صنعت سهام أبو شعبان، في مخيم الزوايدة بغزة، الملوخية قبل عام، كما اعتادت دوما، لأنها -كما أوضحت- تعتبرها “تميمة حظ” وطبقا لا بد أن يكون على مائدة رمضان لدى العائلة.

وفي هذا العام، حيث يمر الغزيون بظروف مروعة ومختلفة تماما، أعدت سهام الطبق نفسه، لتعيد إحياء أمسية العام الماضي الجميلة في مخيم النازحين بالزوايدة، رغم انقلاب الحياة رأسا على عقب خلال أقل من عام.

بعد 6 أشهر من العدوان الإسرائيلي على غزة، تواصلت الجزيرة مع سهام، لتوثيق أثر الحرب عليها وعلى أسرتها.

العنوان: خيمة

كان التواصل مع سهام صعبا، بسبب انقطاع شبكات الاتصالات وتدهورها كثيرا منذ بداية الحرب.

في رمضان الماضي، رحبت بنا الطاهية الماهرة، البالغة من العمر (41 عاما)، في شقتها الأنيقة والمجهزة بعناية، في حين عنوانها الجديد هذا العام هو “خيمة” وسط آلاف الخيام للعائلات النازحة.

توجهنا للعثور على سهام، الأمر الذي استغرق بعض الوقت، مرة أخرى بسبب ضعف شبكة الإنترنت، وكانت تنتظرنا بفارغ الصبر على جانب الطريق لإرشادنا.

كان أول مشهد لسهام بمثابة صدمة بالنسبة لي. كان وجه المرأة التي كانت مفعمة بالحيوية يحمل الآن علامات المشقة: بشرة داكنة، وعلامات التعب، ونقص في الحيوية.

ضحكت سهام بسخرية عندما استشعرت ملاحظتي الصامتة “لقد تغيرت قليلا، أليس كذلك؟”.

احتضنتني والدتها مع تنهيدة مرهقة، وقالت “من لم يتغير في هذه الحرب يا عزيزتي؟ انظري إلى يديّ، إنهما أقسى من الحجارة”.

تعيش سهام وزوجها وأطفالها الثلاثة في خيمة مجاورة لتلك التي يعيش فيها والداها وشقيقاتها وشقيقها، متجمعين معا في منطقة مسيجة وسط جميع خيام النازحين.

Siham lifts the leaves out of the water by hand, squeezing out any excess water [Abdelhakim Abu Riash/Al Jazeera]

دخلنا أنا والمصور عبد الحكيم أبو رياش إلى خيمة صغيرة فيها أوانٍ مهترئة، وموقد مؤقت على الأرض، وعدة أوعية لملء المياه، ونار حطب، ومرحاض مؤقت مقسوم بستارة.

استقرت سهام على الأرض لالتقاط أوراق الملوخية من السيقان، مع الحرص على إزالة كل ورقة منها.

قالت “لقد ارتفع سعر الملوخية ارتفاعا كبيرا”، وأضافت “ارتفعت الأسعار خلال الحرب، وأصبحت الضروريات الآن لا يمكن تحملها. نحن ندفع 4 أضعاف ما كنا ندفعه في السابق”.

“تتذكرون العام الماضي، كان لدينا مائدة كبيرة مع كل تلك الأطباق.. مقابل 200 شيكل فقط (54 دولارا). كان ذلك في أيام الذروة يا مرام!” صرخت وهي تضحك مع والدتها.

إن جلوسهم على أرض الخيمة بعيد كل البعد عن الجلوس على مائدة طعامهم الأنيقة في المنزل -وهو المنزل الذي أصابته قذائف المدفعية واشتعلت فيه النيران- وفقا لما أخبرهم به جيرانهم الذين بقوا في الشمال.

أمان البيوت

بعد أن يتم قطف الملوخية يجب غسلها، وهي مهمة شاقة، حيث يجب جمع الماء في أحواض بلاستيكية من صهاريج التخزين الجماعية، لكن سهام تقوم بذلك، وتجلس القرفصاء لتغمر الأوراق في الماء للتأكد من نظافتها.

“أفتقد ماء الصنبور… والحوض الرخامي النظيف”، تتأمل سهام في فقدان وسائل الراحة الحديثة، ثم تحث عبد الحكيم على التأكد من أن الصور التي يلتقطها لها جيدة.

ترفع سهام الأوراق من الماء بيدها وتعصر أي ماء زائد. وتوضح قائلة “كنت أتركها تجف في الهواء، لكن هذا مستحيل الآن، الكثير من التراب”.

ما تفتقده سهام قبل كل شيء، كما تخبرنا، وهي تبدأ في تقطيع أوراق الملوخية بالمخرطة، هو الإحساس بالمنزل، دفئه وخصوصيته وألفته.

“المنزل هو الأمان.. أتوق إلى هدوء الروتين السابق بعيدا عن الفوضى”.

ونزحت سهام وعائلتها جنوبا من مدينة غزة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بعد أن تحملت ما يقارب من شهرين من القصف المتواصل لتبقى “صامدة” في منزلها.

“كنت أرفض فكرة مغادرة منزلي. كيف يمكنني التخلي عن كل ما عملت من أجله؟”.

“لكن مع تقدم القوات البرية الإسرائيلية واشتداد القصف، لم يكن أمامي خيار آخر. اضطررت إلى الفرار، كنت خائفة على أطفالي”.

