في عام 1612، استولى أسطول إسباني على سفينة فرنسية تحمل شحنة مخطوطات عربية تمت سرقتها من سلطان المغرب مولاي زيدان، وبعد عامين تقريبا وصلت المجموعة -التي عرفت أيضا باسم “الخزانة الزيدانية”- إلى المكتبة الملكية الإسبانية “إيسكوريال” التي أصبحت مستودعا مهما للكتب العربية في أوروبا.

وللمفارقة، ضمت تلك المخطوطات العربية المسروقة إلى المكتبة الملكية، في الفترة الزمنية ذاتها التي اشتهرت فيها محارق الكتب والمخطوطات العربية في شبه الجزيرة الإيبيرية، ووضعت القيود المشددة على قراءة وحيازة المخطوطات العربية ضمن سياسات العداء للأندلسيين العرب من المسلمين واليهود والموريسكيين في البلاد.

وطوال القرن السادس عشر، سن التاج الإسباني ومحاكم التفتيش سياسات للقضاء على اللغة والثقافة العربية، وحظر على الموريسكيين التحدث بالعربية وكتابتها عام 1564 في بالنسيا، بينما حظر الملك فيليب الثاني استخدام العربية المنطوقة في قشتالة عام 1567؛ وفي الظروف ذاتها تحولت المخطوطات المغربية من غنائم حربية لا قيمة لها إلى مستودعات للمعرفة التي تتعين دراستها من قبل الباحثين الإسبان وحتى من قبل الرحالة والباحثين العرب الذين زاروها في المكتبة الإسبانية.

وتوفر النقاشات السياسية والقانونية التي أعقبت الاستيلاء على المكتبة ومحتواها الثقافي نظرة مهمة على تطور القانون البحري، عندما أصبحت المكتبة العربية موضع مفاوضات دولية شاقة بين إسبانيا والمغرب وفرنسا وهولندا، تناولت القانون البحري والأسرى والمعارف المحظورة، بحسب الأكاديمي في جامعة كونيتيكت الأميركية دانيال هيرشنزون.

ثنائية الأندلس - 2 حكاية الشاطئين

المكتبات المهاجرة
وألقى تداول المخطوطات العربية الضوء على محنة الموريسكيين في الأندلس ومعاناتهم مع الرقابة على الكتب والقراءة بالعربية، ورغم اعتقاد بعض الباحثين أن الدراسات العربية اختفت من إسبانيا في القرن السابع عشر نتيجة لممارسات محاكم التفتيش التي دمرت المخطوطات العربية وأحرقتها، جاءت المفارقة في أن المحققين والدارسين للغة العربية كانوا يتسابقون للحصول على المخطوطات العربية، كلا لغرضه الخاص.

وجرى استيعاب وفهرسة وتخزين النصوص العربية في الوقت ذاته كتعبير عن سياسات مختلفة تجاه المعرفة العربية، ويرى الأكاديمي الأميركي هيرشنزون أن هذه السياسات ليست متناقضة، فالتطهير ضد الموريسكيين تزامن مع تأكيد التاج الإسباني على سلطاته المطلقة في التعامل مع المقتنيات الإسلامية، إذ إنه الوحيد الذي يستطيع أن يحرقها أو يحافظ عليها كيفما يرى، بحسب ورقته المنشورة في مجلة التاريخ الحديث المبكر، الصادرة عن بريل للنشر.

واضطر مولاي زيدان -الذي ورث مكتبة ضخمة عن أبيه منصور الذهبي وقام بزيادتها- لشحن الكتب بحرا في سفينة فرنسية لتنقل إلى ميناء سوس، وذلك بعد أن تعرضه لانتفاضة أحد أقاربه عليه واضطراره للفرار. ولما وصلت السفينة ولم يُدفع لقبطانها الفرنسي أجرته رحل إلى أعالي البحار فهاجمه القراصنة الإسبان واستولوا على الخزانة الزيدانية ظانين أنها مملوءة بالذهب.

وأظهرت المفاوضات القانونية والسياسية بين إسبانيا والمغرب وفرنسا والجمهورية الهولندية حول مخطوطات السلطان المغربي كيف تطورت السياسات الدولية وقتها، وحاول سفراء سلاطين المغرب استعادة الكتب والمخطوطات العربية إلى المغرب في وقت لاحق لكن مهمتهم لم يكتب لها النجاح. 

رحلة المخطوطات

كان ضباط الأسطول الإسباني هم أول من فحصوا المخطوطات وأعدوا جردا وتقديرا لقيمة للبضائع المغربية المستولى عليها، ويبدو من الوثائق المتعلقة بهذه الحادثة أن القراصنة الإسبان لم يعلقوا على كون المخطوطات كتبت بالعربية.

