المناطق_واس

بأفكار ابتكارية وجماليات معمارية فريدة، واجهت المنازل والحصون والقلاع الأثرية في منطقة عسير متغيرات الزمن وقساوة الظروف الجوية، كالأمطار الغزيرة، وتميزت تصاميمها بجودة البناء وجمال التنفيذ، مع توافقها مع متطلبات البيئة المحيطة، في ظل ابتكار المعماريين الأوائل لعناصر ومكونات تجمع بين جمال المظهر ووسائل الحماية.

وجاء إطلاق صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء “خريطة العمارة السعودية”، التي تشمل 19 طرازًا معماريًا مستوحى من الخصائص الجغرافية والثقافية للمملكة، لتعزيز الميزات النسبية لكل نمط عمراني في كل منطقة، ومنها منطقة عسير.

وتتضمن خريطة العمارة السعودية تفاصيل دقيقة حول الأنماط العمرانية في منطقة عسير، مع “موجهات تصميمية” تهدف إلى المساعدة في رفع جودة التصميم العمراني الشامل للبيئة المبنية، خاصة في التعبير عن الطابع الإقليمي للموقع المستهدف، بهدف تحسين التشكيل المعماري وتصميم الفراغات العامة.

ومن أبرز أهداف “الموجهات التصميمية” تتبّع الجذور المعمارية التي يمكن تطبيقها على المباني المعاصرة، بحيث ترتبط بسياقها التاريخي، وتنهل من ثقافتها المحلية، وتبرز روح المكان، مع تحقيق التوازن بين الاستمرارية والتجديد، وربط المباني المعمارية بطبيعة الأرض وتضاريسها.

وعلى مدى عقود، خضعت مئات المباني في منطقة عسير لعمليات ترميم وإعادة تأهيل، منها ما نُفذ وفق ضوابط علمية، ومنها ما تم بشكل عشوائي. ولهذا جاءت “خريطة العمارة السعودية” لوضع الأطر الصحيحة التي تجمع بين الماضي والحاضر، مع الحفاظ على الهوية المعمارية.

ورصد الباحث في مجال العمارة والتراث الدكتور علي ثويني في كتابه “التراث العمراني في عسير”، أبرز متطلبات وشروط الترميم وتأهيل المباني التراثية، مشيرًا إلى أن الأمر يتطلب محاولة إعادة صنع مواد البناء الأصلية أو إعادة إنتاجها، واستعمال نفس التقنيات المتبعة لدى إنشاء المعلم، وقد يتطلب إزالة حطام كبير من صلب البناء أو ما علق به من إضافات لا تمت للأصل بصلة، بعد إجراء عمليات التمثيل المعماري ودراسة الأثر بمنهجية بحثية وعملية حذرة، وهو ما يحتاج إلى يد عاملة ماهرة.

وحدد الثويني عدة طرق للتعامل مع المواقع والأحياء والقرى الأثرية، من أبرزها “التجديد الحضري”، الذي يتم عبر الإزالة والإحلال للمباني، وإصلاحها وتجديدها إن أمكن، إلى جانب تصميم وتنسيق المواقع المحيطة بها وتجديد المرافق والخدمات اللازمة، ما يبرز القيمة الاعتبارية والثقافية والوظيفية والاقتصادية (الاستثمارية) للمباني المرممة.

وتعد “طريقة الترميم والتجديد” من أهم الأساليب للتعامل مع المباني الأثرية ذات القيمة الثقافية العريقة، ويرى الباحث أن الهدف منها هو إعادة الأصل للمباني ذات الطابع المميز والتاريخي من خلال أعمال الترميم الداخلي والخارجي للواجهات، أما “إعادة التأهيل”، فهي من أبرز الطرق المستخدمة حاليًا في منطقة عسير وخارجها، وتطبق في حالة تدهور الأبنية التراثية أو تلك ذات القيمة الاعتبارية نتيجة انهيارات أو تلفيات تعيق أداء وظائف المبنى المختلفة.

ولا يقتصر دور البناء التقليدي في منطقة عسير على المتانة وتوفير الراحة، بل تميزت النظم العمرانية بجمال التصاميم والاهتمام بأدق التفاصيل البصرية، ومنها الزخارف والنقوش على الأبواب والنوافذ، التي تعكس براعة في التنفيذ ودقة في التشكيل. ويعتمد النجار المحترف قديمًا على تقسيمات هندسية مستمدة من الفن الزخرفي الإسلامي، مع توظيف لعناصر التصميم والنظم التشكيلية والقيم الفنية والجمالية، ويُعد نوع الخشب المستخدم في صناعة الأبواب والشبابيك عنصرًا مهمًا في جودة المنتج النهائي، ويُعتبر شجر “الطلح” من أبرز المواد الأساسية لصناعة الأبواب عالية الجودة والمزخرفة فنيًا.

ويُرجع أستاذ الآثار والفنون الإسلامية بقسم التاريخ والآثار في جامعة الملك خالد الدكتور علي عبدالله مرزوق السبب إلى أن شجر “الطلح” متماسك الألياف وسهل التشكيل والحفر، ما مكن النجارين من إبراز الزخارف على الأبواب الداخلية والخارجية، إضافة إلى براعتهم في زخرفة أطُرها المتمثلة في: (العتبة، الحلق، العابر), أما الأبواب والنوافذ الداخلية، فغالبًا ما كانت تترك لربة المنزل ومن يساعدها من قريباتها أو جاراتها لتزيينها بزخارف تجمع بين الأشكال الهندسية والنباتية والرمزية، ترحيبًا بالضيوف والزوار.

