الإسكندرية– على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، يشتهر المصريون بحسن الضيافة والترحاب لدى استقبال الضيوف. أما البسطاء، فيشتهرون بابتساماتهم العذبة وحرارة ترحابهم التي تخفي خلفها علامات العوز. هذا هو المشهد الذي يعيشه عبد الرحمن عز الدين وعائلته، الذين يقطنون في أحد أحياء الإسكندرية القديمة، بين أزقة ضيقة ومبان متهالكة.

عز الدين (56 عاما) موظف حكومي يشعر بالسعادة بمناسبة قدوم عريس يطلب يد ابنته (الجامعية) عقب امتحانات نهاية العام الدراسي، لكنه يخشى في المقابل حالة الضيق الذي ستعيشه العائلة لتجديد أثاث الشقة البالي بعد سنوات استخدام طويلة.

جال عبد الرحمن وزوجته في معارض الأثاث الجديد، لكن الجولة جاءت محبطة بسبب الأسعار الباهظة التي قضت على الآمال بتجديد منزلهما نهائيا.

إعادة تأهيل الأثاث القديم

في نهاية المطاف، انتهت رحلة عز الدين وزوجته إلى ورشة صغيرة تختص بتجديد وإعادة تأهيل الأثاث القديم. ورغم بساطتها وتواضعها، فإنها كانت ملجأ حقيقيا للزوجين.

“مثلت تجربة تجديد الأثاث القديم تحديا كبيرا لنا كعائلة، لأننا نواجه صعوبات مالية كبيرة، إذ من المستحيل تحمل تكاليف شراء أثاث جديد في ظل ضعف الراتب وارتفاع تكاليف المعيشة بشكل كبير، فبحثنا عن بدائل، ولجأنا إلى تجديد الأثاث القديم في إحدى ورش سوق الترك الشهير في منطقة بحري وسط المدينة”، يقول عز الدين.

ويضيف، “مثلت لنا الورشة فرصة لإعادة إحياء القطع القديمة وتحويلها إلى جديدة، بتكلفة أقل بكثير من شراء الأثاث الجديد، وكانت أيضا خيارا اقتصاديا مناسبا لإمكانياتي بعد أن ساهمت بتوفير المال مع الحفاظ على القطع القديمة التي تحمل قيمة عاطفية وتحويلها إلى جديدة تضفي جمالا وأصالة على المنزل”.

وفي ورشة الحاج محمود شعبان لتجديد الأثاث القديم بسوق الترك في الأسكندرية، يقول وليد وهو الابن الأكبر لصاحب الورشة، “أنا فخور بورشتنا، المتخصصة في أعمال النجارة منذ أكثر من 60 عاما، وعندما بدأت العمل لم تكن الفكرة التي تقف وراءها، كما هي الآن، بل كانت إحياء الأثاث القديم وتحويله إلى قطع فنية فريدة وشبه تراثية عالية القيمة، ولكني لم أكن واثقا بنجاح الفكرة”.

لمسات فنية وتعديلات مبتكرة

ويضيف، “بمرور الوقت، تفتق ذهني إلى الرواج الكبير والتزايد في الطلب على شيء آخر، وهو تحويل الأثاث التقليدي المتهالك إلى جديد بأبسط الطرق وأقل التكاليف، كحل اقتصادي لغالبية الأسر أو المقبلين على الزواج في بعض الأحيان. وبمجرد تغيير نشاطي من تراثي إلى اقتصادي، لاحظت زيادة كبيرة في عدد الأشخاص الذين يلجؤون إلينا لتجديد أثاثهم القديم بدلا من شراء جديد، واكتشفت أن تلك الفكرة أكثر شعبية، وتحظى بإقبال كبير”.

ويتناول طرف الحديث الحاج محمد عبده، وهو من أقدم الفنيين بالمنطقة قائلا، ليقول “لدينا خبرة كبيرة في تجديد الأثاث المستعمل، ومعالجة العيوب وتحسين جودة العفش القديم، من خلال إضافة لمسات فنية وطرح عديد من الأفكار والتعديلات التي تناسب أذواق الزبائن وميزانياتهم بعد مساعدتهم في اختيار التصميم وألوان الدهانات العصرية”.

وعن أسلوب العمل في قطع الأثاث القديمة يقول، “يتم إحياؤها بأسلوب مبتكر بعد إصلاح الأثاث المتضرر باستخدام قطع خشب مناسبة، أو تحويله من نمط إلى آخر بعد إضافة بعض الإكسسوارات واستبدال الأقمشة أو إعادة التنجيد وتجديد اللون”.

وتجذب ورشة المعلم رجب الشربيني أيضا أعدادا كبيرة من الراغبين في تحديث أثاث البيت القديم، ويقول الشربيني إن هناك “ميلا عاما لدى الناس للجوء إلى الحلول الأرخص، فمع الظروف الاقتصادية الصعبة، يفضل كثيرون إيجاد بدائل أقل تكلفة بدلا من شراء أثاث جديد، وهنا يأتي دورنا كورشة تجديد الأثاث القديم، إذ نوفر للناس حلا اقتصاديا وجذابا لتجديد منازلهم”.