توجهت عائلة أبو شعبان أولا إلى النصيرات في وسط غزة، حيث أقاموا في منزل أحد أقاربهم. وعندما تم اجتياح النصيرات، قرروا الإخلاء باتجاه رفح، ولكن مع تهديدات إسرائيل باجتياح رفح أيضا، انتهى بهم المطاف في الزوايدة.

“لا توجد خيارات أخرى”، تقول سهام وهي تقطع بتفانٍ شديد.

ابتعدت والدة سهام لتساعد ابنتها الأخرى في إعداد مرقة الدجاج عن طريق طهي الدجاج الطازج بالتوابل على نار هادئة، وكانت تنظر بين الحين والآخر لتتأكد من أن الجميع في مهمة الطهي بسلاسة.

سهام طاهية طموحة كانت تعمل في مؤسسة نسائية لكن الحرب جردتها من بعض المتعة في عملها.

“كان الطبخ شغفي في السابق، وكنت أفتخر بكل التفاصيل. حتى إنه كان لدي مطبخان منفصلان، أحدهما للتحضير والآخر للطهي”.

“يجب أن أخبركم، لقد جعلتني الحرب أكره الطهي والمطبخ”.

“مطبخ بدون مياه جارية للتنظيف، وهذه الأواني البالية غير الكافية التي اشتريناها مستعملة، والطهي على نار الحطب مع السخام الذي يلطخ أوانينا.

“هذه هي المرة الأولى منذ 6 أشهر التي نتناول فيها الدجاج”، تعلق سهام وهي تنتشل قطع الدجاج من المرق بعناية.

“إنها باهظة الثمن. نحن 20 شخصا، سنحتاج إلى عدة دجاجات. إن الحصول على 5 دجاجات سيكلف 400 شيكل (108 دولارات)، ناهيك عن باقي الأصناف مثل الأرز وزيت الطهي”، تشرح سهام وهي تشير إلى المكونات التي قدمتها الجزيرة.

كان والدا سهام يساعدان في إعداد الطعام مرة أخرى، حيث كان والدها أبو جمعة البالغ من العمر (65 عاما) يتولى المهمة نفسها مرة أخرى: إعداد السلطة الغزاوية التقليدية باستخدام الهاون والمدقة.

يقول أبو جمعة بينما كان يقطع الطماطم “اليوم، يعتبر طبق السلطة الذي كان في السابق طبقا أساسيا على مائدتنا من الكماليات بسبب سعره الباهظ”. “يكلف هذا الطبق وحده 50 شيكلا (14 دولارا) الآن”.

مع اقتراب غروب الشمس، يصبح إيقاع تحضير الإفطار أسرع، وتندفع سهام وأختها إلى الخارج لحشو بعض القطايف بخليط الجوز المطحون الحلو سريعا، لتقوم بقليها ونقعها في الشراب من أجل التحلية.

كان الناس يتدافعون في الأرجاء ويضعون ما لديهم من أطباق وأوانٍ على قماش القنب الموضوع على الأرض، وتولد البهجة في لحظة، وتستمتع العائلة بتجمع أفرادها في مكان واحد.

وبالعودة إلى خيمة الطهي، كانت سهام راكعة بجانب الموقد لإعداد الملوخية، في لحظة شبه غامضة وهي تنزل العجينة ببطء في المرق المغلي وتتفقد قوامها، وهو أهم شيء في الملوخية.

وبجانبها، كانت والدتها تهتم بطبخ الأرز الذي كان جاهزا لتزيينه ببعض المكسرات والزبيب في اللحظة الأخيرة.

بعد التأكد من اتساق الملوخية بشكل آمن، يمرر لها والد سهام الثوم المهروس الذي أعده من أجل “الطشة”، وهو رذاذ الثوم المقلي المعطر الذي يرفع وعاء الملوخية المتناسق بشكل مثالي.

تمتلئ خيمة المطبخ بأفراد العائلة الذين يتطلعون إلى معرفة كيف يمكنهم المساعدة مع اقتراب موعد الإفطار.

كانت رائحة الثوم المقلي تملأ الخيمة، مما جعل نداء البطون يعلو وتسخن الأشياء أكثر فأكثر، ثم كان صوت الطشة التي تضرب الملوخية إشارة إلى أن وقت الذهاب إلى “المائدة” قد حان.

آمين

تقول سهام وهي تغرف الملوخية في الأطباق “عادة ما نفطر معا في الخيمة الكبيرة ونشكر الله على كل شيء”.

“جميعنا نازحون هنا، وتحملنا خسائر كبيرة خلال الحرب. لقد شكلت همومنا وآلامنا المشتركة رابطا قويا بيننا. لقد ذقنا جميعا مرارة الحرب والنزوح”.

حرصت سهام على أن يحصل كل شخص على حصته من الطعام، ووزعت سهام الأطباق بجدية، بينما كان أذان المغرب يعلن بداية الإفطار.

كان دعاؤها، الذي ردده جميع أفراد الأسرة النازحة في الخيمة الكبيرة، نداء صادقا من القلب “يا رب، ضع حدا لهذه الحرب وأعدنا إلى بيوتنا وحياتنا سالمين.. آمين”.

شاركها.
Exit mobile version