مراكش – على خشبة مسرح بمدينة أزرو الجبلية، يقف قائد فرقة أحيدوس الأمازيغية سعيد البدوي بلباسه التقليدي، متوشحا كوفية فلسطينية، وهو ينشد قصيدة عن المقاومة والتحرر، تتحول فيها الكلمات إلى قذائف صوتية تصيب المعتدين، قبل أن يعطي إشارته للمجموعة من أجل بدء أهزوجة محلية تهزّ الأفئدة.
من يدقق النظر في أدائه المستوحى من حركات قائد حربي يلمس حضورا قويا لشخصيته، مع مجموعته التابعة لجمعية أتيال برئاسة الشاعرين الكبيرين حسن وميمون أجيضاض، يضاهي شموخ أشجار الأرز بجبال الأطلس المطلة على المدينة.
تقول الأغنية
أوامش دا تدّوداوي اوال غر أينا يور ييويض
أوا ثودرم ئيـ والن ألييْ ئيعول ووادي غيفون
أوا أد أس ئينيخ ئيـ لمقاومة شم أكان لخيار
أوا أوداي بلا ثغريت ؤور نِّيين أدْ ئيـ يِّين سـ رَّاي
تعريب المعنى
ألا أيها المسافر بلّغ رسائلي لكل غافل مُسْتهتر
رأيت الأقارب قد غضّوا الطرف فتغوّل اليهود
ألا أيتها المقاومة صرت الخيار الوحيد والأوحد
فالقوة وحدها تُرْغِم اليهود على الإذعان لحقنا المشروع
ويقول الناشط المدني المهتم بالفن الأمازيغي رشيد سليماني -للجزيرة نت- إن الفن الأمازيغي الأصيل بتعبيراته المتنوعة ولهجاته المختلفة ظل ملتصقا بقضايا الإنسان والمجتمع، وهموم الوطن والأمة.
ويضيف شارحا “إن القضية الفلسطينية ظلت في قلب دائرة اهتمام المبدعين الأمازيغيين على امتداد العصور والأزمنة، وقد نالت الحظ الأوفر من التفاعل الإيجابي مع تطوراتها المفصلية منذ مطلع القرن الماضي”.
حضور
تحضر القضية الفلسطينية في جميع تعبيرات الشعراء الأمازيغيين وحواراتهم الطويلة أو أغنياتهم المعبرة، فقد أسهموا إسهاما كبيرا في تشكيل الوعي الجمعي بعدالة القضية والدفاع عنها، وغلّبوا طبعهم المساند لها على التطبيع مع الاحتلال.
فاستعراض قصائد رواد فن الروايس، بمنطقة سوس مثلا، يظهر التعاطي مع قضية الأمة المركزية ونضالات الشعب الفلسطيني بعمق وجرأة قلّ أن تجد نظيرا لهما في الشعر المعاصر، كما يبرز سليماني.
وينطبق الأمر ذاته، كما يضيف المتحدث، على مجموعات إنشادن (أو إيمديازن) ذات التأثير الواسع والشعبية الجارفة في المناطق التي تتحدث الأمازيغية بلهجة تمزيغت، خاصة في الأطلس المتوسط والأطلس الكبير، والتي تعتمد أسلوب التغنّي بالشعر بأصوات متميزة، إلى جانب فرق أحيدوس التي تتمثل في لوحاتها الفنية حركات المحاربين في المعركة حيث الالتزام التام بأوامر القائد أو المايسترو.
بدوره، يبين الكاتب والإعلامي المغربي حسن بويخف أن الأمازيغ عبر تاريخهم معروفون بحب الحرية والنضال من أجلها، حتى إن عبارة “أمازيغ” تعني الإنسان الحر في اللغة الأمازيغية، وحب الحرية وفطرتهم جعلتهم يقاومون بشراسة كل قوى الاستعمار التي استهدفت أراضيهم عبر التاريخ.
ويؤكد أن الفطرة ذاتها جعلتهم يعانقون الجبال في حياتهم الاجتماعية الاقتصادية والسياسية، حيث يتوفر عنصر الحماية من الغزاة وفرص مقاومتهم، وهذا البعد هو الذي يحكم موقف الأمازيغ من القضية الفلسطينية، فهم يتضامنون مع الشعب الفلسطيني بطبيعتهم وفطرتهم المحبة للحرية والكارهة للظلم والطغيان والاستعمار والاستعباد وغير ذلك.
زوايا
يزخر التاريخ الحديث بعشرات المواقف الفنية والأدبية التي أنتجها الأمازيغ سواء باللغة العربية أو باللغة الأمازيغية، فكثير من الكتّاب المغاربة من أصول أمازيغية -حسب بويخف- استحضروا القضية الفلسطينية من زوايا مختلفة ومتنوعة في إنتاجهم الفني، سواء تعلق الأمر بالروايس، كما هو شأن الرايس أحمد بيزماون -رحمه الله- أو تعلق بالمجموعات الغنائية كما هو شأن مجموعة “إزنزارن” (أشعة الشمس).
ويؤكد -للجزيرة نت- الناقد عبد الله زمزكي الفائز بجائزة النقد الشعري عن كتاب “الاستعارة التصورية في الشعر الأمازيغي” أن الشعراء الأمازيغ عبروا بعمق عن قيم الحرية العدالة والكرامة الإنسانية، وعن رفض الظلم والعنف والحروب وكل ما يهدد الاستقرار والسلم، فالنزعة الإنسانية تشكل ملمحا بارزا من ملامح الشعر الأمازيغي، بمختلف أشكاله؛ سواء الشعر الغنائي، وشعر “تنضامت”، والشعر المكتوب.
