله؟”

لم يجب أحد.

أعاد السؤال، فارتفعت يد الجلاد بتردد “أنا سيدي!”

اتجه الضابط إليه بخطى حثيثة، وقال له مصعّدًا فيه نظره “بشرفي، إذا بتعيد هذي البياخة مرة تانية، بحلق لك شعرك! انقلع من هون”

وقتها، أدرك الفتى الذي ينتفض خوفًا وألمًا أن حياتهم داخل هذه الجدران لا تساوي شعرة في رأس سجان بغيض.

صيف 2024

“لقد وصلت إلى المقهى” أرسلتُ في 1:57م لمحمد برو (أبي سلام)، الذي يمكنك أن تضبط نبضات قلبك على ساعة مواعيده.

“قريب، في الطريق إليك” رد مباشرة.

في 1:59 ملأ باب المقهى المزدحم رجل طويل، بذقن حليق، وشارب مهذّب، وشعره الأشقر الذي عملت فيه السنوات عملها فتساقط على طريق العمر، وصفف ما بقي منه تصفيفا لائقًا. كان أبو سلام بعمر نظام البعث حين سقط وتحرر منه السوريون 61 عامًا. أدار عينيه الزرقاوين في المقهى المكتظ فرآني ألوّح له من طاولة في منتصف المقهى. أومأ إليّ بمعرفة مكاني، وتوجّه لطلب فنجانيّ قهوة اسبريسو الطلب الذي اعتاد على تقديمه لي سواء في داره أو في المقاهي التي كانت تجمعنا.

“نعيمًا، يبدو أنك قادم من الحلّاق!” قلت له بودّ

“لا أذكر متى أخر مرة لجأت فيها إلى الحلاق، لا أسمح لأيدي الغرباء العبث بوجهي، هذا من اختصاص أم سلام، فالزوجة الصالحة هي القادرة على تزويق وجه زوجها كما تزوّق الأطباق التي تملأ بها بطنه” قالها بنبرة بين الجد والمرح، وهو يقرّب فنجاني ويرجع كرسيّه عن الطاولة ليفسح لساقيه الطويلتين هامشًا للمناورة.

بابتسامة عريضة، قلت له: حسنًا، لنبدأ من البداية، متى ولدت؟

“في عيد العمال عام 1963.”

الفاتح من مايو/أيار؟ عقبتٌ مستفهمًا

“عفوًا هذا تاريخ اعتقالي، ولدت في التاسع من يونيو!”

متى يولد الإنسان على الحقيقة، يوم مفارقته للرحم أم ساعة إدراكه لحقيقة الشر في الحياة. تساءلت بصمت.

  • تنحدر من عائلة حلبيّة أليس كذلك؟

“لسنا عائلة حلبية في الأصل، بل لنا أصول تركية من حارم، ووالدتي من منبج. انتقل والدي إلى حلب، وكان جدي ابن قائمقام تركي أصله من غازي عنتاب. ليس لدينا ورقة بهذا وإلا كنا أخذنا الجنسية التركية بسرعة” قالها بضجر من أنهكته البيروقراطية التركيّة على مدى عشر سنوات، بعد ترشّح اسمه للحصول عليها.

“برو تصغير ابراهيم، إذا زرت قرى الأكراد والتركمان والأرمن، ستجد هذا التصغير مستخدمًا. نشأتُ في حي الميدان بحلب، حيث الغالبية مسيحيون، وفيه أكراد وآشوريين وسريان، لم يكن للأقليات لون أو طعم قبل نظام البعث، كان الناس يتعاملون بود كأهل البيت الواحد. هل حدثتك من قبل عن أوسكي؛ سيدة أرمنية كانت بمثابة أم ثانية بالنسبة لي. لا تفوت مناسبة إلا وتتواصل معي، مهنئة أو معزية، وكانت سخية بالهدايا. حين اعتقلت كان نساء الحارة من كرديات وشركس من اكثر الناس تضامنًا مع والدتي”

