كلما اشتدّ غبار المعارك في بقعة من هذه الأرض التي لم تهدأ فيها الحروب تثور أسئلة كثيرةٌ في مقدمتها “لماذا يتقاتل البشر؟”، وما يزال هذا السؤال المؤرق يطرق الأذهان ويدور في النفوس.

الباحث الأيرلندي، من أصل كرواتي، سينيشا مالشيفتيش، ألف كتابًا للإجابة عن هذا السؤال المؤرق ووضع له عنوانًا فرعيًا: “الديناميات الاجتماعية للعنف الجسدي المباشر” والكتاب ترجمته إلى العربيّة عومرية سلطاني، وصدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، سنة 2024م، ولعومرية السلطاني ترجمة لكتابين آخرين للمؤلف نفسه، هما: “سوسيولوجيا الحرب والعنف”، و”صعود الوحشية المُنظمة.. سوسيولوجيا تاريخيّة للعنف”.

يقوم الكتاب، الذي استمر تأليفه أكثر من عقد من الزمن، على التحليل النظري لكثير من المواد بطريقة بحثية تجريبية، هذه المواد جمعها المؤلف خلال عمل ميداني امتد أكثر من 10 سنوات، وتضمنت مقابلات مع مقاتلين سابقين من أيرلندا الشمالية، وكرواتيا، والبوسنة والهرسك، وصربيا، وغيرهم.

في هذا الكتاب يقدم مالشيفيتش إجابة سوسيولوجية جديدة عن السؤال القديم الجديد، “لِمَ يتقاتل البشر؟” لكنه يتجنب التركيز خلال إجاباته على دوافع الأفراد، ويركز على الأهمية المحورية للسياقات الاجتماعية والتاريخية التي تمكن من القتال وذلك أنّ المؤلف يرى أن القتال ليس صفة لصيقة بالفرد، بل هو عنده ظاهرة اجتماعية تصوغها علاقاته مع غيره من الأفراد، وجاءت المقابلات مع المقاتلين من بلدان ومناطق مختلفة من العالم ليكشف عن أنّ قابلية القتال هي ظاهرةٌ سياقية يشكّلها منطقٌ أيديولوجي وتنظيميٌّ محدَّد.

يبتكر المؤلف مفهوم “المقاتلة الاجتماعية” ويجترحه في سعيه للإجابة عن السؤال الثقيل الذي عنون به كتابه، ومن خلال هذا المفهوم يحاول المؤلف إجابة السؤال معتمدًا على إيجاد تفسير متّسق للقتال المباشر، وذلك من خلال إخضاع البحث لمجموعة متنوعة من العمليات القتالية والحربيّة المختلفة، واستكشاف الآليات العملية التي تعمل في إطار مفهوم “المقاتلة الاجتماعية” الذي ابتكره المؤلف، ممّا يساعد على التفاعل مع التأثيرات البنيوية ومعالم التغير المكاني والزماني، وسياقات المرونة للقتال الجسدي، وكل ذلك يؤدي إلى دراسة الديناميات الاجتماعية المسببة للعنف الجسدي للبشر.

يعتمد المؤلف في كتابه على استعراض مختلف السياقات الاجتماعية والتاريخية للقتال، باعتباره ظاهرة اجتماعية تصوغها علاقات الإنسان مع غيره من الأفراد، ويستند إلى العديد من الأدبيات الحديثة من تخصصات أكاديمية متنوعة، إضافة إلى مقابلات أجراها مع مقاتلين سابقين، وذلك بغية الكشف عن قابلية القتال، وتلمس الظاهرة في السياق الذي يشكّلها منطق أيديولوجي وتنظيمي معين، وإيجاد الإجابات التي تقدم فهمًا إضافيًا لكثير من ظواهر الحرب والعنف والصراعات الإثنية والقومية، ومما أسهم في قدرة المؤلف على ذلك أنّه عاصر وعاين الانهيار القاسي والكبير الذي شهدته يوغسلافيا خلال تسعينيات القرن الـ20 الماضي.