قطع لها ذكريات خاصة

ويضيف، “يرغب بعض زبائني في تجديد أثاث المنزل بالكامل، بدلا من شراء منتجات جديدة، أما البعض الآخر فيطلب إعادة إحياء قطع نادرة أو قديمة، لها ذكريات خاصة، لذلك يحتفظون بها ويرفضون استبدالها بأخرى، ولكل منهم طلبات مختلفة نستطيع الوفاء بها قدر المستطاع والغالبية منهم بالطبع من أهالي المنطقة المحيطة أو من المترددين على السوق باعتباره المتخصص في مختلف أنواع الأثاث والنجارة”.

ويتابع الشربيني، “نقدم خدماتنا بخامات أصلية عالية الجودة، وهو ما لا تقدمه كثير من مصانع الأثاث الجديد، إذ إن المصانع الكبرى تُركز على تشطيب الأثاث بأعلى جودة في المظهر فقط، مع اللجوء إلى خامات رخيصة السعر، لتحقيق هامش ربح مرتفع للغاية، بينما نعتمد في ورشتنا على العكس تماما وهو استخدام خامات الأخشاب الطبيعية وليست المُصنعة، ويستطيع صاحب الأثاث المرور علينا يوميا للتأكد من ذلك بنفسه”.

ويوضح صاحب الورشة أن “غالبية البضائع المستخدمة في الأثاث القديم المتهالك هي أصلية وطبيعية وحالتها جيدة، ولا تحتاج إلا إلى إعادة ترميم ما فعله بها الزمن والاستخدام الخاطئ، وتكون حينئذ أقوى وأفضل كثيرا من الجديد، على الرغم من أن تكلفة تجديدها لا تزيد عن 25% فقط من سعر شراء أثاث جديد”.

أما سيد عبد الغني -أحد زبائن الورشة- فيقول بدوره “كنت مترددا في بداية الأمر في تجديد الأثاث القديم، ولكن بعد أن رأيت نتائج تجربة صديقي، قررت أن أجربها أيضا، والحقيقة أنها كانت قرارا رائعا، وتمكنت من توفير كثير من المال والحصول على أثاث جديد بمظهر رائع، ومنذ ذلك الوقت، وأنا أنصح الجميع بالتفكير في إعادة تجديد الأثاث القديم، بدلا من شراء جديد”.

قطع تحمل تاريخا وروحا

أما ليلى جابر (ربة منزل وإحدى زبائن الورشة) فتقول “أعشق الأثاث القديم وأعتبره فنا، وعندما قررت تجديد منزلي، اخترت إعادة تأهيل الأثاث القديم بدلا من شراء جديد، والآن لدي قطع فريدة وأصلية تحمل تاريخا وروحا، خاصة أنها تضفي لمسة فنية وتراثية على منزلي، وأنا ممتنة للحرفيين الذين ساعدوني في تحقيق ذلك”.

بدوره، يقول أستاذ علم الاجتماع وعميد كلية الآداب بجامعة الإسكندرية الدكتور هاني خميس إن كثيرا من المصريين “يحاولون التعايش والتكيف مع الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد بسبب نقص الدولار وارتفاع التضخم، وذلك عن طريق تغيير أنماط الاستهلاك طبقا لقدراتهم المادية، ومنها إعادة تدوير مقتنياتهم، ومن بينها قطع الأثاث القديمة، بدلا من شراء قطع جديدة في ظل استمرار موجة الغلاء وارتفاع نفقات المعيشة التي شملت مناحي الحياة كافة”.

ويؤكد خميس أن إعادة التدوير والتجديد لزيادة عمر الأثاث المنزلي تعتبر “تحايلا مشروعا” على الظروف ببدائل قليلة التكلفة، “تحرص عليه حاليا غالبية الأسر المصرية باختلاف طبقاتهم الاجتماعية، وليس فقط أصحاب الأجور المنخفضة، للحصول على احتياجاتهم، والمحافظة على مكانتهم الاجتماعية أيضا”.

ويلفت إلى أنه مع التطور أيضا، انتشرت صفحات متخصصة عبر منصات التواصل الاجتماعي لتقديم خدمات صيانة وتجديد وإصلاح الأثاث المنزلي القديم والموبيليا، وعرض صور لنماذج من الأعمال التي تنفذها قبل وبعد إجراء الترميم والتجديد.

ويختم بالقول إن تجديد الأثاث المستعمل يساعد على توفير كبير في المال للأفراد والعائلات، “ويمكّنهم من استغلاله في أمور أخرى، كما يساهم على الرواج الاقتصادي لأصحاب الحرف والفنيين المتخصصين بأعمال النجارة والدهانات، وهذا يعتبر جزءا من الحماية الاجتماعية والتعاون بين أفراد المجتمع”.

شاركها.
Exit mobile version