في مارس 1963، قبل مولد محمد برو بثلاثة أشهر، قامت اللجنة العسكرية في حزب البعث السوري بالاستيلاء على السلطة عبر انقلاب عسكري على ضد الرئيس ناظم القدسي والحكومة المنتخبة برئاسة خالد العظم. ولمعت أسماء الضباط المخططين للانقلاب؛ محمد عمران، صلاح جديد، وحافظ الأسد. وأعلنت حالة الطوارئ مع قدوم البعثيين والتي ستستمر إلى 2011. عيّن صلاح جديد رفيقه حافظ الأسد وزيرًا للدفاع. وبعد سبع سنوات في 1970، قام حافظ الأسد بالانقلاب على صلاح جديد والانفراد بالحكم في سوريا، لتبدأ حقبة عائلة الأسد.

  • ولدت في السنة التي ولد فيها البعث، هل كنت واعيًا على انقلاب حافظ؟

“أذكر مشهدًا واحدًا كنت في المدرسة ودخل أزلام النظام، وضربوا الأساتذة الناصريين، ما زال منظر المدير وهو يهان ويضرب ضربًا داميًا، ماثلًا أمامي”

  • ما هي التغيّرات التي طرأت على حياة السوريين بعد حكم حافظ؟

“أشياء كثيرة، لكن بالنسبة لي، ستتغير حياتي بسبب كومة أوراق، اسمها النذير!”

تقصد المجلة التي تصدرها الطليعة المقاتلة؟
“نعم مجلة النذير، كان يطلق عليها مجازا مجلة؛ كانت 16 صفحة، أربع ورقات مثنيات من قياس A4  ومطبوعة بطرق بدائية. كانت توزع على أعتاب البيوت ليلًا. تفيق الناس الصبح، وتفتح الباب فتجد المجلة. لكن حيازة المجلة كان يعد فعلا ثوريا.”

  • على أي شيء تحتوي أعدادها؟

” تحكي عن عمليات الطليعة المقاتلة وعن فضائح النظام. وواقع الأمر في سوريا”

  • ما علاقتك بها؟

“لا علاقة لي، أنا مثل المسيحي الذي فتح باب منزله ووجد المجلة، فأخذها. لا علاقة لي بالإخوان ولا بغيرهم من الأحزاب، لكني كنت متحمسًا للمجلة فوزعتها على الزملاء، وصل الخبر لمدير المدرسة، فاستدعانا الثمانية، وقال لنا هُجرًا، ووعد بطيّ الموضوع، لكنه لم يطوَ، رجع إلى نفسه، فقال أنا أم هؤلاء الفتية؟ فاختار نفسه. وبلغ مسؤوله الأمني.”

عاد وكأنه رأى في عينيّ احتقارًا لمدير يضحي بطلابه، فعلّق:

“كان رجلا وديعا، أظنه فكر أن الأمر سيتوقف عند كم كف لهؤلاء الفتية وينتهي الأمر. لم يتوقع أحد بسوريا أن النظام بهذه الوحشية” مد يده إلى فنجان القهوة وانهاه في ارتشافة طويلة.

هل أطلب لك فنجانًا آخر؟

“لا، هذا هو الفنجان الخامس اليوم، شربت أربعةً في البيت قبل أن أخرج إليك” أخرج غليونًا خشبيًا أنيقًا، من حقيبته الصغيرة التي ترافقه دائمًا، وكيسا من التبغ، عمّر غليونه، وأشعله منكّسًا القداحة مصوبًا لها على فوهّة الغليون، وبرشفاتٍ متتالية بدأ الدخان يتصاعد منه.

“اعتقلوا اصحابي السبعة من المدرسة، وكنت أتغيب كثيرا، كنت أظن أن السنة لن تكتمل، كانت حلب تغلي. اختفيت اسبوعا، وظننت أني صرتُ آمنًا فعدت إلى البيت “

 

في يونيو/حزيران عام 1979 قام النقيب إبراهيم اليوسف ضابط التوجيه المعنوي في مدرسة المدفعية بحلب، ومجموعة من الطليعة المقاتلة بإطلاق النار على عشرات المجندين من الطائفة العلوية الملتحقين بالمدرسة. كانت هذه الحادثة كرد فعل على سياسة نظام حافظ الأسد في تطييف الجيش وتصعيد الطائفة العلوية وتحييد الأغلبية السنيّة. حيث ركّز الأسد على تمكين طائفته من قوات الجويّة والمدفعيّة لتصبح قوة موالية ضاربة لأي محاولات لتهديد نفوذه في الجيش.

