أنطاكيا- لم تكن تتخيل الطبيبة كوبرا كايا (29 عاما) أن ما عاشته سيكون ذكرى تحكيها بلسانها. تقول: “أخذ الزلزال جزءا منا. ما عشناه وشاهدناه كان كفيلا بأن يقضي علينا كليا. نجانا الله من الزلزال، لكن قدري أن أكون في الصفوف الأولى لتخفيف آلام المصابين والمنكوبين. كنتُ مجبرة على تجاوز أثر الصدمة حتى أستطيع العمل، فقد كانت أعداد المصابين كبيرة جدا. بقيتُ أياما عدة داخل قسم الطوارئ في مستشفى الريحانية، وكانت الجثث والأشلاء تملأ 3 طوابق، بالإضافة إلى المصابين”.
آثار لا تُمحى
لم يكن سهلا الوصول إلى طبيب يروي ما عاشه أثناء الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا في السادس من فبراير/ شباط الماضي، وكيف استطاع النهوض -رغم الألم- ليداوي جروح المنكوبين.
قبول الدكتورة كايا التحدث إلى “الجزيرة نت” كان دونه عقبات، إذ سبق أن رتبنا لقاءات مع عدد من الأطباء الذي عاشوا الكارثة، وقبل المقابلة بساعات قليلة أرسلوا إلينا رسائل اعتذار، لأنهم ما زالوا يعيشون صدمة البقاء تحت الأنقاض لأيام وخسارة بعض الأهل والأقارب، في حين فقَدَ بعضهم جميع أهله.
كايا، وهي طبيبة متخصصة في العلاج الفيزيائي، أجبرتها كارثة الزلزال على العمل في قسم الطوارئ في مستشفى الريحانية في مدينة أنطاكيا، إحدى أكثر المدن تضررا من الزلزال. ويبعد المستشفى عن منزلها في منطقة هسا، في ولاية هاتاي، نحو 70 كيلومترا.
تقول كايا إن “الزلزال أدى إلى خروج عدد من المستشفيات من الخدمة، فأصبح مستشفى الريحانية الذي أعمل فيه أحد البدائل”.
وتضيف: “بعد الزلزال، مباشرة، استطعتُ الخروج مع عائلتي من البيت الذي تضررا كثيرا. تلقيت رسالة من المستشفى بضرورة الحضور في أسرع وقت، وبقيت فيه أسبوعا كاملا أعمل ليل نهار بسبب الكم الكبير من المصابين. كان هناك نقص في الأطقم الطبية، إذ فقدنا 10 من زملائنا الأطباء من العاملين في المستشفى، بالإضافة إلى من أصيبوا وفقدوا أهلهم”.
تشير كايا إلى أن الكارثة والطقس السيئ كانا من بين التحديات التي واجهت الأطقم الطبية والعاملين في المجال الإغاثي، بسبب انقطاع الطرق وتعطل المطارات، مما أخر وصول الإمدادات والمعدات، لكن سرعان ما تم تدارك الوضع.
وتردف: “المشاهد التي رأيتها بينت لي حجم الكارثة. عندما كانت تأتينا أكياس الجثث، بكميات كبيرة، كنا نظن أن كل كيس يحتوي على جثة واحدة. لكننا اكتشفنا أكياسا كثيرة تضم أكثر من جثة، أمٌ مع أطفالها أو شقيقتان أو أشلاء. وبينت لنا الكارثة، أيضا، قوة دولتنا في مواجهة الزلزال، وهو ما لمسناه على أرض الواقع”.
تصف الطبيبة الشابة بعضا مما عاشته أثناء وقوع الزلزال، فتقول: “عشنا الموت. أثناء وقوع الزلزال سمعنا صوتا شديدا لم نسمعه من قبل، ظننا أنه صوت تشقق الأرض وأنها النهاية. كانت لدينا معلومات كثيرة عن كيفية مواجهة الزلزال وما يتوجب علينا فعله عند وقوعه، لكن عندما وقع لم نستطع أن نتحرك قيد أنملة من الخوف. فقط تحركت ألسنتنا بالشهادة. كانت لحظاتنا الأخيرة، فكرنا في الهرب وقتها، لكن كان من الجيد أننا لم نفعل ذلك، فقد وجدنا عددا من أصدقائنا قد ماتوا أثناء هربهم على الدرج أو في طرقات ومداخل البنايات”.
ضحايا القطاع الصحي بالمئات
خسر القطاع الصحي في تركيا، جراء الزلزال الأخير الذي ضرب 11 ولاية جنوبية، 448 فردا من العاملين فيه، وفق وزير الصحة التركي فخر الدين قوجة. كما فقد الهلال الأحمر التركي 18 فردا من الموظفين والمتطوعين لديه، في حين بلغ عدد المتضررين 2300 شخص من المنتسبين إليه.
المأساة كانت أشد على الطبيب علي محمد براء، وهو صيدلي فقد زوجته وطفليه، هناء (8 سنوات) وغيث (3 سنوات)، تحت أنقاض منزلهم في مدينة أنطاكيا في ولاية هاتاي.
يقول علي “من المستحيل أن أتجاوز الصدمة، فالابن غالٍ، ولم أعد قادرا على البقاء في المدينة. كل مكان يذكرني بهم. ورغم مرور أكثر من شهرين على الكارثة، فإنني ما زلت أعاني من أثر فقدانهم”.
ويضيف: “أحيانا كثيرة، لا أستطيع التوقف عن البكاء. شعور صعب جدا أن تفقد أبناءك وزوجتك. هذا قدري، وأحمد الله عليه. أصبحت الآن وحيدا بعدما كانت أسرتي تحيط بي”.
ويردف شارحا: “قبل أن أتأكد من موتهم تحت الأنقاض، كنت أذهب إلى أماكن تجمعات النازحين القريبة أبحث عنهم لعلي أجدهم، أو لعلهم استطاعوا الخروج من البناء قبل سقوطه. كنتُ أُمني نفسي حتى آخر لحظة بأنهم ما زالوا أحياء”.
جروح نفسية عميقة
يستكمل براء حديثه للجزيرة نت، بنبرة ألم وحزن لم تفارقه: “في مساء اليوم السادس من الزلزال، كانت صدمتي الكبرى، فما كنت أخشاه أصبح حقيقة. فرق الإنقاذ انتشلت جثة زوجتي ووالدتها وأطفالي، كانوا في أحضان أمهم، ويحاولون الاحتماء بها، لكن الزلزال كان أقوى من الجميع. لم أستطع أن أتمالك نفسي، فسقطت مغشيا على الأرض. نقلتني فرق الجيش بعيدا لحين انتهاء عملية رفع الأنقاض”.
“قدر الله وما شاء فعل”، يختم الدكتور براء حديثه، مضيفا: “استعدتُ نفسي قليلا من أثر الصدمة مع دخول رمضان، فهو شهر الصبر، أحاول العودة إلى عملي شيئا فشيئا، وأسأل الله أن يتقبلهم عنده شهداء وأن يجمعني بهم”.