ويعرض المدون والمترجم من الأمازيغية إلى العربية عبد الله العسري تاريخا حافلا من الاهتمام بالقضية لدى الشعراء والفنانين الأمازيغيين، ويذكر للجزيرة نت أن ما جاء في كلام المجموعة الغنائية إزنزارن أنموذج حي على حمل هذا الهم في النفس والقلب.
تقول الأغنية
نكَر لعفيت د لباروض ءاغ نلّا سول ؤكان /
نكامي كنت ءا لفروت نكامي كنت ءالمعاونت /
يان ؤر تجدر تكات فيند ءيسوفا فلاس /
تعريب المعنى
لا نزال بين النار والبارود
عدمنا الحل كما عدمنا المؤازرة
من لم تحرقه النيران صبّت عليه الشرارات
ومن تلك النماذج المشرقة قصيدة “ءانيني رجا فالله” (لنقل الرجاء في الله) للشاعر الراحل أحمد بيزماون، التي تعدّ أنموذجا حيا لتفاعل هؤلاء الشعراء مع مآسي الحروب وما خلفته من دمار وتقتيل لأبناء البشر بدم بارد.
كما أبدع الفنان الراحل محمد رويشة ابن الأطلس المتوسط في أغنية “ماتا الزمان يتساكان”، مبديا أسفه لاستمرار التنكيل بالشعب الفلسطيني وقتله أمام أنظار الجميع، وما زال يقاوم رغم كل الآلام التي ترافق حياته اليومية.
ينشد رويشة
” فلِسطين إخُوباسْ .. أتّوينَاس إكّودار
وياكّ لولْ إزْريَايش .. ايا عداو أمازير
تعريب المعنى
فلسطين في محنة، تعرضت للتدمير..
لن نتركها تضيع … يا عدو الوطن
مبادرة
تفاعلا مع ما يحدث حاليا في قطاع غزة، اجتمع 28 من فناني وهواة الموسيقى الأمازيغية لتسجيل ملحمة طويلة تعبر عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني.
ومما جاء في الأغنية
أفلسطين آر غزة سالان العالمي
أهاياغ ديدون نكا يان ؤفوسي /
هان لقودس ءيست كيغ غ ؤفوس ءافاسي
ونا تيلكمن زود ءيغاغ ءيكيس ءاراوي
تعريب المعنى
فلسطين وغزة أبكيا العالم بأسره
ها نحن معكم يدا واحدة
فالقدس في يدي اليمنى
من اقترب منها فكأنه ينتزع مني ابني
ويقول الفنان والشاعر الشاب خالد إثري -للجزيرة نت- إن فكرة المبادرة نضجت بسرعة كبيرة؛ عدد من الفنانين اجتمعوا على كتابة ألحانها، وآخرون أبدعوا في تلحينها قبل تسجيلها وتوزيعها.
ويضيف أن الفنان الأمازيغي بطبعه منحاز إلى قضايا الحرية والتحرر، وأن كل مقومات هويتنا الدينية والتاريخية وما يكنّه المغاربة للقدس وفلسطين يدفعهم إلى التعبير عن هذا التضامن بكل عفوية وتلقائية، تحلق معها كلماتهم لتصل إلى العالمية.
ويشير زمزكي إلى أن انفتاح الشعر الأمازيغي بمختلف أشكاله على القضية الفلسطينية ينمّ عن وعي الشعراء الأمازيغي بضرورة التفاعل مع مثل هذه القضايا الإنسانية، وانخراطهم في تشكيل الوعي حولها، كما يعبر عن ميول الإنسان الأمازيغي إلى نشر السلم والاستقرار واستنكاره لمختلف أشكال الاضطهاد والظلم.
طبع
احتفى رواد مواقع التواصل الاجتماعي بموقف الفنانة الأمازيغية فاطمة تحيحيت التي ظهرت في حوار إعلامي مصور تعبر عن رفضها التام زيارة دولة الاحتلال التي ترتكب أبشع الجرائم ضد الشعب الفلسطيني أمام العالم، على الرغم من الإغراء المالي الكبير المعروض عليها.
وتفاعل الجمهور مع موقفها، مبرزا أن عبارتها التلقائية النابعة من القلب “مابغاهومش ليا خاطري” (قلبي لم يقبلهم)، بقدر بساطتها، تعكس العمق الإنساني لطبع هذه الفنانة وانحيازها للقضايا العادلة.
ويؤكد الإعلامي بويخف أن موقفها تعبير حي عن أنموذج الشخصية الأمازيغية الحرة التي لم تتعرض للتزييف، والتي ترفض الظلم والطغيان.
ويبرز أن هذا الحوار يكشف عما يحاوله سماسرة الصهيونية من تكريس للتطبيع الثقافي من خلال استقطاب الفنانين المغاربة للغناء في الدولة العبرية، لكنهم لم يفلحوا في كسر الإباء الأمازيغي الأصيل لدى هذه الفنانة، رغم أنهم عرضوا عليها من الأموال “كل ما تريده” لكنها رفضت، وأساس رفضها ما تراه يوميا من تقتيل وتهجير وتجويع وتدمير للعمران في قطاع غزة.