في العام 2010، قال الكاتب الأميركي نيكولاس كار المتخصص في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إنه لاحظ تراجع قدرته على التركيز وقراءة كتب طويلة بعمق. فبعد أن كان يستغرق في القراءة المتعمقة بشكل طبيعي، صارت قراءة بضع صفحات مهمة شاقة.

ويبدو أن هذا الشعور بدأ يغلب علينا جميعا، أكثر من أي وقت مضى، فلماذا تبدو قدراتنا على قراءة النصوص الطويلة في تراجع؟

هكذا غير الإنترنت كل شيء

في كتابه “السطحيون: ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا” (The Shallows: What the Internet Is Doing to Our Brains)، راح كار يبحث عن أسباب ما حدث له، ليكشف أن الإنترنت بعد أن أصبح يوفر كل شيء: من قراءة البريد، والبحث عن المعلومات، والتسوق، والبحث بين رفوف المكتبات، وإجراء العمليات المصرفية، صار القناة التي تمر منها معظم المعلومات التي تصل إلينا، استنتج الكاتب سريعا أن ما تغير هو طريقة التفكير ذاتها، فعقولنا -حتى عندما لا نكون على اتصال بالشبكة- تتوقع الحصول على المعلومات بالطريقة نفسها، “سيل حثيث من الجزيئات” كما يطلق عليه كار.

يتعلق الأمر أيضا بطبيعة القراءة عبر الشاشات، فمنذ ظهورها أتاحت القراءة عبر الإنترنت خيارات مثل النصوص الفائقة (ارتباط النص برابط إلكتروني آخر)، فارتبطت المعلومات في شكل شجرة، وغيّر ذلك في عادات القراءة وحمل ضمنا أسباب التشتت.

وأجرى باحثون بجامعة كارلتون في كندا عام 2005 دراسة عن أثر وجود النصوص الفائقة في النص على العملية المعرفية لدى القارئ، وكيف أن هذا التغير الجديد يشتت انتباهه بسبب تفكيره أثناء القراءة في الرابط الذي سيقوم بالضغط عليه، كما أن المقاطعة المستمرة تمنع القارئ من استيعاب النص بشكل متكامل.

على بساطة ما تبدو عليه، فإن مجرد مرورنا على رابط ما أثناء القراءة، وتوقفنا لبرهة لنسمح لقشرة الفص الجبهي في أدمغتنا أن تقرر ما إذا كان علينا النقر عليه أم لا، فإن تلك العملية السريعة جدا التي قد لا ندرك حدوثها تعيق الفهم والتذكر، خاصة مع تكرارها مرات متعددة، إذ يصبح دماغنا مجهدا.

ووفق ما يؤكده كار، فإن ما تغير ليس فقط أننا أصبحنا نقرأ من خلال الشاشات، بل تغيرت أيضا طريقة تفكيرنا مع تعدد الخيارات وتنوع المصادر التي تختلط بالنص المكتوب من صور وفيديوهات فتسببت في تشتتنا، وأفقدتنا القدرة على القراءة بعمق.

كما يؤكد المؤلف الأميركي أن الأمر يطالنا جميعا، “إذ نفقد قدرتنا على قراءة الكتب ونفقد معها إنسانيتنا”.

القراءة الطويلة إلى انقراض

من جانبه، يشير موقع “ساينس نورواي” إلى نتائج دراسة أجراها باحثون بجامعة أوسلو عام 2018 تؤكد أننا نشهد بداية نهاية القراءة الطويلة كما نعرفها، من خلال قياس مهارات القراءة لدى طلاب الجامعة منذ عام 200 وحتى عام 2018 تبين أن الطلاب يفقدون القدرة على قراءة نصوص طويلة ومعقدة، وأن عادات القراءة لديهم تغيرت بشكل ملحوظ بحيث يقرؤون مقتطفات قصيرة ويقرؤون عددا أقل من الكتب والنصوص الطويلة، ما يؤكده هذا الاستطلاع هو أن مهارات القراءة ظلت عند مستوى ثابت، وأن ما تغير أننا نقرأ اليوم بشكل مختلف عما مضى.

مع الاتصال الدائم بالإنترنت وتصفح الأجهزة، تزداد صعوبة تركيز الانتباه على معلومات أقل جاذبية أو تتطلب معالجة أبطأ مثل القراءة أو تحليل المعلومات أو الدراسة، يمكننا تخيل كيف تؤثر قراءة التغريدات وبوستات فيسبوك في قدرتنا على قراءة النصوص الأطول، فالمقاطعات المتكررة -من إشعارات وروابط وغيرها- تجعل من الأسهل قراءة قطع صغيرة من المعلومات بأعداد كبيرة بدلا من قراءة نص طويل واحد.