ارتكب النظام بعدها عدة مجازر انتقامية في حصاره لحلب لمكافحة الحراك الشعبي الذي قادته جماعة الإخوان المسلمين، وكانت النتيجة مقتل نحو 2000 مدني، واعتقال نحو 10000 مواطن.

الاعتقال

“استيقظت فجرًا على نخز البارودة الروسية على خاصرتي. فتحت عينيّ لأجد أكثر من ثلاثين عنصرًا من المخابرات يملؤون الدار الصغيرة، كان والدي يقف وسط إخوتي الخمسة ويحاول أن يقنع الضابط أن يذهب معي إلى قسم الشرطة، كان والدي دركيا فرنسيًا

حين دخلت للفرع، قال لي الضابط: أرجو أن تعترف لا نريد أن نؤذيك احترامًا لوالدك، لقد اعترف أصحابك السبعة بكل شيء.”

 

واعترفت؟

“لا يوجد شيء أعترف به، قلت لهم إني أخذت المجلة وشاركتها مع الزملاء، ولا علاقة لي بأي تنظيم.”

“في غرفة مصمتة مشمعة بالموكيت من كل مكان، رائحة الدم والقيح والعرق تملأ المكان، والضابط يختار أعنف الطرق للوصول إلى الجواب، وصراخ الغرف الأخرى يرن في أذني، دائما ما يتم التحقيق ليلا. كانوا يسألونني عن شخص تاسع، حتى يضموه إلينا. كان اسمه يوسف فلاحة. بعد خروجي من السجن سيأتي ليشكرني، ويقول لي: لقد وفرت عليّ سنوات من العذاب الأليم. وكان قد جاء لأهلي من قبل، وقال لهم لقد نجوت بسبب شهادة ابنكم. لأنه نفى أي علاقة بيننا”

 

  • إذن هناك طريقة للنجاة إذا لم تثبت عليك التهمة، أليس كذلك؟

 

“لا توجد تهم في نظام الأسد كانت الناس تعتقل على الشبهات، مهما دقّت. كان الهدف اعتقال أكبر قدر من السنة في حلب، انتقامًا.

خذ مثالًا على هذا، في الشهر السابع من عام 1980 أُخذَ أحد الشباب كرهينة ليسلم أخوه المطلوب نفسه، في الشهر الثامن قتل أخوه المطلوب في شوارع حلب. وبدل أن يطلقوه لانتهاء سبب حبسه، بقي 13 عامًا!

لقد أخذوا هذا الطريق لإرهاب السوريين، وقد نجحوا، إلى اليوم حين نجتمع نحن السوريين فنذكر النظام، نهمسَ همسًا وكأن جنديّ المخابرات قد وضع أذنه على الباب!”

لم يدر بخيال أبي سلام أنه بعد أشهر من مجلسنا ذلك، سأفتح كتابه في مقاهي حلب، وأناقش الوضع السياسي للفصائل الثورية في مطاعم الشام، وبدون أي خوف!

 

  • وماذا فعلوا بكم؟

“بعد 18 يوما من التحقيق نقلونا الى سجن حلب المركزي كانت معاملة معقولة، وقتها حدثت مدرسة المدفعية. بعد انتهاء العملية في مدرسة المدفعية في الشهر السادس تبين لهم أن النظام يستطيع أن يقتل من يشاء، فبدأت حفلات التعذيب.”

لماذا يعذبونكم؟ هم لا يبحثون عن معلومات جديدة منكم!

نظر إليّ نظرة عطف وكأن سؤالي كان مغرقًا في البراءة وقال: “البحث عن المعلومات ينتهي في التحقيق، كان التعذيب في السجن للانتقام ولإشباع أرواحهم السبُعيّة، التي تنتعش برائحة الدم.

