في السنوات الأخيرة، انتشر استخدام الذهب ضمن مكونات الأطعمة والمشروبات بشكل واسع في المطاعم الفاخرة حول العالم. لم يعد غريبا رؤية القهوة المغطاة بطبقة ذهبية أو الحلوى وقطع اللحوم المزينة بالذهب. ومع مشاركة المشاهير تجاربهم مع هذه الأطباق على منصات التواصل الاجتماعي، برز التساؤل: هل يحمل تناول الذهب فوائد صحية حقيقية أم أنه مجرد عنصر تزييني لجذب الانتباه والإبهار؟
تناول الذهب عبر التاريخ.. تقديس وترف
تاريخيا، استخدم الذهب منذ العصور القديمة في العديد من الثقافات لأغراض طبية، حيث اعتقد البعض أنه يمتلك خصائص شفائية.
في كتابه “إيل ميليون” يؤكد المستكشف الإيطالي ماركو بولو أن أول دليل على استخدام الذهب للطعام يعود إلى مصر القديمة في الألفية الثانية قبل الميلاد. إذ كان هدف استخدامه أساسا تعبديا، وكان المصريون القدماء يرونه طعاما مقدسا ووسيلة للتقرب من آلهتهم.
في اليابان، يعود استخدام الذهب في الطعام إلى العصور القديمة، حيث أصبح أحد العناصر التي تُستخدم لتزيين الأطعمة والمشروبات الفاخرة، مثل الساكي (مشروب الأرز الكحولي الياباني) الذي كان يُزخرف برقائق الذهب. يُعتقد أن الذهب كان يُستخدم في الطقوس الغذائية كجزء من ثقافة تقدر الفخامة والجمال الروحي، حيث كان يُنظر إليه كمعدن نادر وثمين يعزز من المعنى الرمزي للطعام.
كما أضيف الذهب إلى المشروبات في طقوس حفل الشاي الياباني (تشادوجو) وهو تقليد قديم يُظهر التقدير للجمال البسيط في الطبيعة.
وبالانتقال إلى أوروبا، ظهر الذهب قديما على موائد النبلاء، وصل الذهب الصالح للأكل إلى أوروبا في العصور الوسطى، حيث كان يُستخدم لتزيين الأطباق في أبهى الولائم. لا يزال حفل زفاف فيولانتي ابنة جيان غاليزو فيسكونتي في عام 1386 موثقا في كتب التاريخ. أسعد هذا الأمير ضيوفه بأسماك الحفش، والبط، والطيور البرية، التي كانت مغطاة بالكامل بورقة ذهبية رقيقة جدا.
كان هذا الزفاف حدثا مهما من الناحية السياسية والاجتماعية، إذ كان يهدف إلى تعزيز التحالفات بين العائلات النبيلة في إيطاليا. لذلك أنفق الدوق على الحفل الكثير ليعكس الثراء والنفوذ الكبير للأسرة الحاكمة.
كما تم تقديم طعام مزخرف بالذهب في حفل تكريم أمير بيسينانو في فينيسيا عام 1561، تم استخدام الذهب ليس فقط على الأطعمة الرئيسية مثل اللحوم، بل أيضا على الخبز والمحار. كانت هذه العادة تعكس تقديرا خاصا للضيوف واهتماما بالغا بالتفاصيل والترف.
وفي دير سانتا ماريا سيلستي في فينيسيا، هناك وثائق تثبت أن الراهبات كن يستخدمن الذهب الصالح للأكل في إعداد الحلويات التقليدية مثل “بوسولاي”، وهو نوع من البسكويت الذي كان يعجن بالذهب في مناسبات خاصة.
قيود استخدام الذهب في الطعام
في بعض الفترات التاريخية، تم فرض قيود على استخدام الذهب في الطعام في بعض الدول الأوروبية. في مدينة بادوفا الإيطالية، كان استخدام الذهب في الطعام أمرا شائعا بين النبلاء، ولكن في القرن الـ16، فرضت السلطات المحلية قيودا على استخدام الذهب في المأكولات. كان يمنع في حفلات الزفاف تقديم أكثر من طبقين مغطين بالذهب. كانت هذه القيود تهدف إلى الحد من الإفراط في استخدام المواد الثمينة في الطعام ولتجنب إسراف الطبقات الأرستقراطية.