هنا، ومن خلال معايشة الكاتب لهذه الحقبة العنيفة فإنه يحاول تجلية الأدوار التي تلعبها البيولوجيا والسيكولوجيا والاقتصاد والأيديولوجيا والقسر في معايشة الفرد تجربة القتال، وأنها استجابة علائقية ناتجة عن تلاقي بنى وفاعلين وأحداث مختلفة، مستندًا في ذلك إلى أن العلاقات الإنسانية لا تنشأ وتتفاعل بوساطة خصائص بيولوجية أو سيكولوجية أو خصائص أخرى ثابتة ومستقرّة، بل إنّها تنشأ وتتولد من التفاعلات المتحركة بين منظمات اجتماعية محددة، وأطر أيديولوجية وعمليات تفاعل جزئية متصاعدة، مما يؤكد أن القتل والقتال لا يعبّران عن ممارسات موحّدة وثابتة ومستقرة ومتجاوزة للتاريخ وعابرة للثقافات، كما أنّها لا تقوم على أنماط ثابتة ولا تعتمد على أطر معروفة مستقرة، بل هي ظاهرة متنوعة ومتغيّرة ومتحركة ومتبدلة وسياقية.

A man stands next to a tiled fireplace where a house once stood in Hiroshima, Japan, on September 7, 1945. The vast ruin was caused by the uranium atomic bomb detonated on August 6 by the US, leading to the end of World War II [Stanley Troutman/AP]

وبناء على ذلك يصل الكاتب إلى ضرورة ووجوب النظر في الظروف والبيئات والسياقات الاجتماعية التي تدفع البشر إلى الاقتتال أو تؤدي بهم إلى قتل أشخاص آخرين في مواقف الصراع، وضرورة تحليل الدور المنوط بالبيولوجيا، وتحليل الدوافع الاقتصادية والوقوف على الالتزامات الأيديولوجية والكشف عن الضغط القسري وتجلية الروابط العاطفية الكامنة في التضامن الجزئي، إضافة إلى وجوب دراسة السياقات البنيوية التي يحدث خلالها القتال، وتفصيل الكيفية والظروف التي يتجنب من خلالها الأفراد الانخراط في العنف الجسدي المباشر، وتقديم تحليل سوسيولوجي لمنطقة القتال.

عادةً، يتعامل الدارسون والباحثون مع عمليات العنف بين الأفراد بوصفها ظاهرة عابرة للحضارات والثقافات، ومتجاوزة لتاريخ الشعوب، ويعتمد الكثير منهم على فكرة أن الحرب وغيرها من أشكال العنف ما تزال موجودة ومستمرة ولم تتوقف، وهي موجودة في جميع النظم السياسية والاجتماعية، غير أنّ الأبحاث الحديثة تثبتُ أن العنف المنظّم تطوّر في مرحلة لاحقة من التاريخ الإنساني، وأن كثيرًا من الأنظمة الاجتماعية تفادت العنف في مختلف أشكاله.

بناء على ذلك يعتمد المؤلف في تحليل الحروب وجولات المقاتلة الجماعية على توضيح وتحليل الأسباب التي تجعل بعض الأفراد والمجموعات الصغيرة والمنظمات الاجتماعية أقل ميلًا للقتال أو أكثر فعالية في مقاومة العنف مقارنة بسواها، مما يستدعي التركيز على السياقات البنيوية التي تعيق تطوير الآليات الأيديولوجية والتنظيمية التي تعزز المقاتلة الاجتماعية، باعتبار أن ظاهرة عدم القتال، لا تحدث بشكل تلقائي، مثلها مثل القتال، بل إنّ ظاهرة عدم القتال هي نتاج التفاعل الجزئي والعمل التنظيمي والأيديولوجي، وذلك أنّ عدم القتال ينطوي على حالات عديدة منها التهرّب من التجنيد الإجباري وممارسة الاستنكاف الرافض لها وللعنف، والهروب من التنظيمات المسلحة، وتجنب إطلاق النار على العدو في خضم المعارك، إضافة إلى القيام بأشكال مختلفة من المقاومة غير العنفيّة، وغير ذلك من الحالات والمواقف.