أخذوا بتعريتنا في آخر الليل، وإنزالنا إلى الساحة التي فرشها الحصى الحاد، والشوك المسنن، وأخذوا بسحلنا، وجر أجسادنا في الساحة”

وإلى أي شيء خلص التحقيق؟

 

“نقلونا إلى تدمر في صيف 1980، ومنه أخذونا بعد شهر في سيارة مصفحة إلى المحكمة، كدسونا 25 شخصا في الصندوق، وحين وصلنا إلى فرع الأمن، صفونا صفًا، وكان كل من يمر بنا يوسعنا ضربًا.

“هذه طبيعة الأمور، مثلما تدخل إلى المسجد فتسبح أو تصلي ركعتين، كانت تحية العسكر لإثبات ولائهم إيذاء السجناء بكل وسيلة.

دخل رفاقي واحدا تلو الآخر، وبقيت أنا أخيرًا. أدخلوني للغرفة الصغيرة، كان القاضي سليمان الخطيب، والذي توفي قريبا، يجلس على طاولة خشبية رديئة. يوقفون المتهم أمامه على بعد ثلاثة أمتار، وبطريقة آلية يقول: أنت فلان الفلاني؟ تجيب نعم. فيقول تهمتك: كذا. وحكم عليك بكذا. ولا يسمح لك بأن تنطق بحرف.

 

“محمد برو؟

نعم.

تهمتك: كتم معلومات وحيازة مجلة النذير.

محكوم: إعدام.

لا أدري كيف انطلق لساني بهذه الكلمات حين سمعت الحكم: كتّر خيرك! لم أصدق، ظننته يخوفني.”

كتم معلومات؟ تساءلت باستغراب

“نعم، كان من المفترض أن أذهب للمغفر وأبلغ الشرطة  بأني عثرت عليها.” حين رأى علامات الاستغراب، استرسل قائلًا

“كتم المعلومات، في كتاب العقوبات لمحمد الفاضل وهو المرجع القانوني للبعث، والذي اغتالته الطليعة المقاتلة نهاية عام 1979كان ينص على أن العقوبة القانونية لكتم المعلومات في زمن الاضطرابات هي الإعدام. كان هذا الحكم منصوص عليه في اللوائح قبل ميلادي بعشرين عامًا.

عاد الفتيان إلى السجن وهم في ذهول تام، هل سندفع حياتنا، من أجل تناقلنا لكومة أوراق؟ أي عقل يستطيع أن يحمل هذا الظلم!

“بعد ثلاثة أيام طلبوا دفعة ثانية للمحاكمة. وطلبوني معهم، فقيل للضابط هذا قد حوكم، فقال له: مو شغلك هاتوه.أخذني غازي كنعان رئيس الأمن العسكري بحمص من إذني، ودخل بي على القاضي. قال له: هذا ابن …. تحت السن القانوني لا يصلح له حكم الإعدام. فقال القاضي: خففنا لك الحكم: عشر سنين، انقلع!”

“بعد شهر ويومين، كان أصدقائي السبعة يطلون على الدنيا من علوّ، وقد عُلقوا على المشانق. لأنهم كانوا مواليد 1962، أي أنهم أكبر مني بسنة!”

 

لا أفهم هذا العنف، لماذا كل هذا. ما أعرفه أن العنف يخدم غاية، وهي أن يشعر المواطن أن القوة دائمًا مع الحكومة، وأن التجرؤ عليها مهلك. لكن هذا الكم من العنف لا معنى له ولم أستطع استيعابه.” قلت بصوت عالٍ لفت إليّ وجوه الجالسين حولنا.

“كان حافظ الأسد أقلويًا، كان يعيش في أقلية في قلب أقلية، كان يريد أن يكوي وعي 80 % من الشعب السوري السني، ويقنعهم أن مجرد التفكير بالتجرؤ عليه، نهايته وخيمة. بالمناسبة، كان حافظ حريصا على متابعة ملف الإخوان المسلمين بنفسه، وكان ملف التطورات على مكتبه كل صباح، هذه معلومات نعرفها من داخل القصر. كل عمليات الإعدام وبعض حفلات التعذيب الدموية كانت تصور له!”