وبينما كان العلماء وأمناء المكتبات يدرسون المجموعة ويخططون لنقلها إلى الإسكوريال، دارت العديد من النقاشات بين المستشارين الحكوميين فيما يتعلق بالاستخدام السليم للمخطوطات، ويظهر تاريخ المكتبة المغربية أنه حتى في القرن السابع عشر في إسبانيا -العصر الذهبي وزمن محاكم التفتيش- لم تحدد الضرورات العلمية وحدها مصير النصوص العربية، بل كان القانون والسياسة حاضرين بقوة في النقاش حول الكتب، وهكذا ارتبط التاريخ السياسي للبحر الأبيض المتوسط ​​والعلاقات بين المغرب وإسبانيا والقوى الأوروبية الأخرى بتاريخ المعرفة الشرقية والعربية في أوروبا.

ولم تكن مكتبة زيدان هي مجموعة المخطوطات الوحيدة التي تم الاستيلاء عليها من أعالي البحار، إذ كانت عمليات السطو والغارات الحربية -ولا تزال- طريقة للحصول على الكتب وبناء مكتبات جديدة.

وفي العقد نفسه، استولى القراصنة على مكتبة يهودية تحتوي على خمس مخطوطات، ونقلت إلى مالطا حيث تم افتداؤها. وفي عام 1648 استولى الإسبان على سفينة إنجليزية كانت تحتوي على حوالي 1600 مجلد وجلبوها إلى لشبونة، ووصف المؤلف روبرت جونز صاحب كتاب “القرصنة، الحروب، واقتناء المخطوطات العربية في عصر النهضة بأوروبا” بالتفصيل عملية تكون المكتبات الأوروبية عبر عمليات قرصنة المخطوطات العربية وغير العربية.

كتب خطرة ومعرفة مفيدة
وبناءً على طلب الملك فليب الثاني في وقت ما بين أغسطس/آب ونوفمبر/تشرين الثاني 1612، بدأت فهرسة المخطوطات ونقلت المكتبة إلى مدريد، وربما أثارت فضول علماء البلاط الملكي إذ سارع بعضهم إلى إلقاء نظرة على الغنائم الفريدة، وتم تكليف الباحث فرانسيسكو غورميندي بتقييمها من جديد وأنجز مهمته بتقرير عن المكتبة العربية بعد عام قضاه في دراستها.

وبلغت مقتنيات المكتبة قرابة أربعة آلاف كتاب، معظمها دون عنوان، وأكثر من خمسمئة منها غير مجلدة، ولذلك استغرق تقسيمها وترتيبها وفقا لعلومها ومواضيعها الكثير من الوقت. ووجد غورميندي أن ألفي مجلد أو أكثر من المكتبة هي عبارة عن تفاسير للقرآن، وحوالي ألف من مواضيع متنوعة من العلوم الإنسانية والفلسفة والرياضيات والطب وغيرها من محتويات الخزانة الزيدانية التي تضمنت أيضا كتبا بالتركية والفارسية.

ولا تشير الوثائق الموجودة إلى التعليمات التي تلقاها غورمندي وما إذا كان قد طُلب منه صراحة تحديد تفاسير القرآن والنصوص الدينية وفصلها عن الكتب الأخرى.

وقبل أكثر من قرن من الاستيلاء على المجموعة المغربية -وبالتحديد عام 1501 في غرناطة- أمر فرانسيسكو خيمينيز دي سيسنيروس كبير مفتشي محاكم التفتيش وأمين سر الملكة إيزابيلا، بمصادرة وحرق جميع المصاحف الموجودة في المدينة، ولكنه أرسل وصفات طبية باللغة العربية إلى جامعة الكالا دي هيناريس التي تم تأسيسها بواسطته قبل عامين من محرقة الكتب.

الكتب العربية في إسبانيا
وهكذا واجهت الكتب والمخطوطات العربية في إسبانيا ثلاثة مصائر مختلفة: فهناك كتب الموريسكيين التي تم الاستيلاء عليها وتدميرها بواسطة محاكم التفتيش، وهناك المخطوطات التي سلمتها محاكم التفتيش إلى المكتبة الملكية الإسبانية، أو تلك التي حصلت عليها الإسكوريال عبر الشراء والورث.

وإضافة إلى ذلك هناك مخطوطات الخزانة الزيدانية التي تعذر الوصول إليها في البداية، ووضعت خلف الأبواب المغلقة نتيجة الربط بين اللغة العربية وهويتها الدينية، وذلك قبل أن ترى النور فيما بعد مرة أخرى.

توضح رحلة كتب زيدان والمفاوضات حول استخدامها وقيمتها، مدى أهمية ربط تاريخ البحر الأبيض المتوسط ​​والقرصنة والعائلات الملكية بتاريخ بناء المكتبات وتداول المخطوطات، وتظهر المكتبة المتنقلة وهجرتها عبر المتوسط ما يمكن اعتباره دلالات متغيرة للنصوص والمعرفة العربية في سياقات دينية وسياسية مختلفة.

شاركها.
Exit mobile version