في الفترات التالية، على الرغم من تراجع استخدام الذهب في الأطعمة اليومية، فإن التقليد استمر في بعض الأوساط الاجتماعية الراقية، حيث يُستخدم الذهب الآن بشكل شائع في تزيين الحلويات الفاخرة والكوكتيلات في المطاعم الفاخرة.
عودة الذهب
بعد القرن الـ17، كان هناك قليل من الأدلة على استخدام الذهب في الطعام. انطفأ لمعانه حتى اختفى تقريبا من تقاليد الطهو. وينسب إلى غوالتييرو ماركيسي أنه أعاده إلى الموائد، في عام 1981 ابتكر الشيف الكبير طبق الريزوتو بالزعفران مع ورقة ذهبية. مع هذا الطبق، استعاد الذهب الصالح للأكل مكانته كمكون فاخر في تزيين الطعام وأكواب القهوة والمشروبات غالية الثمن.
ثراء وشفاء.. أين الحقيقة؟
نسب الكثيرون للذهب قوى علاجية على مر العصور. كان الأميركيون الأصليون مقتنعين بأنه من خلال تناوله يكتسبون القوة التي تسمح لهم برفع الأجسام. وعلى الرغم من أن النتائج كانت أقل تأثيرا، فإن الكيميائيين الذين بدؤوا في القرن الـ15 العمل على الأدوية المستندة إلى الذهب اعتبروا أنه دواء لعلاج العديد من الأمراض.
في القرن الـ16 في أوروبا، بدأت عادة تناول حلوى مغطاة بورقة ذهبية في نهاية الوجبة. كان يُعتبر علاجا آمنا ضد جميع أنواع أمراض القلب. كما بدأ الصيادلة في ميلانو في نفس القرن بتغطية الأدوية بورقة ذهبية لتغطية طعمها.
وإذا كان استخدام الذهب في الطعام يعكس محاولات طبقة النبلاء في التميز عن عامة الشعب، فإن ادعاءات أنه علاج يشفي من بعض الأمراض أو يرفع المناعة ليس لها أساس علمي موثوق، وإنما هي معتقدات شعبية لا صحة لها.
أما اليوم، فيضاف الذهب الصالح للأكل، والذي يعرف برقم التصنيف الغذائي “E175″، إلى بعض الأطعمة والحلويات والمشروبات، ويعتبر آمنا بجرعات صغيرة وفقا للمعايير الدولية.
السلامة الصحية للذهب عند تناوله
وفقا للدراسات الحديثة، فإن الذهب المستخدم في الأطعمة يكون عادة من عيار 22-24 قيراطا لضمان نقائه وخلوه من أي مواد مضافة قد تكون ضارة بالصحة. ويصنف الذهب من المواد غير القابلة للتفاعل مع الجسم البشري، حيث يمر عبر الجهاز الهضمي دون أن يُمتص في الأمعاء أو يدخل إلى الدورة الدموية، مما يجعله آمنا عند تناوله بكميات صغيرة.
تعتبر منظمة الصحة العالمية أن الذهب من المواد غير السامة، لكنها لا تعترف بأي فوائد صحية أو غذائية له، حيث يُضاف فقط كعنصر جمالي في الطعام.
وتؤكد الأبحاث المنشورة على موقع “معهد الصحة الوطني” أن الذهب النقي المستخدم في الطعام يمر بالجسم دون تأثيرات جانبية تذكر، ولا يُمتص أو يتفاعل مع الأنسجة الحيوية.
ورغم أنه لم تُثبت فوائد صحية لتناول الذهب في الطعام، فإن بعض الدراسات اهتمت باستخدام جزيئات الذهب النانوية في المجال الطبي، حيث يمكن أن تكون لها تطبيقات في علاج بعض الأمراض. جامعة كولومبيا البريطانية (University of British Columbia) نشرت دراسة في عام 2022 حول استخدام جزيئات الذهب النانوية لتحفيز الجهاز المناعي في علاج السرطان، لكنها أشارت إلى أن هذا النوع من الذهب يختلف كليا عن الذهب المستخدم في الأطعمة.
كما لا توجد أدلة تشير إلى أن تناول الذهب بكميات صغيرة يشكل خطرا صحيا، إلا إن استخدام الذهب بكميات كبيرة قد يكون ضارا، حيث يمكن أن يسبب تراكمه في الجسم مع مرور الوقت تأثيرات سلبية على الكلى والكبد. لذا يُنصح بالاستهلاك المحدود والاحترازي للذهب في الطعام.