“رأيت آلات التصوير الضخمة في السجن عدة مرات. ثم إن لدينا أصدقاء من حزب العمل الشيوعي، ينقلون عن أخوتهم الضباط العاملين في القصر الجمهوري مثل هذه المعلومات. هذه معلومات وليس استنتاجات” قالها بصيغة جازمة”.

  • كم كان عدد السجناء في تدمر؟

“7000 أو 8000، لكنهم كانوا يعتمدون على سياسة الباب الدوار.”

  • وما سياسة الباب الدوار؟

“يعدمون 400 ويعوضونهم بسجناء جدد. السجناء يتجددون باستمرار!”

أعرف أنك بقيت في تدمر لثماني سنوات، وكان التعذيب عادةً يومية، لكن اسمح لي أن أسألك عن أشد فترة مرت عليكم في السجن.

دون أن يفكر ويستعرض سنوات عذابه الطويلة، أجابني مباشرة: “كان أشدها مع قدوم غازي الجهني، مدير السجن الذي جاءنا من الجحيم. في عام 1982 هرب بضعة عشر سجينًا من فرع المنطقة في دمشق، ولم ينجُ منهم سوى اثنين، وأسر اثنان، وقتل البقية في شوارع دمشق. حينها قررت الحكومة تغيير هيكلة السجون، وجاءنا مدير جديد. كان نصيب الفرد منا من الأسواط يتراوح بين 100 و150 جلدة يوميا. وحين جاء الجهني صار المتوسط 500 جلدة، وقد تصل إلى 1000 جلدة إذا كان مزاجه غائمًا”.

  • هل يألف الانسان العذاب؟

“لا يألفه، لكن يخف هوله. في التعذيب أهم ما يؤذي ليس وقع السياط على الجلد، ولكن الهول الذي يصحبها. والسجان البارع هو من يحسن ضبط إيقاع الهول دون أن يختلّ رتم العذاب. فلا بد من المحافظة على المفاجأة وكسر التوقع؛ لإبقاء النفس البشرية قلقة. حين تخرج يوميا وتعرف أنك ستجلد 500 جلدة، ستعتاد الأمر، ويذهب الهول. لكن حين تجلد 100، وتخرج اليوم الثاني وتجلد ألفًا، أو تجلد حتى الموت. هذا الفارق هو مقياس الهول!”

  • هل اعتللت نفسيًا، أعني هل أنكرت نفسك من شدة الأذى الذي أصابك؟

“أبدًا، كان التحصين الإيماني عاليا جدا، وكان القرآن ملجأنا. متوسط ورد المعتقلين منا خمسة أجزاء يوميا، إضافة لما نسمعه من الأحاديث النبوية والمواعظ”

 

  • وذلك الإيمان الحصين، دخلت به إلى السجن أم وجدته فيه؟

“لا يمكن أن يوجد هذا المستوى الإيماني خارج السجن، وحين خرجنا من السجن لم يبق معنا على نفس الوتيرة”

  • تشغلني نفسية السجان ورغبته في التعذيب بقدر ما تشغلني قدرة السجين على تحمل الأذى. لماذا لم يتعاطف معكم أحد منهم؟

 

“في التعذيب قوة إدمانيّة. ولذلك كان بعض الجلادين يتجاوز الحد المسموح به، وهو يعرف أنه سيتلقّى عقوبة على عدم تقيّده بالتعليمات. غريب هذا المخلوق المسمى بالإنسان. لقد أشكل الإنسانُ على الإنسان، أليس هكذا يقول صاحبنا [أبو حيان] التوحيدي؟.

على كل حال، كان السجن قديمًا اصطبلات لخيول الجيش الفرنسي. تتكون من سبع ساحات. في كل ساحة عدة مهاجع وعدد المهاجع 40 مهجعًا. كنا في المهجع رقم 31 في صدر الساحة السادسة، التي كانت تطل على الساحة التي تنصب فيها مشانق الإعدام. وكنا نرى عمليات الإعدام من ثقوب الباب.