وتبدأ قصة تشييد هذه المعالم الحضارية باختيار الموقع المناسب من قبل خبراء البناء والعمران، ثم تنطلق أعمال التمهيد لوضع الأساسات المعروفة بـ “الربض”، حيث يُحفر بعمق نصف متر أو أكثر حسب طبيعة التربة، ثم تُرص فيه الحجارة لتكون قاعدة يرتكز عليها البناء، وخلال هذه المرحلة، تُجمع المواد الأساسية مثل: الطين، الحجر، الماء، التبن، الجص، والمرو. ويعمل عدد من أبناء القرية مع معلم البناء الرئيس المعروف بـ “الباني”، وهو بمثابة المهندس والمسؤول عن وضع المقاسات، ويعاونه العمال المعروفون بـ “شُقاة” (مفردها شاقي)، ويسبق ذلك جلب الحجارة وتكسيرها يدويًا من الجبال بواسطة عامل متخصص يُعرف بـ “المنظي”، يستخدم “المعول” و “الأز” الضخم لضبط المقاسات حسب نوع الحجر وصلابته.

وعند اكتمال أحد الجدران، يتولى “الكاحل” مهمة وضع حجارة صغيرة في الفتحات بين الحجارة الكبيرة، لسد الفراغات ومنح البناء لمسة جمالية لافتة، ومع وصول البناء إلى مرحلة النوافذ – المعروفة محليًا بـ “الطوايق” (جمع طاقة) – تُضاف لمسة جمالية تميز مباني عسير، باستخدام حجارة “المرو” البيضاء الصلبة لتزيين حواف النوافذ.

وتضمنت “خريطة العمارة السعودية” خمسة أنماط معمارية في منطقة عسير، وهي: “عمارة مرتفعات أبها”، “عمارة جبال السروات”، “عمارة أصدار عسير”، “عمارة سفوح تهامة”، و”عمارة ساحل تهامة”.

وتتميز مباني “عمارة مرتفعات أبها” باستخدام مواد محلية مثل الحجر والطوب الطيني، ومصممة لتحمل الأمطار الغزيرة والبرد، بكتل مدمجة ذات أشكال هندسية، وأسقف مستوية، ونوافذ نحيفة وعالية تساعد على التحكم بالرطوبة ودرجات الحرارة.

أما “عمارة جبال السروات”، فتمتاز بهياكل حجرية مميزة، تستخدم فيها الأحجار المحلية بألوان متعددة تتراوح بين الأسود ودرجات البني والرمادي والأبيض، وتتميز نوافذها بصغر الحجم مقارنة بحجم الجدران، وتكون غالبًا فتحات صغيرة ذات إطار حجري أبيض، مع واجهات تتزين بأعمدة خشبية منحوتة وزخارف حجرية، وسلالم خارجية.

ويعكس الطراز المعماري لـ “أصدار عسير” اندماجه مع التضاريس شديدة الانحدار والغابات الكثيفة، وتتميز مبانيه بأبراج حجرية قد تصل إلى ستة طوابق، بمظهر يشبه الحصون، مع نوافذ صغيرة موزعة بدقة، وإطارات من الجص الأبيض، وزخارف “كوارتزية” دقيقة.

وتجمع “عمارة سفوح تهامة” بين تأثيرات السهول الساحلية والمرتفعات الجبلية، ويُستخدم فيها الحجر والجص المحلي، مع عناصر زخرفية تنسجم مع البيئة الطبيعية، وتحتوي المساكن على أسقف مستوية وسترة سطح مصممة لأغراض دفاعية، وفتحات صغيرة لزيادة الخصوصية والأمان.

وتتميز “عمارة ساحل تهامة” بمبانٍ منخفضة من طابق أو طابقين، تشمل مساكن من القصب، وأكواخ طينية، ومنازل حجرية ذات أقواس وزخارف بسيطة، مع أسقف مستوية وسترة سطح، وجدران تحوي نوافذ كبيرة بأقواس عريضة تسمح بمرور نسيم البحر الأحمر، وتستخدم في بنائها مواد مثل الحجر والطين والشعاب المرجانية المحلية، وتتراوح ألوانها بين البيج والبني والأبيض، وتزين بزخارف بسيطة كالتجاويف الجدارية أو العناصر الزخرفية، لتجمع بين الوظيفة والبساطة الجمالية.

وتكمن أهمية “الخريطة العمرانية السعودية” في التوثيق المكاني للعمارة الأصيلة والمتنوعة في مختلف مناطق المملكة، وتهدف إلى إبراز الخصوصية المعمارية لكل منطقة بناءً على خصائصها الجغرافية والثقافية والمناخية.

وتعكس الخريطة أساليب البناء التقليدية، وتوضح كيف يمكن استلهامها في التصاميم المعمارية الحديثة، ما يسهم في استمرار هذه الأنماط ضمن المشهد العمراني السعودي بأسلوب معاصر.



تم نسخ الرابط

شاركها.
Exit mobile version