يناقش الكاتب في حديثه عن العنف الإطار التفسيري النظري القائم على أنه وسيلة عقلانية لتحقيق منافع اقتصادية أو سياسية أو رمزية، وقد وظفت كثير من الدول والشركات الخاصة والمنظمات الأخرى العنف لتحقيق هذه المنافع، كما ركزت النظريات النفعية على الأسباب الاقتصادية للقتل والأشكال الأخرى من جرائم العنف، وعلى الدوافع الفردية أيضًا.

غير أنّ الكاتب يرى أن هذه النظريات شديدة الاتساع وشديدة التجريد، بحيث لا يمكنها تفسير الديناميات الاجتماعية للعنف الجسدي المباشر، كونها نظريات تخص السلوك الإجرامي بشكل عام، وليست نظريات عن الفعل العنيف في حدّ ذاته، فسواء ظهر العنف في صورة قتل أو عمليات اغتصاب جماعية أو حروب أهلية أو انتفاضات وثورات، فإن النظريات الاقتصادية تعطي الأولوية للأسباب الاقتصادية، التي تشمل الجشع والمصالح الشخصية للأفراد، وتشمل كذلك المظالم الاجتماعية التي تسببها الأنظمة السياسية والاجتماعية.

وبعد مناقشة التفسير الاقتصادي للحروب يبين الكاتب سعي عدد من علماء النفس إلى تفسير سلوكيات العنف والقتل، بأنها سلوكيات طبيعية كون البشر مخلوقات فيها جينات أنانية تتطلب استنساخها أو تكرارها، وبناء على ذلك فإنهم يحاولون الحصول على الموارد التي تساعدهم على البقاء والقتال من أجلها، ويلجؤون إلى ذلك بمجرد أن يشكِّل الآخرون تهديدًا لبقائهم.

كما يتناول المؤلف بالنقاش والتحليل ما يتردد من الحديث عن دوافع بيولوجية لتفسير الحروب هذه التفسيرات التي تعتمد على أنّ الرجال مهيؤون بيولوجيًا من أجل خوض الحروب والصراعات، غير أنّ هذه التفسيرات تنقضها الدراسات الحديثة التي تثبت أن قدرة الرجال والنساء على القتال متساوية، وبالتالي لا تحدّد القوة البدنية والعضلية، وحجم الجسم، ميل الفرد نحو القتال، كما لا تلعب الاختلافات الهرمونية بين الرجال والنساء دورًا كبيرًا في القتال، إضافة إلى أن مستويات هرمون التستوستيرون أو الإستروجين لا تحدّد القدرة القتالية، بل إن أكثر الهرمونات صلة بالقتال مثل الأدرينالين أو كورتيزول ليست جندرية الطابع، بل تتميز بطابعها العام.

وعند نقاش دافع الأيديولوجيا، يؤكد المؤلف أنها تؤدي دورًا مهمًا في التعبئة للعنف، وفي تبرير السلوكيات العنفية لأصحابها، فالقوة الأيديولوجية لها دور كبير في التعبئة الشعبية للقتال، وفي تشريع الأفعال العنفيّة والقتاليّة، وذلك على الرغم من أن المبادئ الأيديولوجية لا تولد نتائج عنفية بوصفها كذلك، لكن أقلية صغيرة من الناس تستخدم العنف لتحقيق أهدافها وغاياتها الأيديولوجية.

كل هذا يبين لنا محاولات المؤلف في كتابه الذي بلغ 496 صفحة تفنيد المقولات الشائعة عن العنف والقتال ودوافعه، تلك المقولات التي تصور المقاتلة الجماعية أمرا سهلا وأنه الأصل البشري الذي لا يمكن الفكاك منه، مبينا مجانبة هذه المقولات للصواب، مؤكدًا أنّ العنف ليس له جوهر بيولوجي أو سيكولوجي، بل هو ظاهرة تنشأ وتتأكّد من خلال تفاعل وتنوّع تاريخي وثقافي وتنظيمي، حيث تظهر تجارب القتال المتنوعة أن الفعل العنيف يشبه أي شكل آخر من أشكال العنف الاجتماعي، وليس له علاقة بأي نزعة طبيعية لدى البشر.

شاركها.
Exit mobile version