لا أنسى أحمد السباعي، السجّان الوحيد الذي أبدى شيئَا من التعاطف معنا. كان يفتح باب المهجع سنتمترات قليلة بقدر ما ينفذ صوتُه إلينا، ويقول همسًا: بيفرجها الله يا شباب. كانت كلماته مائدة تعاطف عظمى بالنسبة لنفوسنا المحطمة.”

بعد قضاء ثمان سنوات في سجن تدمر، تحول برو مع مجموعة من السجناء إلى سجن صيدنايا.

  • كيف كان صيدنايا مقارنة بتدمر؟

“من المعيب أن نعقد مقارنة بين صيدنايا وتدمر، لقد أنشئ سجن صيدنايا للمنظمات الحقوقية والزيارات الرسمية! لقد كان الموت أعظم أمنية لنا في تدمر، بينما كان الأمر في صيدنايا أفضل بكثير. كانت كميات الأكل كافية في صيدنايا. يعني فرق حين تفطر بثُمن بيضة في تدمر، وببيضة كاملة وحبتي زيتون في صيدنايا!”

في عام 1993 أفرج عن محمد برو، وخرج للعالم ، وفي الثامن من ديسمبر 2024 سقط نظام البعث وتحررت سوريا من حكم الأسد. كشف سقوط الأسد عن عشرات السجون والمقابر الجماعية التي حوت واحدة منهن فقط مئة الف جثة وما يزال أكثر من ثلاثمئة ألف مغيب قسريا قيد البحث عن بقايا رفاته.

وضعتُ جهازي المحمول جانبًا، حين فرغتُ من كتابة المادة، وأمسكت بهاتفي، لأرسل رسالة لأبي سلام.

” أكتبُ لك من مدينتك الجميلة، حلب، وأريد أن أسألك، لقد ولدت مع ميلاد البعث، وها أنت تعيش -كسوري- لتدفنه في ذاكرتك. كيف شعرت وأنت تتابع خبر هروب الأسد من سوريا؟”

بعد ساعات، وصلني جوابه
“أهلًا أبا خالد، عليك أن تتعشى الليلة في مطعم وانيس، وأحضر الفاتورة معك لنحاسبك على الضيافة.

نعم ولدت مع ميلاد البعث وعشت حياتي في أسرة تكره البعث من لحظة ميلاده فقد كان أبانا الذي في السماء خالد برو عليه السلام ناصري الهوى مضطهدا من أزلام البعث.
أعادتني لحظة سقوط نظام بشار الأسد إلى لحظة تناظرها منذ 24 سنة حين بلغني خبر موت حافظ الأسد.
أمضيت شطر عمري وأنا أحلم بهذه اللحظة التي ستغمرني بالفرح. لكن خيبتي في تلك اللحظة كانت أكبر من تخيلي لها. كنت أتوقع أن تشتعل البلاد فرحا بموت ذلك الطاغية وأن أقفز مجنونا من البهجة، لكن الذي حصل ساعتها شيء لم ترق إليه مخيلتي. فما أن أذيع الخبر حتى خلت شوارع مدينتي حلب من المارة ودلف معظم الناس إلى بيوتهم كمن يترقبُ خسفا أو إعصارا.
كان شعوري باهتا لدرجة لا توصف كجائع انتظر أياما وهو يمني نفسه بطبق من الشواء لكنه فوجئ أن الطبق الذي قدم اليه لا يعدو عن قطعة لبان لها رائحة الشواء.
ربما أحسست ساعتها أن موت ذلك الطاغية لن يغير في المشهد البائس شيئا. فالرجل الذي مات لتوه مازال يحكم سوريا من قبره، وما زال قادرا على خنق البسمة في صدور من فرحوا بموته.
اليوم المشهد كلي الاختلاف فالمجرم بشار لم يمت بل فر، وفر معه جميع أعوانه، وسقط النظام وباتت سوريا مفتوحة على احتمالات الحياة.
اليوم أدرك أن هذا الطوفان من الفرح الطامي لن يتكرر مثله في مئة عام قادمة. ولو أنه فرح مضرج بالألم، وبمئات آلاف الشهداء”

شاركها.
Exit mobile version