كما تتأثر قدرتنا على الانتباه بشكل عام لأسباب متعددة، منها النوم مثلا، وفق موقع “ذا كونفرزيشن”. إذ تقل جودة النوم لدى كثيرين بسبب تلك العادة المتمثلة في تصفح مواقع التواصل في الدقائق السابقة للنوم، فيتعرض دماغنا حينها للضوء الأزرق، الذي يمنع إنتاج هرمون الميلاتونين الذي يساعدنا في النوم، وهكذا نكون في الصباح التالي أقل قدرة على الانتباه.

الوصول إلى “الدماغ الهادئ”

ما نتعرض له عند التعامل مع الشاشات هو نشاط مكثف في أدمغتنا، وهو لا يقارن في الحقيقة بالنشاط الأقل عند قراءة الكتب مثلا. وكما يؤكد كار في كتابه، يمكن بالفعل أن تكون الكتب “مثبطة للحواس” كما يعتقد البعض، لكن هذا عينه هو ما يجعلها ممارسة مثمرة فكريا، إذ تسمح لنا بعزل أنفسنا عن مصادر الإلهاء وتهدئة وظائف حل المشكلات في الفص الأمامي من الدماغ، فتصبح تجربة القراءة شكلا من أشكال التفكير المتعمق، يؤكد كار هنا أنه عندما يتعلق الأمر باستثارة الخلايا العصبية فمن الخطأ أن نعتقد أن المزيد أفضل.

ترتبط نصائح الخبراء لزيادة قدراتنا على الانتباه وقراءة النصوص الطويلة بعمق، بزيادة القدرة على الانتباه في الأساس، والقدرة على مواجهة التشتت. ويلخص موقع “ذا كونفرزيشن” عددا من النصائح بينها:

  • تقليل وقت التعرض للشاشة والابتعاد عن الأجهزة في أوقات العمل أو الحاجة إلى التركيز.
  • ممارسة الرياضة لما لها من تأثير كبير في الصحة العقلية فضلا عن الصحة البدنية، فهي تدعم القدرة على الانتباه والتركيز وتجعلنا في مزاج أفضل بشكل عام.
  • تهيئة الأجواء المحيطة، واستخدم المنبه للالتزام بفترات التركيز، والفصل بينها بفترات راحة قصيرة، مع محاولة زيادة فترات التركيز تدريجيا.
  • تدوين الأفكار المشتتة قبل البدء في القراءة، ليمكن التركيز والانتباه.
  • التأكد من القراءة في جو مريح لتقليل إجهاد العين.
  • تحقيق التوازن بين القراءة عبر الشاشات (وخاصة الهاتف) وقراءة الكتب الورقية، وفق الغرض من القراءة، فالهاتف الذكي ليس وسيلة مناسبة لقراءة النصوص الطويلة.

أخيرا فإن الاستعراض السريع للنص، والبحث الحثيث عن المعلومة من خلال الكلمات المفتاحية لالتقاطها وحدها يحرمنا في الحقيقة من التأمل والفهم العميق، الذي يحدث عندما يعمل دماغنا بشكل طبيعي، لا نجد في القراءة السريعة والمتقطعة وقتا لإدراك الجمال وإطلاق الأفكار النقدية، والتعاطف مع الآخرين، أو إجمالا ما وصفه الكاتب الفرنسي مارسيل بروست بـ”جوهر القراءة”، وهو تجاوز حكمة المؤلف ليكتشف القارئ حكمته الخاصة.

يشير الكاتب الأميركي نيكولاس كار إلى أننا نفقد إنسانيتنا، بفقداننا القدرة على القراءة المتعمقة، وهو ما تؤكده أيضا ماريان وولف في كتابها “أيها القارئ عد إلى وطنك” (Reader Come Home)، إذ تشير إلى الخطر المتمثل في تلك اللامبالاة تجاه التفكير التأملي، وكيف أن الإنسان ينكر طبيعته الاستثنائية، إذ إننا في الحقيقة كائنات تأملية وتتمثل مهمتنا في إنقاذ الطبيعة الجوهرية للإنسان في الإبقاء على التفكير التأملي على قيد الحياة.

شاركها.
Exit mobile version